عقب صدور القرارات الهمايونية التي عممها تنظيم «داعش» على أهل مدينة الموصل، سارعت 340 عائلة مسيحية إلى النزوح إلى محافظة نينوى. وجاء هذا النزوح الجماعي إثر الخطاب الذي ألقاه حاكم الموصل الجديد سلمان الفارسي الذي خيَّر المسيحيين بين إشهار إسلامهم… أو دفع الجزية… أو مغادرة منازلهم من دون ممتلكاتهم باعتبارها من الغنائم.
ويقول ممثل جمعية الهلال الأحمر العراقي، محمد الخزاعي، إن الموصل خلت من العائلات المسيحية، الأمر الذي حدث للمرة الأولى منذ 1500 سنة. وفي تقديره أن العراق كان يضم أكثر من مليون ونصف المليون مسيحي قبل عشر سنوات. ولكن فتاوى تنظيم «داعش» أفرغته من مليون عنصر في حين هرب نصف مليون منهم باتجاه قضاء الحمدانية وقرقوش.
بعد انقضاء فترة قصيرة على اتساع عمليات التهجير، نشر مواطن موصلي مسيحي رسالة على موقع «تويتر» جاء في نصها:
«نحن نغادر مدينتنا الموصل مطرودين، وقد أذلنا حاملو راية الإسلام الجديد.
نغادرها لأول مرة في التاريخ، علماً أننا كنا نتوقع من جيراننا وأصدقائنا الحماية والدفاع. لكنهم خذلونا وتركونا نواجه المجهول، ونتنازل عن تاريخنا ورموزنا وكنائسنا وآثارنا وكل عزيز علينا.
وداعاً، نقولها لمحال: الساعة والجولاق والدندان وباب لكش وباب الجديد وباب الطوب.
وداعاً للسرجخانة وسوق العتمي والقناطر وجسر العتيق وعبدوخوب، وقصر المطران وشارع الفاروق وشارع نينوى والدواسة وشارع النجفي».
وفي ختام هذه الرسالة يقول ماجد الموصلي معاتباً: «نحن نرحل بذلٍّ مطرودين من الأرض التي رويناها بدمائنا».
وبدلاً من تخفيف معاناتهم واحترام مقدساتهم، بادر تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى تفجير مواقع دينية تاريخية في الموصل بينها مسجد قبر النبي يونس بن متى. ويُعتبر هذا المسجد من المعالم الأثرية التي يقصدها السياح والحجاج.
ويبدو أن «الخليفة» أبو بكر البغدادي لا يؤمن بالمعتقدات الدينية كافة التي مورست قبل عهده، بدليل أنه ضرب بمعوله مختلف الأماكن الأثرية والمقدسة، لا فرق أكانت للمسيحيين أم للمسلمين. وكان بهذه الأعمال الشاذة يريد أن يثبت للعراقيين أن تاريخ بلادهم يبدأ من العاشر من حزيران (يونيو). أي يوم سيطرته على جزء كبير من الأرض والمدن، وإخضاع السكان لإمرته. لذلك، باشر إطلالته على المواطنين بنسف مرقد الإمام السلطان عبدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
وانسجاماً مع هذا التحول، قام أنصاره بإزالة مرقد الإمام عون الدين بن الحسن في منطقة لكش وسط الموصل، الأمر الذي أدى إلى تصدّع المنازل المحيطة به. كذلك نسفوا مرقد أبو العلا الواقع وسط منطقة باب الجديد، جنوب الموصل. ثم فجروا مرقد الشيخ الصوفي الصالح الذي يزوره آلاف المسلمين. وهو يقع قرب قرية تل حمة التابعة لقضاء داقوق.
وكما مارس نفوذه المتشدد على المواطنين داخل مناطق من العراق وسورية، أخضع البغدادي النساء لرقابته القاسية، محذراً من مخالفة ارتداء الحجاب.
وحول هذا الموضوع المسلكي، أصدر التنظيم بياناً جاء فيه: «إن الشروط التي فرضت على المرأة في ملبسها وزينتها، لم تكن أكثر من ذريعة لإخفاء الفساد الناتج من التبرج بالزينة. والحجاب لا يحد من حريتها، وإنما يحفظها من السقوط في درك المهانة ووحل الابتذال، وألا تكون مسرحاً لأعين الناظرين!».
وحرصاً على تعميم هذه الإرشادات، قرأ مسلحو «الدولة الإسلامية» بياناً عبر مكبرات الصوت أثناء تجمع المصلين، جاء فيه: «كل مَنْ لا يلتزم بهذه الفريضة، وكان مدعاة للفتنة والسفور، سيقع تحت طائلة المساءلة والحساب، ومعرضاً للعقاب المغلظ، صوناً للمجتمع المسلم من الأذى».
ووضع التنظيم قواعد للحجاب الشرعي، تشمل تغطية اليدين والقدمين وارتداء ملابس فضفاضة محتشمة لا تحدد خطوط الجسد، إضافة إلى حظر استعمال العطور.
ويقوم المتزمتون بدوريات لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتقوم هذه الدوريات تحت إشراف لجنة أغلقت كلية الفنون الجميلة في الموصل، وهدمت تماثيل لشعراء مشهورين ومنعت تدخين السجائر والنرجيلة.
وترى «الدولة الإسلامية» أن الشيعة الذين يؤلفون غالبية سكان العراق هم كفار يستحقون القتل. وقد خيَّرت المسيحيين بين التحول إلى الإسلام أو دفع الجزية، أو مواجهة الموت.
ويرى الزعيم المعتدل أياد علاوي أن رئيس الوزراء نوري المالكي هو المسؤول الأول والأخير عن الانهيار الكبير الذي حلّ بالجيش النظامي. وفي سبيل ملء فراغ الانهيار ظهرت قوات البيشمركة الكردية والميليشيات الشيعية كقوتين وحيدتين تستطيعان تحدي «الدولة الإسلامية».
يقول المقربون من «الخليفة» البغدادي، إنه غير معجب بسيرة الخليفة معاوية، وإنه يفضل عليه حكم الحجاج بن يوسف حاكم العراق في العصر الأموي. وهو يرى الحجاج مَثَله الأعلى لأنه نشر الأمن والاستقرار وهزم المتمردين الذين اعتصموا في مكة احتجاجاً على الخليفة الشرعي.
وكثيراً ما يردد البغدادي خطبة الحجاج الشهيرة، كلما واجهته المتاعب والتحديات، مشدداً على عبارات التهديد، ومطلعها: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها…
والمؤكد أن أتباعه يعانون من عقدة السادية والشراسة مثله. أي عقدة التلذذ والابتهاج بالقسوة المفرطة. وأكبر مثل على ذلك الصور المرعبة التي وزعها الأسترالي اللبناني الأصل خالد شروف، وهي تظهره محاطاً بالرؤوس المقطوعة لعشرة من جنود الجيش النظامي السوري. والملفت أن هذا «الداعشي» قد أدهش السلطات الأسترالية التي تعتبره إرهابياً، بحيث إنه أفلت من رقابتها وغافلها ليسافر إلى سورية وينضم إلى قوات «الدولة الإسلامية».
أذكر أنه أثناء زيارتي معتقل «بوخنفيلد» النازي في ألمانيا الشرقية، وقفت مصدوماً أمام المشاهد المقززة والمنفرة التي تحمل عينات من آلات التعذيب وغرف الغاز. وأكثر ما استوقفني رؤية قفازين موضوعين في صندوق زجاجي.
ولما سألت المرافق عن سرهما، أخبرني أنهما كانا يخصان زوجة بورمان رئيس فرقة «الصاعقة». وقال إن تلك الزوجة كانت تتباهى بأنها تملك قفازين من جلد بني آدم! ولما أشاح بوجهه عنهما مستنكراً، حاولت التخفيف من انفعاله بالقول إن المنفذين أطاعوا أوامر قادتهم. وقاطعني ليعلق ويقول: هذا صحيح. ولكن الأوامر لم تطلب منهم التلذذ بما يفعلون!
ومثل هذا التفسير ينسحب على الجرائم التي يقترفها «الداعشيون» بقصد نشر الرعب والهلع لدى أعدائهم. لذلك، أصبح التعطش إلى شرب الدماء ظاهرة مألوفة يرتكبها أناس مذعورون بقصد تطمين أنفسهم، وفق ما يقول كارل ماركس.
قبل أسبوعين، ترأس بطريرك الكلدان لويس روفائيل ساكو، قداساً أقيم في كنيسة شرق بغداد حضره أكثر من مئتي مسلم للتعبير عن تضامنهم مع المسيحيين الذين اضطهدهم تنظيم «الدولة الإسلامية».
وتساءل البطريرك في موعظته عن المبررات التي تدفع «داعش» إلى إجبار الناس على ترك منازلهم لمجرد أنهم مسيحيون أو شيعة أو سنّة. وقال إن التاريخ لم يعرف مثل هذه الظاهرة حتى في أيام جنكيز خان وهولاكو.
وفي مهرجان «يوم القدس العالمي»، دان الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ما يتعرض له المسيحيون والمسلمون في عراق «داعش». وقال إن هذه الأعمال تثير لديه مخاوف شخصية مما هو أخطر من تدمير المراقد الدينية والمساجد، بحيث تأخذ إسرائيل من هذه الارتكابات ذريعة لتدمير المسجد الأقصى.
وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل عقد مؤتمراً صحافياً حول هذا الموضوع بعد اجتماعه مع بطريرك السريان الأرثوذكس أغناطيوس أفرام الثاني ومطران السريان الكاثوليك جهاد بطاح وعدد من سفراء الدول الغربية. وقال إن ما يحدث في العراق يهدد وجود لبنان في شكل مباشر، لأنه يُناقض نموذج التعايش بين 18 طائفة تشكل نسيجه الاجتماعي المميز.
حول مسألة النزوح المسيحي من العراق وسورية، أعلن وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس وزميله وزير الداخلية برنار كازنوف، عن استعدادهما لتسهيل استقبال المسيحيين الهاربين إلى كردستان. وقال فابيوس إنه استصدر من مجلس الأمن الدولي إدانة لاضطهاد الأقليات في المنطقة، وقرر تعبئة المجتمعات الأوروبية من أجل ضمان حمايتهم.
كذلك، تساءلت صحف فرنسية عدة عن ضياع المروءة والشهامة لدى العراقيين الذين تركوا تنظيم «داعش» يطرد المسيحيين بواسطة فرقة لا يتجاوز عددها الثلاثة آلاف مقاتل. وذكرت هذه الصحف بالدور البطولي الذي قام به الأمير عبدالقادر الجزائري أثناء اندلاع الفتنة الطائفية (تموز/ يوليو 1860).
وفي كتاب عادل الصلح وصف لتلك الحادثة التي جاءت نتيجة الفتنة في جبل لبنان التي انتفلت إلى دمشق. ويروي الصلح، فيقول: «لما بلغ الأمير نشوب الفتنة في دمشق، هبّ مع رجاله المغاربة إلى الأحياء المسيحية لرد المهاجمين عنها، ونصحهم بالكف عن اعتداءاتهم فلم يأخذوا بنصيحته. لذلك، ذهب بنفسه إلى الكنائس والأمكنة التي لجأ إليها المسيحيون، يدعوهم جميعاً للمجيء إلى بيته. وفي اليوم الثالث تجمعت الحشود عند باب الحديد بغية اقتحام بيت الأمير على ضفاف بردى. فما كان منه إلا أن أسرج جواده واعتمر خوذته، ثم انقض على المشاغبين شاهراً سيفه وهو يصرخ فيهم: «أيها الأشقياء. أهكذا تعزون نبيكم؟ العار لكم… لن أسلمكم مسيحياً واحداً. إنهم إخوتي».
ويذكر ميخائيل مشاقة، أحد الشهود المسيحيين الناجين، أن عدد الذين حماهم الأمير عبدالقادر يزيد على 15 ألف نسمة.
والمؤكد أن هذه النماذج لن تتكرر في بلاد دمر كرامتها الوطنية نظام الحزب الواحد، ثم أجهز عليها الاحتلال الأميركي. وهي حالياً تنتقل من مرحلة الوحدة الوطنية إلى بلاد مقسمة فعلياً إلى ثلاث دول هي: دولة الكرد وعاصمتها أربيل، ودولة الشيعة عاصمتها بغداد… ودولة السنّة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» وعاصمتها الموصل.
وتلوح في أفق العالم العربي بوادر «فوضى صومالية» تهدد مستقبل ليبيا بحرب أهلية تفتعلها الميليشيات المسلحة الموالية لجماعة «الإخوان المسلمين.» وفي حال حققت انتصارها على مؤسسات الدولة المهترئة، فإن إيطاليا تتوقع ظهور دولتين قبالة شاطئها المزدحم بالهاربين والنازحين!
* كاتب وصحافي لبناني
“الحياة” اللندنية
اقرأ أيضا
وصف الجزائر بلا هوية وتستهدف وحدة المغرب.. النظام الجزائري يعتقل الكاتب بوعلام صنصال
يواصل النظام الجزائري سياسته القمعية لإخراس الأصوات التي تنتقد سياسته أو تلك التي تنطق بحقائق تثير حنق "الكابرانات".
الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت والضيف
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، مساء اليوم الخميس، مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق في مجلس الحرب يوآف غالانت، بالإضافة إلى مذكرة اعتقال في بيان آخر للقائد العام لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس "محمد الضيف" واسمه الكامل إبراهيم المصري، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
السجن 50 عاماً لامرأة أجبرت أطفالها العيش مع جثة متحللة
قضت محكمة، الثلاثاء، بسجن امرأة لمدة 50 عاماً لإجبار ثلاثة من أطفالها على العيش مع …