اليسار التونسي تيار غارق في العزلة والطوباوية الحالمة

بدا ترشيح الزعيم اليساري والناطق الرسمي باسم الائتلاف الحزبي اليساري (الجبهة الشعبية) حمة الهمامي للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني المقبل بمثابة “عودة” الروح لليسار التونسي بعد عقود من النضال الهامشي العقيم لم تخل من انتهازية وانهزامية جرّت “الرفاق” إلى أزمات تنظيمية وسياسية ألقت بهم خارج دائرة المعارضة القوية البناءة.
على الرغم من مسيرة تاريخ طويل من النضال الشاق في مجتمع عربي مسلم يتوجّس من “الشيوعية الماركسية اللينينية” لم تتمكن حركات اليسار التونسي التي تناسلت منذ الستينات من القرن الماضي من أن تتحول إلى قوة سياسية معارضة ذات برامج واضحة تحظى بتأييد التونسيين أو حتى جزء من التونسيين التواقين للانفتاح والحداثة والرافضين لأصوات الانغلاق والتعصب.
لا أحد من السياسيين بإمكانه أن يشكّك في نضال اليساريين ولا أن يزايد عليهم فقد تحمّلوا من الأذى الكثير واستماتوا في الدفاع عن مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم خلال نظامي الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011) بل وكانت لهم إسهامات في تاريخ الحركة الوطنية التي قادت الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي لتونس (1881-1956).
غير أن مسار اليسار التونسي تنازعته روح من الانتهازية والانهزامية وأجهضت مشروعه السياسي والتنموي إيديولوجيا مغلقة غارقة في الطوباوية الحالمة دون رؤية واضحة تنبني على تشخيص تضاريس المجتمع التونسي وثقافته، ذلك المجتمع الميال إلى الليبرالية والبراغماتية السياسية.
نشأة اليسار التونسي
من مفارقات التاريخ التونسي أن اليسار التونسي بدأ نشاطه في تونس منذ العشرينات من القرن الماضي أي قبل تشكّل الحركة الوطنية وقبل تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد على يد الزعيم الحبيب بورقيبة عام 1934.
تكوّنت أولى خلايا الحزب الشيوعي التونسي في 18 ديسمبر 1921 ولكن باعتبارها جناحا للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية وضمت نخبة من المثقفين ثقافة غربية معادية للثقافة المحلية التي تطغى عليها المسحة الدينية شأن الثقافة العربية في تلك الحقبة حيث يهيمن رجال الدين على مفاصل المجتمع والدولة ويقودون اتجاهات رأي عام غارق في الجهل والأمية والفقر.
لم تقع تونسة الحزب إلا عام 1939 لما اقتنع الشيوعيون بأن النضال من أجل الحرية يستوجب تشكيل حزب سياسي تونسي يدافع عن حقوق التونسيين وفق أدبيات الحركة الشيوعية المرتبطة عضويا آنذاك بالاتحاد السوفييتي والمعادية للإمبريالية الأميركية.
لكن نشاط الحزب ظل محدودا ولم يتمكن من اختراق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع التونسي وظل عبارة عن مجموعة من “المنبوذين” الذين يبشّرون بثورة البروليتاريا في مجتمع لم يتبلور بعد طبقيا ولا توجد به بروليتاريا أصلا بالمعنى الماركسي وكل ما يوجد به طبقة أرستقراطية مدنية متكوّنة من كبار المزارعين والتجار ورجال الدين وطبقة من الفقراء بلا وعي طبقي.
زاد في عزلة الحزب الشيوعي التونسي موقفه من الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية حيث رفض تبني مطلب الاستقلال بل تبنى الائتلاف والاتحاد بين تونس وفرنسا بقيادة الحزب الشيوعي الفرنسي في وقت كان فيه غالبية التونسيين يناصرون الحركة الوطنية بقيادة الحزب الحر الدستوري ويرون فيه قوة سياسية تعمل على تحقيق مطالبهم وفي مقدّمتها استقلال تونس.
نقطة أخرى باعدت بين الشيوعيين والمجتمع التونسي المشدود آنذاك إلى القضية الفلسطينية لمّا وافقوا على قرار التقسيم بعد قيام “دولة اسرائيل” وبدا اليسار التونسي يغرد خارج الهموم الوطنية والقومية فانفضت من حوله النخبة الفكرية والسياسية.
فيما كان اليسار التونسي يعيش حالة من الشلل السياسي والاجتماعي وممزقا بين أبجديات النضال الوطني التي تفترض التفاعل الإيجابي مع الثقافة المحلية وبين مبادئه الشيوعية التي تشده إلى فكرة الأممية كان الوطنيون التونسيون يجوبون البلاد ويتّصلون بشيوخ القبائل وشيوخ الطرق الدينية والمواطنين العاديين ويحثونهم على النضال الوطني من أجل “تونس المستقلة”.
رغم التحولات الجيوسياسية التي بدأ يشهدها العالم منذ الأربعينات من القرن الماضي تمسّك اليسار التونسي بمظلة الاتحاد السوفييتي مقدما فكرة “الأممية” على “فكرة الوطنية” في حالة انسلاخ مقيتة عن الهموم التي تشغل التونسيين وخاصة النخب الفكرية الحاملة لثقافة الحداثة بعد أن أنهت تعليمها في الجامعات الفرنسية وتعلقت بقيم ثورة عاصمة الأنوار وبمفهوم “الدولة الأمة”.
أخطاء الحركات اليسارية
في الوقت الذي كان فيه الوطنيّون يتغلغلون في المدن والبلدات والقرى ويشحذون همم الناس، بمن فيهم العمّال، متّخذين من الحس الوطني والولاء لتونس رهانا لبناء قوة سياسية واجتماعية وثقافية تنسف مقومات الهياكل التقليدية كان الشيوعيون التونسيون يراهنون على طبقة عاملة جنينية لم يتشكل لديها بعد الوعي الطبقي بالمفهوم الماركسي.
ويمثل استعداء الثقافة القائمة التي هي بالتأكيد ثقافة تقليدية ذات مسحة دينية دون محاولة فهمها وإصلاحها من داخل بناها الفكرية وأطرها الاجتماعية أحد أهم أخطاء الحركات اليسارية التي ستشهدها تونس خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي حيث لم يتمكن الرفاق من التخلص من “عقدة” الثقافة العربية الإسلامية.        
إزاء الفشل السياسي لم يجد الشيوعيون التونسيون خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي من حل سوى الانخراط في العمل النقابي باعتباره الأقرب لأفكارهم وأطروحاتهم غير أن الحركة النقابية التونسية التي أسسها المناضل محمد علي الحامي عام 1924 كانت هي الأخرى حركة مشدودة لفكرة الوطنية التونسية وغير متحمسة لفكرة الأممية الشيوعية.
حكم الشيوعيون التونسيون على أنفسهم بالفشل والعزلة والتقوقع واستمر وضعهم كذلك إلى أن تأسست حركة “آفاق” اليسارية عام 1963 بباريس؛ وهي حركة حاولت تطوير نشاط اليسار من خلال تبنيها لـ”الاشتراكية والديمقراطية” وبدت أول فصيل يساري يجاهر بالديمقراطية بعد أن كانت مختلف أدبيات اليسار تعمل على التبشير بديكتاتورية البروليتاريا.
كان يفترض أن تفك حركة “آفاق” عزلة اليسار التونسي وتلامس الهموم الوطنية في تونس المزهوة باستقلالها غير أنها خيبت آمال التونسيين لما جاهرت بتوجهها الستاليني في مجتمع قاسى الويلات من استعمار جثم على صدره طيلة عقود ويتوق إلى الحرية .
نقلت حركة “آفاق” مركز نشاطها عام 1964 من باريس إلى تونس لكنها لم تقدم برنامجا سياسيا وتنمويا ينافس المشروع الوطني الذي ترى فيه “مشروعا إمبرياليا” بل اكتفت بمعارضة بورقيبة معارضة أيديولوجية. وفي سنة 1968 تمت محاكمة قيادات “آفاق” التي تفككت بعد أن عجزت شأنها شأن الحزب الشيوعي في كسب التأييد الشعبي فانفرط عقد مناضليها ولم يأت عام 1975 حتى اندثرت بالكامل.
تشتت اليسار
يروي المؤرخون والسياسيون الذين عايشوا تلك الفترة أن بورقيبة كان يشعر بأن اليسار “خذله” في معركته ضد رجال الدين ومختلف القوى التقليدية التي عارضت مشروع دولة الاستقلال، فقد كان يرى في نفسه حامل مشروع الحداثة في مجتمع فتكت به الأمية والجهل وكان يعتقد أن اليسار سيسانده في معركته ويدعم مشروعه من أجل تحديث تونس دولة ومجتمعا.
ويشدد الباحثون في تاريخ اليسار التونسي أن الشيوعيين لم يكونوا على قدر من الوعي السياسي والتاريخي ما يجعلهم يتفاعلون مع أفكار الحبيب بورقيبة ومشروع الدولة الوطنية .
لم تفتر عزيمة اليساريين ولم تزدهم ضربات نظام بورقيبة إلا تمسكا بمبادئ الشيوعية وبأحلامهم الستالينية فأسسوا في بداية السبعينات “حركة العامل التونسي” التي نشط فيها عدد كبير من الطلبة من ذوي التوجهات المختلفة من ماركسيين وماويين وتروتسكيين وقوميين يساريين مما أثّر لاحقا على تجانسها. وكما يبدو من التسمية وجهت “حركة العامل التونسي” نشاطها إلى “فئة العمّال” فاخترقت قطاعات حسّاسة مثل النقل والبريد والجامعات وكان معقلها محافظة قفصة (جنوب البلاد) حيث مناجم الفوسفاط التي يشتغل فيها العمال في ظروف قاسية.
غير أن التصاقها بالعمال جعل منها “حركة نقابية” أكثر منها حركة سياسية توجه نشاطها إلى مختلف مكونات المجتمع وعلى الرغم من أن مناضليها تسلحوا كثيرا بدروس تجارب الحركات اليسارية السابقة.
أدى ضغط الدولة إلى تشتيت جهود اليسار وانقسام تنظيماته فظهرت عدة حركات صغيرة مثل “حركة الوطنيين الديمقراطيين” وحركة “النقابيين الثوريين” و”حركة التروتسكيين” و”الحزب الاشتراكي” وحزب “العمل الوطني الديمقراطي” وحزب “اليسار الحديث” وحزب “النضال التقدمي” وتحولت الحركة اليسارية التونسية في المجتمع التونسي الحديث إلى ما يشبه القبائل في المجتمعات التقليدية كل حزب له مجالات عمله وزعيمه وولاؤه.
صعود الإسلاميين
ظل اليسار بمختلف فصائله المتناحرة مصرا على رفع المنجل والمطرقة على أرض تونس طيلة الخمسينات والستينات والسبعينات على هامش المشهد السياسي إما في السجون أو في دهاليز العمل السري غير أنه مع بداية الثمانينات التي حملت وهن الدولة وشيخوخة الرئيس بورقيبة من جهة وظهور حركة الاتجاه الإسلامي من جهة أخرى تغيرت المعطيات السياسية ليلج الشيوعيين الشأن العام ولكن تحت عيون نفس النظام الذي ساهم في تهميشهم وقمعهم.
لم يكن نشاط الإسلاميين من الناحية السياسية صدفة فقد سمح بورقيبة لرئيس حركة النهضة، (حركة الاتجاه الإسلامي سابقا) راشد الغنوشي وإخوته بالنشاط في محاولة منه لخنق التيارات الماركسية التي تعب من تعقبها ومقاومتها طيلة أربعة عقود.
لكن الرئيس العجوز لم يكن يتوقع أن يبادر الإسلاميون بتأسيس حزب لا يعترف به ولا بالمكاسب التي حققتها البلاد في عهده. ورأى بورقيبة ومن حوله رجاله المستميتون في الدفاع عن مكاسب دولة الاستقلال في تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي على يد راشد الغنوشي عام 1981 خطرا حقيقيا يهدد تونس دولة ومجتمعا، خطر ينسف ومن الأساس المشروع الوطني الذي أقام النظام الجمهوري وحرر المرأة وأصدر دستورا حديثا ونشر التعليم وأشاع قيم الحداثة.
رأت غالبية التونسيين في الحركة الإسلامية استنساخا لحركة الإخوان المسلمين المصرية وبداية لـ”تشريق” تونس ردا على “تغريبها” من قبل بورقيبة خاصة أن راشد الغنوشي حمل معه حلم “الدولة الإسلامية” ليستعيض به عن واقع “الدولة الأمة”. ولم يجد بورقيبة عدوا أشرس من اليسار لحركة الاتجاه الإسلامي لذلك أوعز لرجاله بأن يغضوا الطرف عن نشاط المجموعات اليسارية التي لم تلفظ أنفاسها بعد.
ولم تأت سنة 1982 حتى كانت الجامعة التونسية مسرحا لحرب حقيقية بين اليساريين والإسلاميين استعملت فيها مختلف أنواع الأسلحة البيضاء وأوقعت عشرات الإصابات.
حالة من الانهزامية
بدا اليسار في النصف الأول من الثمانينات يعيش حالة من الانهزامية الممزوجة بالانتهازية، انهزامية أمام تاريخه النضالي الطويل وأمام مكاسب مشروع دولة الاستقلال التي يفخر بها التونسيون على نقائصها ورغم كل المؤاخذات على نظام بورقيبة خاصة في ما يتعلق بالديمقراطية والتداول على الحكم، وانتهازية إزاء الوضع السياسي إذ هو يتمعّش مما تتيحه الحداثة من فرص.
ولم تتمكن أغلب مجموعات اليسار التونسي من التخلص من انهزاميتها وانتهازيتها بعد عزل الحبيب بورقيبة وتولي زين العابدين بن علي مقاليد الحكم في البلاد بل ظلت حبيسة عقمها الحركي وحلمها الطوباوي.
وإنصافا للتاريخ لا يمكن تعميم الانهزامية الانتهازية على كل وجوه اليسار، فقد ظلّ عدد كبير من اليساريين مناضلا ووفيا لمبادئه. وبعد سقوط نظام بن علي في يناير 2011 خرجت مجموعات اليسار على التونسيين مثلما خرج الإسلاميون والقوميون وغيرهم بنفس الخطاب ونفس الأحلام، بلا برامج وبلا رؤية حتى أن البعض منهم تحالف مع حركة النهضة الإسلامية في انتخابات 2011.
ورغم التاريخ النضالي العريق فشل اليسار في انتخابات 2011 فشلا مهينا ليفتح الباب أمام حركة النهضة الإسلامية التي استفادت كثيرا من تشتت اليساريين وعزلتهم الشعبية.
وترى النخب الفكرية والسياسية أن أحزاب اليسار خيبت آمال غالبية التونسيين في الدفاع عن قيم الجمهورية ودولة المواطنة وجردتها انهزاميتها من دورها في الوقوف ضد جماعات الإسلام السياسي.
ويبدو أن اليساريين، اليوم، باتوا مقتنعين بأن الإسلام السياسي الداهم لن يجرف فقط أحلامهم وإنما سيجــرف أيضا مكاسب الحداثة التي تحققت في ظل دولــة الاستــقلال.
ولعل هذا ما يفسر تأسيس “الجبهة الشعبية” التي تضم 11 حزبا يساريا في خطوة قال مراقبون إنها تعكس عودة الروح لليسار التونسي خاصة بعد قرار الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.
وعلى الرغم من أن التوقعات تشير إلى أن الجبهة الشعبية لن تتمكن من منافسة حركة نداء تونس التي تجمع قوى ديمقراطية وطنية وليبرالية ووسطية ولا حركة النهضة التي تمتلك ذخيرة انتخابية متكونة من نشطائها ومن السلفيين ومن المتعاطفين معها فإن مشاركة الجبهة في الاستحقاق الانتخابي يؤشر على تحول تاريخي في مفهوم العمل السياسي لدى اليسار، تحوّل يحمل في طياته الإقلاع عن الأحلام الطوباوية واستعداء الوضع القائم كما يحمل وعيا بأن القبول بشروط الإسهام في الشأن العام هو المخرج الآمن من التهميش إلى صناعة التاريخ.

اقرأ أيضا

غزة

اليونيسف: 2024 أحد أسوأ الأعوام على الإطلاق بالنسبة للأطفال بمناطق الصراع

أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بأن عام 2024 يعد أحد أسوأ الأعوام على الإطلاق …

منتدى: النظام الجزائري يعزل الصحراويين بمخيمات تندوف عن حقيقة الرفاهية في الأقاليم المغربية

كشف منتدى مؤيدي الحكم الذاتي المعروف اختصارا ب”فورساتين”، في تقرير حديث أن المحتجزين بمخيمات تندوف …

5 ملايين دولار لأقدم ألواح “الوصايا العشر”

بيع أقدم لوح حجري معروف، منقوش عليه «الوصايا العشر» بـ 5 ملايين دولار. وقالت دار …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *