ليبيا

ليبيا في انتظار جودو

لا يمكن للانحراف عن الطريق الصواب إلا أن يبدأ بخطوة واحدة، وبمسافة محاذية للطريق، ثم يبدأ هذا الانحراف في الاتساع، خاصة إذا أخذ زاوية منحرفة ومضى فيها، وكلما توغل في المسير كلما ازداد ابتعاده عن الطريق وبالتالي ابتعاده عن الهدف الذي يريد المسافر الوصول إليه، وسيجد نفسه قد بلغ المتاهة التي نرى الشعب الليبي قد بلغها.
فمن الثابت أن الشعب الليبي لم يقم بثورته، ولم يقدم التضحيات الثمينة من أجلها، ولم يسقط الشهداء في سبيلها، إلا لتحقيق هدف هو الوصول إلى وطن، آمن، مزدهر، حر، تتوفر فيه الكرامة لأهله، والعيش الكريم الذي تؤهله له موارده، وطبعا هذا الهدف لم يتحقق، وهذا الطريق الذي ظن الجميع أنه سيكون سالكا آمنا بعد إزاحة نظام الاستبداد، لم يكن سالكا ولا آمنا، لأنه حصل انحراف عن المسار قاد إلى ما تعانيه البلاد من أنواع الابتلاء والكوارث.
وهو انحراف بدأ مباشرة، بعد تقويض النظام الانقلابي القديم، وقد وصل عمر الانحراف الآن إلى خمسة أعوام، عانت فيها البلاد من ويلات الاحتراب وسفك الدماء ومن انهيار الأمن، ومن تردي الوضع الاقتصادي، واستفحال العوز والفاقة والاحتياج، إلى أن أصدرت الأمم المتحدة أرقاما قياسية في ما يخص الوضع الإنساني، حيث صار أكثر من نصف الشعب الليبي يعاني حالة احتياج للطعام والسكن والعلاج، واستفحل أيضا الداء الأكبر، الذي لم يقتصر هذه المرة على جلب البلاء للشعب الليبي ولكنه فاض على شعوب المنطقة، وشعوب العالم، وهو داء الإرهاب والتطرف، وعصابات داعش التي اتخذت من ليبيا ساحة للعمل، وقاعدة للانطلاق في ارتكاب عملياتها الإرهابية داخل ليبيا وخارجها، مستفيدة من الفراغ السياسي والغياب الأمني وانهيار الدولة وانعدام الرقابة على الحدود.
كل المساعي المبذولة من طرف أهل الحراك الوطني والسياسي، بمساعدة خبراء الأمم المتحدة وبعثتها في ليبيا وتعاون أطراف دولية وإقليمية، هو تصحيح الانحراف والعودة عنه إلى الطريق الصحيح، الذي استهدفه الشعب الليبي بثورته، وصولا إلى تحقيق أهدافه في دولة الأمن والأمان.
لقد اتسع الخرق على الراتق، واتسعت الشقة بين طريق الانحراف وطريق الحق والصواب، ولذلك صارت العودة إلى هذا الطريق صعبة ومتعسرة وتستهلك جهدا ووقتا، ولم يعد غريبا أن تتكون مصالح ومنافع بين الطريقين، وتنشأ خنادق، وتنمو أشواك وتظهر جماعات ضغط، تقاوم العودة إلى طريق الحق والصواب لأنها أنشأت لنفسها مصالح ومنافع، على جانبي طريق الانحراف، وتركه والعودة إلى الطريق القويم صار يمثل تهديدا لهذه المصالح وإيذانا بانتهائها وإلغائها.

إقرأ أيضا: هل يعود الأمل إلى ليبيا مع تشكيل حكومة الوفاق المعدلة؟

نعم لقد استغرقت البعثة الأممية ما يقرب من عامين في حالة تفاوض، وأخذ ورد وسفر وإقامة، من أجل جلب الأطراف المتنازعة إلى مائدة المفاوضات، وتتابعت الجولات داخل ليبيا وخارجها، ومن محطة غدامس، إلى محطة جنيف، إلى محطة تونس، إلى محطة الصخيرات بالمغرب، وصولا إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، لوضع اللمسات النهاية لاتفاق المصالحة، ولم تقتصر هذه المفاوضات على الأطراف السياسية وإنما شملت أطرافا عسكرية، وأخرى عشائرية قبلية، وثالثة تتصل بالمجتمع المدني ورابعة بالمرأة، وخامسة بالحراك الشعبي البلدي وحكام المحليات، وسادسة وصلت إلى نازحين ومهجرين لإشراكهم في المسار التفاوضي، وكان لا بد بعد هذا المخاض من الوصول إلى توافق لن يرضي كل الناس بالضرورة، ولن يكون بغير تنازلات من هذا الطرف وذاك الطرف، انتهى إلى حكومة توافق وطني، متعددة الرؤوس، لإرضاء كل طرف من أهل النزاع، وتمثيله في المجلس الرئاسي، ثم تشكيل الحكومة ومراعاة أن ترضي هي الأخرى جوانب مناطقية وعشائرية، وألوان الطيف السياسي المتنوعة، هي التي تنتظر المصادقة عليها من مجلس النواب، وقد تعثر هذا المجلس في تنظيم جلسة يتوفر فيها النصاب، وكل مرة يدعو فيها الرئيس إلى مثل هذه الجلسة، يتخلف الأعضاء، وهكذا دخل المشهد الليبي السياسي في دورة عبثية لا شبيه لها إلا مسرحية صمويل بيكت الشهيرة “في انتظار جودو”، الذي يجب أن يأتي لكنه لا يأتي، فمجلس النواب، الذي علمنا أنه يتوفر على أغلبية من الأعضاء أعلنت موافقتها على حكومة الوفاق لكنها موافقة مشروطة بإعلانها من تحت قبة البرلمان، يجب أن ينعقد لكنه لا ينعقد.
المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني يجب أن يدخل العاصمة ليباشر ممارسة صلاحياته، كبديل لحكومة الإنقاذ الطرابلسية، والحكومة المؤقتة الطبرقية البيضاوية، ولكنه لا يدخل وشعب ينتظر أمام البنوك وصول الأجور ولكنها لا تصل، ووضع مأساوي أمنيا واقتصاديا ينتظر الجميع أن يزول، لكنه مقيم لا يتزحزح من مكانه.

كاتب ليبي/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …