عرفت تونس منذ إطاحة الدكتاتور، زين العابدين بن علي، نشاطاً حزبياً مكثفاً وتجارب انتخابية متتالية، أفرزت حكوماتٍ، وأدت إلى صعود قوى وانحدار أخرى، ومحافظة بعضهم على مواقعه. وفي ظل هذا النشاط الحثيث، يتميز المشهد الحالي بمحاولاتٍ متعددة لقوى مختلفة، تحاول أن تستفيد من التغيرات المتسارعة، لتفرض نفسها بديلاً مقبلاً وشريكاً أساسياً في السلطة، سواء كان على مستوى الحكم المحلي، أو من خلال الحضور في مجلس نواب الشعب أو الحكومة، و حتى رئاسة الجمهورية.
وتظل هذه الطموحات مشروعة، على الرغم من أن حسابات القوى المختلفة قد لا يمنحها الشارع، ومن خلال الصناديق ما تطمح إليه. وعلى الرغم من ذلك، يمكن تشريح المشهد الحزبي الحالي لرصد أهم الطامحين الجدد في الحكم ومدى إمكان تحقق آمالهم وطموحاتهم، في ظل التجاذبات والتحالفات السياسية المتغيرة. ومن أهم القوى التي برزت، أخيراً، من الناحية السياسية والإعلامية، نجد “حراك تونس الإرادة”، حيث تشكل هذا الحزب حول الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، ويضم، في نواته الأساسية، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أعلن عن حل نفسه، والانضمام إلى الحزب الجديد، بالإضافة إلى عناصر وشخصيات مستقلة، تشترك في جملة من الشعارات المركزية التي تستند إلى الشرعية الثورية، وأهمية مواصلة بناء تونس الديمقراطية. ولا يخفي الحراك انتقاده الحكومة الحالية، معتبراً أن “مرور سنة على استلام الائتلاف الرباعي الحكم لا ينبئ بخروج البلاد من الوضع الانتقالي، بقدر ما يفصح عن عجز الائتلاف الحاكم عن إعطاء الأمل في إنقاذ الاقتصاد وإعطاء أمل للتونسيين، لتحسين ظروفهم الاجتماعيّة. كما يفصح عن تدهور الوضع الاقتصادي، واستشراء الفساد وغياب إصلاحات جبائيّة وماليّة عميقة”. ويعتبر “حراك تونس الإرادة” “أن الحكومة تفتقد رؤية واضحة وبرنامجاً دقيقاً لمجابهة المرحلة، مكتفية بتسيير الأزمة”، وهو ما يفترض، حسب ما يعلنه هذا الحزب القديم/الجديد، ضرورة قيام توافق وطني واسع لمعالجة المشكلات العاجلة والملحة، مثل قضايا مكافحة الفساد ومحاربة الإرهاب وحل أزمة البطالة. ويعتزم الحزب الترشح للانتخابات البلدية المقبلة، والتي لم يتحدد موعدها بعد. وبغض النظر عن الشعارات الكبرى لحزب حراك تونس الإرادة، فإنه مطالبٌ بتقديم برامج فعلية قابلة للتطبيق، ومجاوزة مربع الاحتجاج على السلطة، نحو بناء هياكل فعلية قادرة على قلب موازين المشهد الحزبي الحالي.
إقرأ أيضا: تونس: حركة النهضة تنفي رغبته في “الانقضاض” على الحكم
من جهة أخرى، أعلن رئيس الحكومة السابق، مهدي جمعة، عن تشكيل ما سماه “تونس البدائل”، مؤكداً أن هذا التيار الذي يضم وزراء سابقين ورجال أعمال وناشطين سياسيين، سيكون حسب توصيف باعثه “ما فوق الجمعية، وما دون الحزب، بمعنى أن مجاله سيكون مفتوحاً على كل الخيارات الممكنة، وسيتناول المسائل الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحارقة للبلاد”. ويبدو أن مهدي جمعة يحاول تجميع أكبر قدر ممكن من مصادر القوة والتأثير، قبل خوض تجربته السياسية الجديدة، في سبيل العودة إلى السلطة من بابها الكبير. وبعيداً عن حسابات التشاؤم والتفاؤل، فإن مشروع “تونس البدائل” قد يحظى بدرجة معينة من القبول، شرط أن يتمكّن من تحقيق الانتشار وبناء آلة تنظيمية، يفتقر إليها حالياً، وربما يكون رهانه الأساسي التركيز على شخصية مهدي جمعة، وتلميعه إعلامياً، ليتصدّر المشهد لاحقاً، سواء بمفرده، أو من خلال تحالفاتٍ ممكنةٍ، لم تتضح صورتها بعد. وإذا كانت نقطة القوة في هذا الكيان السياسي الجديد تكمن في ابتعاده عن التجاذبات الأيديولوجية والتخندق في الصراعات الحزبية الحالية، غير أن الأكيد أن عناصره تفتقر إلى القدرة على العمل السياسي الميداني، فجمعة نفسه جاء إلى رئاسة الحكومة سابقاً بوصفه تكنوقراط، ومن خلال توافقات بين القوى السياسية الكبرى، وهي فرصة لن يحظى بمثلها، عندما يصبح خصماً سياسياً، يخوض الانتخابات ضد القوى التي ساهمت في صعوده يوماً.
وعلى يسار المشهد السياسي التونسي الحالي، تحاول الجبهة الشعبية التي تضم مكونات حزبية مختلفة أن تقدم نفسها باعتبارها بديلاً سياسياً ممكناً، لإدارة شؤون الحكم في البلاد، في المرحلة المقبلة، مراهنة على دعايتها الواسعة حول ما تسميه فشل الحكومة الائتلافية الحالية، حيث يؤكد الناطق الرسمي باسم الجبهة، حمة الهمامي، أن الجبهة الشعبية” تقوم بتعبيد الطريق للوصول إلى الحكم، من منطلق أن الشعب التونسي، بعد تجربة حكومة بن علي، ثمّ حكومة الترويكا، وحالياً حكومة التحالف الثنائي، “نداء تونس” و”النهضة”، بصدد تقييم تجارب الحكومات المتعاقبة، والتي هي مرتبطة بالنظام القديم، في خياراته الاقتصادية والاجتماعية”. وبغض النظر عن لغة الشعارات التي تستخدمها الجبهة، وإعلانها المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة، إلا أن كثيراً من حساباتها، تظل مرتبطةً بتخليها عن خطابها المتشنج وتذبذب مواقفها السياسية، خصوصاً في ظل وضعها خطوطاً حمراء، على أي تحالفات مع قوى أخرى مؤثرة، مثل حركة النهضة، أو حراك تونس الإرادة، وغيرها من القوى التي شاركت في الحكم في المراحل السابقة، وهي حساباتٌ تصطدم مع واقع أن تونس، في المرحلة الحالية، كما في مراحلها اللاحقة، لن يتمكّن طرف سياسي واحد من حكمها بمفرده، كما أن منطق الاشتراط المسبق والإلغاء يجعل هامش المناورة ضيقاً جداً أمام “الجبهة الشعبية”، بمكوناتها المختلفة.
ويبقى الطرف الآخر الذي يعلن عن استعداده للوصول إلى السلطة، ونعني به المجموعة المنشقة عن حزب نداء تونس، والتي يتزعمها محسن مرزوق الذي صرح، مؤكداً، أن حزبه الجديد (تحت التأسيس) سيفوز في الانتخابات البلدية المقبلة. معلناً أن المنافس الوحيد لما سماه “مشروعه العصري” هو حركة النهضة والإسلام السياسي عموماً. وعلى الرغم من أن التيار الجديد يحاول الاستفادة من التجربة التي راكمها عناصره، في أثناء نشاطهم في “نداء تونس”، خصوصاً من الناحية التنظيمية والدعائية، إلا أن الوعود الكبيرة التي يطرحها، والآمال العريضة التي ينطلق منها، باعتباره الوافد الجديد إلى الحكم، قد تصطدم مع عوامل القصور الذاتي التي يعيشها التنظيم، ومنذ النشأة، سواء، من حيث الإغراق في الفردية، والتركيز على شخصنة العمل السياسي، وهو ما أثار انتقاداتٍ، حتى لدى بعض مناصريه وداعميه، ممن انشق معه عن “نداء تونس”، بالإضافة الى أن الوقائع تقول إن إمكانية تكرار تجربة “نداء تونس” في الفوز غير واردة واقعياً وحسابياً، ما يعني أن هذا الكيان الجديد سيكون رقماً جديداً يُضاف إلى المشهد الحزبي التونسي، وتكون الانتخابات هي الاختبار الحقيقي لمدى جدية حضوره وانتشاره وتأثيره.
وتظل كل هذه القوى الطامحة للحكم تعبيراً عن حيوية المشهد السياسي في تونس، ما بعد الثورة، حيث من الطبيعي في ظل نظام ديمقراطي، أن يسعى كل طرف حزبي للوصول إلى الحكم والمشاركة في إدارة الشأن العام، وفق شروط اللعبة الانتخابية التي يقرّر مصيرها الشارع التونسي بكل حرية.
كاتب وباحث تونسي/”العربي الجديد”