أشجان التعريب والترجمة

تعني الترجمة، في المعنى الاصطلاحي المتعارف عليه، نقل نص أو قول من لغة إلى أخرى. ونقول في المعتاد، عن نص أو كلام ينقل إلى لغة الضاد من لغة غير اللغة العربية، إنه تعريب. والرغبة في الترجمة تنبع من الحاجة إلى التواصل بين الأفراد والجماعات، كما تأتي من الحرص على توسيع المدارك المعرفية، بحيث يكون في الإمكان أن نجعل بين يدي المتعلم معارف وأنباء وحكايات تمت صياغتها في غير لغة الشخص الذي تتم الترجمة من أجله. لا يملك فكر ما أو معرفة ما حظوظ الانتشار إلا بالقدر الذي يتاح فيه نقل ذلك الفكر أو تلك المعرفة إلى لغة غير تلك التي تمت الكتابة بها أو كان ابتكار المعرفة فيها وبواسطتها. وغني عن البيان أنه لا توجد اليوم أمة أو حضارة في حال من الاستغناء التام عن الاطلاع على ما يتم إنتاجه في لغة أخرى. نعم، هنالك تفاوت في تلك الحاجة؛ وبموجب معطيات تاريخية وتكنولوجية ومعرفية تأتي اللغة الإنجليزية في طليعة الدول التي تقل حاجتها إلى ذلك بالنظر إلى أن مجالات كاملة من أصناف المعرفة تتم داخل الحقل اللغوي الإنجليزي. غير أن واقع الحال ينبئنا، من جهة أخرى، أن الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا تأتي في مقدمة الدول التي تشهد حركية هائلة في مجال الترجمة إلى الإنجليزية من لغات أخرى كثيرة، يتبعها، من الناحية الإحصائية، ما يتم نقله إلى اللغة الإسبانية من دول أميركا اللاتينية الناطقة بها (وهي سواد تلك الدول كما نعلم)، فضلا عن إسبانيا ذاتها. أما الشأن في اللغة العربية فآخر، والحال فيه يغني عن السؤال، وقد يكفي أن نذكر في هذا الصدد أن منظمة اليونيسكو تعتبر كم النصوص المنقولة إلى لغة بلد من البلدان أحد المؤشرات المهمة التي تؤخذ في تصنيف حال المعرفة والثقافة في دولة من الدول. وعلى كل، فلست بصدد القيام بعملية جرد وإحصاء، وإنما هي أمثلة أسوقها للتدليل على فكرة أو، بالأحرى، تمهيدا لبسط قضية الترجمة والتعريب وأشجانهما في عالمنا العربي.
غير أنني، سعيا لمزيد توضيح تمهيدي لما أريد القول فيه، أود أن أنبه إلى أمرين من جملة أمور كثيرة أو إلى التذكير بها على كل.
الأمر الأول هو أن الترجمة في مجالات الإبداع الأدبي وفي حقول المعرفة الإنسانية (نسبة إلى العلوم الإنسانية – تمييزا لها عن العلوم الدقيقة) تجعل المترجم في حال تضطره إلى المقابلة بين اللغة التي ينقل منها واللغة الأخرى التي ينقل إليها – وليس هذا القول تقريرا لبديهية أو شرحا لما كان بينا بذاته، بل إن الشأن في العملية عكس ما يغيب عن الكثيرين، بل إنه ليس يدركه إلا من سعى إلى الترجمة وجابه جملة المشكلات العسيرة التي تطرحها عملية، لا يكفي فيها أن يكون المرء حسن المعرفة باللغتين (المنقول منها والمنقول إليها)، لا بل إن الصعوبة تعظم في الواقع بالقدر الذي يرتفع فيه قدر المعرفة عند المترجم من جهات النحو والصرف والبلاغة والحضارة التي تنتمي إليها هذه اللغة أو تلك. وأود أن أكتفي في هذا الصدد بمثالين اثنين من ثقافتنا العربية الإسلامية. من بين الكتب الأساسية التي تم نقلها في بيت الحكمة إلى اللغة العربية في زمان الخليفة المأمون، نذكر كتاب أرسطو في الأخلاق («الأخلاق النيقوماخية» – نسبة إلى نيقوماخوس ابن أرسطو الذي دبج الكتاب من أجله)، وهو الكتاب الذي كان له في تاريخ الفكر الأخلاقي في الإسلام ما يعرفه الدارسون. وما يعنيني، تحديدا، هو ما يلي: يأتي أرسطو في الكتاب، من أجل التدليل على الفكرة التي يريد بسطها، بمثال المسرح، والممثل، والمشاهد والموقع الذي يكون لكل منهما. غير أن المشكل هو أن إسحق ابن حنين، شأنه في ذلك شأن كل أفراد الثقافة التي ينتمي إليها، كان يجهل المسرح ودلالاته ومكوناته كلها، ومن ثم فالألفاظ المتداولة عندنا اليوم (الممثل، المسرح، المسرحية، المتفرج…) كانت كلها غير ذات معنى بالنسبة له. كل ما كان في وسع إسحق ابن حنين أن يفعل هو أن يجتهد في الاشتقاق من فعل رأى، (فالمشاهد هو الرائي، والمسرح هو مكان الرؤية، والممثل هو المرئي…). لك، أيها القارئ الكريم، أن تقدر العسر الذي عاناه الرجل في نقل مثل يريد الاحتجاج به. لقد كان الأمر متعلقا بتقابل بين اللغة العربية (المنقول إليها) واللغة المنقول منها (اليونانية بتوسط لغة ثالثة هي السريانية). والمثال أجده عند رفاعة الطهطاوي (إمام البعثة العلمية إلى فرنسا، الشاهد على ثورة 1830، الراغب في تدوين رحلته سعيا لإفادة أمته والدفع بها إلى معرفة أسباب تقدم الفرنسيين في مقابل ضعف العرب إجمالا). إنك إذ تطالع «تخليص الإبريز في رحلة باريز» (وهذا هو عنوان رحلة الطهطاوي)، فأنت تلمس العسر الذي كان الفقيه العربي يجده في التعبير عن معان ومضامين غير معلومة في الثقافة التي ينتمي إليها ويريد أن ينقل إلى اللغة التي تعبر عنها تجربة ثقافة أخرى مغايرة (على سبيل المثال: لا يجد لفظا عربيا لكلمة «الجريدة» أو «الصحيفة»، ولا يقع على لفظ عربي في معنى «الجمهورية» و«الجمهوريين» كما هو اليوم متداول في اللغة العربية، فالطهطاوي ينعته بـ«الحريين» نسبة إلى الحرية التي كانوا يرفعون شعارها). والفائدة عندي تكمن في جملة واحدة، لا يتسع المجال اليوم لبسط القول فيها مع أهميتها القصوى: إن الترجمة بالنسبة للمترجم إلى اللغة العربية غير التعريب.
الأمر الثاني، وهو وثيق الصلة بالأول، هو أن الشأن في الترجمة لا يقوم فقط في التقابل بين منظومتين فكريتين أو حضاريتين متمايزتين فحسب، بل إنه يتصل بالتقابل بين بنيتين لغويتين، لكل بنية لغوية منطقها الذاتي، ونظامها الذي لا يدرك إلا في حدود العناصر التي تكون النظام فتكسبه الدلالة، وذاك ما نفيده من الدرس اللساني الحديث.
“الشرق الاوسط”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *