تعالت في الفترة الأخيرة الأصوات المنتقدة لبنك ليبيا المركزي، الذي يحاول منذ السنوات الماضية حماية نفسه من الانهيار والبقاء على الحياد بين الأطراف السياسية المتصارعة.
ويعد البنك المركزي، من أخطر المؤسسات المالية الوطنية، التي يجب أن تبقى في منأى عن الصراعات والتجاذبات السياسية والتناحرات الداخلية.
وينبغي على الجميع الحرص على استمرار خدماته لجميع مناطق ليبيا دون استثناء، وهو ما تؤكده المستندات والتحويلات والاعتمادات والميزانيات المصروفة، التي تنشر في بيانات البنك الرسمية.
متابعة أعمال البنوك المزكزية تؤكد دورها الحاسم في الحفاظ على البلدان، مثلما حدث في لبنان، حين منع البنك المركزي البلد من الانهيار، في وقت تهاوت فيه كل مؤسساته الأخرى.
ولإظهار الحقائق ومواجهة الانتقادات المغرضة التي يتعرض لها بنك ليبيا المركزي ينبغي توضيح الحقائق التالية:
1 – إن بنك ليبيا المركزي ليس جهة تنفيذية، بل هو مؤسسة مالية تلتزم بما يحال إليها من مستندات ومعاملات من جهات حكومية يفترض أنها قانونية.
2 – البنك غير مسؤول عن مظاهر الفساد في بعض الدوائر الحكومية التي تدفع إليه بمستندات ومعاملات واعتمادات غير قانونية.
3 – البنك المركزي أعلن مرارا عن ضبط العديد من المعاملات والمستندات غير القانونية والمزوّرة، وأحالها إلى القضاء، إضافة إلى ما تم ضبطه من قبل ديوان المحاسبة. لكن للأسف لم نسمع عن اتخاذ أي إجراء حيال مرتكبيها.
4 – مشكلة السيولة المالية التي تعاني منها ليبيا حاليا، لا يمكن إلصاقها بالبنك المركزي، الذي قام بطباعة وطرح عملة بقيمة 24 مليار دينار، يجري تداول 22 مليارا منها خارج البنوك الليبية.
5 – إن الفساد المالي الذي حدث في السنوات الأخيرة نتج عنه حصول أفراد على كميات كبيرة من الأموال سحبت نقدا ووضعت في البيوت. ولا يستطيع أصحابها إيداعها في البنوك خوفاً من الملاحقة القانونية.
6 – انتشار مظاهر الجريمة دفع الكثير من المواطنين والتجار إلى سحب أرصدتهم والاحتفاظ بها في بيوتهم خوفا على حياتهم، بعد انتشار ظاهرة قتل واختطاف وابتزاز المواطنين بعد رصدهم وملاحقتهم من عصابات مسلحة.
7 – غياب تفعيل المؤسسات الأمنية والقضائية وانتشار العصابات المسلحة والصراعات الداخلية أشاع الخوف لدى التجار ورجال الأعمال والمواطنين، وأدى إلى عدم الثقة في إيداع أموالهم في البنوك.
8 – مسؤولية نقص السيولة تقع بشكل أساسي على المواطن والتاجر ورجل الأعمال، الذي قرر الاحتفاظ بالأموال الطائلة بعيدا عن البنوك، للأسباب التي ذكرناها، والتي لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها.
9 – بنك ليبيا المركزي يتحمل جزءا من مسؤولية الخلل في النظام البنكي في ما يخص منظومة البنوك لشيوع حالات من انعدام السرية في الأعمال البنكية لبعض البنوك وقيام بعض الموظفين بالتبليغ عن حسابات الزبائن وكشف القيم المالية المودعة بها. فقد أسهمت هذه الممارسات الفاسدة في انعدام الثقة وسحب العملاء لإيداعاتهم خشية إفشاء حساباتهم وتسربها إلى عصابات إجرامية ابتزازية.
10 – يجب على البنك المركزي الإسراع في اتخاذ إجراءات صارمة لتأمين وحماية حسابات المواطنين لدى البنوك وفق منظومة دقيقة آمنة. وتوقيع أقسى العقوبات على كل المخالفين وفقاً للتشريعات النافذة.
11 – إن حالة عدم الاستقرار والصراعات المسلحة وضعف أداء المؤسسات الحكومية والحالة الاقتصادية المتهالكة وحالة النزوح لكثير من المواطنين وتهرب البعض الآخر، جعل جهات الجباية عاجزة عن جباية الضرائب والرسوم العامة وكذلك عدم دفع مقابل خدمات الكهرباء والمياه المتردية في الأساس، ما ترتب عليه عدم ضخ أي سيولة مالية لخزينة الدولة.
إقرأ أيضا: أزمة ليبيا..أوباما يلقي اللوم على ساركوزي وكاميرون
كما أن إيقاف ضخ النفط من كثير من الحقول أدى إلى خسائر فادحة بلغت نحو 65 مليار دولار. ولم يتم معاقبة من تسسبوا بذلك، بل إن الحكومة واصلت دفع رواتبهم.
وبحسب بيانات البنك المركزي، فإنه لم تدخل في حساباته أي عملات صعبة منذ عام 2013 لأن البنوك الأجنبية ترفض تحويلها بسبب الأوضاع الأمنية، مما اضطره للسحب من الأصول في الخارج، التي توفّر غطاء للعملة المحلية، وهو مؤشر على تهالك الاقتصاد الوطني.
وبحسب البنك، فإنه قام بفتح اعتمادات بقيمة 15 مليار دولار، إلا أنه لم تصل أي بضائع تذكر مقابل تلك الاعتمادات، بسبب غياب الضوابط والرقابة من الجهات التنفيذية وانتشار التزوير والفساد. والبنك المركزي ليس مسؤولا عن هذه التجاوزات بل هي مسؤولية الجهات التنفيذية.
وحاول البنك تقديم مقترحات عملية لتخفيف الأزمة الاقتصادية والحفاظ على المال العام، مثل مقترح خفض دعم الوقود، الذي يكلف الخزينة مبالغ طائلة ثم يتم تهريبه من قبل تجار الحروب إلى دول الجوار دون أي ملاحقة قانونية.
وتبدو محاولات إلصاق جميع المشاكل بالبنك وبإدارته منافية للحقيقة، كما أن مطالبته بفتح المزيد من الاعتمادات ليس هي الحل، بل ينبغي تهيئة بيئة مجتمعية سليمة من كل أشكال الجريمة والفوضى والخروج على القانون والفساد المالي والإداري.
ويشكل الحفاظ على تماسك وحياد البنك المركزي الخطوة الأولى نحو تجاوز المعضلات الخطيرة التي تحيق بليبيا والعمل على دعمه وتطوير منظومته وتوفير الأمن وتفعيل مؤسسات الدولة كافة لتجاوز المشكلات الاقتصادية والمالية.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة الثقة بين المواطنين والتجار ورجال الأعمال ومؤسساتهم البنكية، فالبنوك مؤسسات حسّاسة جدا تجاه الحالة الأمنية واستقرار المجتمع على جميع المستويات.
ينبغي تكاتف الجهود لإعادة الاستقرار وبسط الأمن وتجاوز الصراعات والتخلي عن المصالح الفردية والجهوية وتفعيل مؤسسات الدولة، حينها فقط يمكن الحديث عن تحوّل اقتصادي حقيقي والقضاء على المظاهر السلبية.
وينبغي أيضا مطالبة جميع الأطراف في ليبيا إلى حشد المواقف الإيجابية التي تجمّع ولا تفرق وإدراك حجم المخاطر التي لن تستثني أحدا. وهي لم تعد مجرد مؤشرات أو تنبؤات، بل واقع نعيشه كل لحظة.
لا مناص من الإسراع في تشكيل حكومة وفاق تلتزم بالمصالح العليا بعيدا عن المصالح الفردية والجهوية، لأن ليبيا لم تعد تحتمل المزيد من الانهيار وانقسام الجهات التنفيذية والتشريعية وتشظي المواقف المدعومة بالمال السياسي الفاسد الذي يذكي الفتن ويعمق الخلافات، التي يدفع ثمنها المواطنون في نهاية المطاف.
لا بد للجميع من العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، والاتفاق على تطبيق برنامج عمل وطني محدد للتعامل مع الملفات العاجلة واتخاذ مبادرات سريعة وفق خطط دقيقة لتفعيل مؤسسات الدولة كافة واستعادة ثقة العالم ومؤسساتهن والانطلاق نحو تحريك عجلة الاقتصاد الوطني وإعادة الأمل إلى المواطن الليبي.
سفير ليبيا في تركيا/”العرب”