ما برحت قاعدة “تمنهنت” الجوية في سبها جنوبي غرب ليبيا بيد أنصار العقيد القذافي منذ أكثر من أسبوع، بالترافق مع حراك مسلح مناهض للنظام الليبي الجديد في منطقة ورشفانة، معقل إحدى أكبر القبائل الليبية، غربي العاصمة طرابلس، التي عادت للهدوء بعد أن اسفرت اشتباكاتها واشتباكات سبها عن سقوط أكثر من 600 قتيل وجريح.
ويبدو أن سبها خرجت تماماً عن سيطرة النظام الذي وضعه الناتو وحلفاؤه في الحكم حتى يدعو قائد أركان الجيش الفرنسي إدوار غييو لتدخل دولي مباشر في جنوب ليبيا لكي لا تتحول بزعمه إلى معقل جديد للـ”إرهاب”، في محاولة للإيحاء بأن أنصار القذافي يقفون على قدم المساواة مع الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي انفلتت من عقالها بعد ضرب الناتو للمنظومة الأمنية الأفريقية الفعالة التي كانت ليبيا عمادها في عهد القذافي، مما خلق أفضل الظروف للولايات المتحدة وفرنسا لتبرير تدخلهما وتواجدهما العسكري في منطقة دول الساحل والصحراء بذريعة محاربة الإرهاب، تماماً كما جرى في مالي وأفريقيا الوسطى.
ولم تكن مصادفة أن تعلن “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية لقارة أفريقيا التي تأسست في العام 2006) عن تمارين عسكرية مشتركة مع اربع عشرة دولة أفريقية، وأن ترسل قوات عسكرية أمريكية لأربع دول أفريقية، في الأسابيع التي تلت العدوان على ليبيا. وقد أظهرت وثائق “ويكيليكس” المتسربة من سفارات الولايات المتحدة في شمال أفريقيا أن الولايات المتحدة كانت تعتبر ليبيا العائق والمعارض الأهم لتمدد النفوذ العسكري الأمريكي في القارة الأفريقية.
المهم أن التدخل العسكري الغربي المباشر يجلب دوماً المزيد من الذرائع لتدخلات جديدة، والجماعات الإرهابية المسلحة التي أمن لها تدخل الناتو ملاذاً وجيوباً آمنة في ليبيا، باتت خير ذريعة لفرض التدخل والوجود العسكري الغربي انطلاقاً من حدود ليبيا مع مصر والجزائر خاصة أن تلك الجماعات عابرة للحدود، وأن الإرهاب الذي يستهدف مصر والجزائر وتونس كثيراً ما ينطلق من ليبيا أو يجد ملاذات آمنة فيها بمقدار ما لم تعد في ليبيا دولة مركزية، ولا ننسى آلاف الإرهابيين المتدفقين من ليبيا باتجاه سورية طبعاً. لكن العبرة هي أن إطلاق وحش الإرهاب في أفريقيا عبر البوابة الليبية جاء لجعل التدخل الغربي في القارة مطلباً جماهيريا، أو أهون الشرين على الأقل في أعين الناس…
وإذا وضعنا جانباً النفط والغاز واليورانيوم وأكبر حوض للمياه الجوفية في العالم، فإن ميزة ليبيا الجغرافية السياسية منذ القدم تبقى موقعها مما جعلها مدخل أفريقيا وبالتالي إما موطئ قدم لنشر النفوذ الأجنبي فيها أو منطلقاً لنهوضها وتحررها.
وقد شكلت الاستثمارات الليبية في القارة الإفريقية عنصراً رئيسياً مع الاستثمارات الصينية في أفول النفوذ الأمريكي في القارة، وقد تركزت عائدات النفط الليبية على مشاريع استثمارية إستراتيجية مثل تأسيس شبكة اتصالات بالأقمار الصناعية تحرر الدول الأفريقية من التبعية للأقمار الصناعية الأوروبية والأمريكية، ومثل الإسهامات الليبية الضخمة في مشروع تأسيس البنك الأفريقي للتنمية وصندوق النقد الأفريقي كتحدٍ مباشرٍ لهيمنة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تمارس الإمبريالية هيمنتها عبرها.
لذا كان لا بد من شحذ المبررات لتدمير ليبيا وتقويض مشروعها الأفريقي، بنفس الطريقة التي تم فيها اختراع ذرائع أسلحة الدمار الشامل وغيرها في العراق، وإذا كانت نقطة ضعف مشروع ليبيا الأفريقي أنه لم يتمتع بحاضنة عربية تحميه وتذود عنه كما كانت الحال في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، فإن ذلك لا يغير من حقيقة كونه مصدر إزعاجٍ للإمبريالية والصهيونية كان لا بد من التخلص منه، ناهيك عن مشروع تفكيك الدول والجيوش العربية، ومشروع وضع اليد على ثروات ليبيا نفسها، وضرورة التحكم بعائدات تلك الثروات بنفس الطريقة التي يتحكم فيها الغرب بإنفاق عائدات البترودولار الخليجي.
وقد صدر كتاب مهم وموثق جيداً للدكتور ماكسيميليان فورته من جامعة كونكورديا في كندا في 28/11/2012 يحمل عنوان “التسكع باتجاه سرت: حرب الناتو على ليبيا وأفريقيا” يفند بدقة، فيما يفنده، كل ذرائع العدوان على ليبيا، وعلى رأسها ذريعة “التدخل الإنساني”، لتحقيق الأهداف الإمبريالية الجغرافية السياسية المذكورة أعلاه. وكان مما ذكره ذلك الكتاب استناداً للأدلة والمراجع التفصيلية:
1) لم يكن هناك قصف جوي للمحتجين في ليبيا، كما أقر رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية روبرت غيتس،
2) لم تنفذ القوات الحكومية الليبية أية مجازر في المدن والقرى التي استرجعتها من المتمردين،
3) في بداية الأزمة، قام المحتجون بحرق مراكز الشرطة، واقتحام المجمعات الأمنية، ومهاجمة المكاتب الحكومية وحرق السيارات، وهو ما تم الرد عليه بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والرصاص المطاطي،تماماً كما يحدث في الغرب،
4) فقط عندما شرع المحتجون باقتحام ثكنات الجيش الليبي في بنغازي وسرقة أسلحتها واستخدامها ضد القوات الحكومية بدأت الأمور تخرج عن السيطرة،
5) وقد استخدمت ذريعة “المرتزق الأفريقي” لتبرير التدخل الأجنبي مما تبين أنه عارٍ تماماً عن الصحة، ومما أدى لعمليات انتقامية واسعة النطاق ضد الأفارقة المقيمين في ليبيا وضد الليبيين سود البشرة، ومنه حرق 50 مهاجر أفريقي في البيضا،
6) بالمقابل، أكد تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في أيلول 2011 أن المتمردين قاموا بعمليات تنكيل واسعة النطاق في البيضا ودرنة ومصراته وبنغازي وغيرها من المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم.
وإذا كان إخواننا في المغرب العربي أكثر وعياً بحقيقة ما جرى في ليبيا، فإننا في المشرق يجب أن نعيد النظر، وأن ندرك أن من يقاتلون اليوم في سبها وغيرها من أنصار القذافي يستحقون كل الدعم والتأييد لأن معركة استرجاع ليبيا هي تتمة لمعركة استرجاع ريف حلب وإدلب والرقة..
أمجاد العرب