ثمة جملة غريبة ولمجرد أن يلفظها الشخص حتى ينتابه شيء من مرارة التهكم، وهي تُنسب الى الرئيس الليبي المقتول العقيد معمر القذافي، ولا نعرف مدى صدقيتها رغم كثرة تداولها، حيث يقول فيها القذافي “بأنه سيحارب اسرائيل حتى آخر جندي مصري”، ويبدو أن الحكمة القذافية الغريبة راقت أو تروق صناع القرار في تركيا، ولكن مع تحوير المقولة تماشياً مع الغايات الاستراتيجية للمستعين بتلك الحكمة، إذ يبدو بأن الجماعة سيظلون يحاربون الاكراد حتى سقوط آخر قلعة أو جندي لدى الأسد، باعتبار أنهم ومنذ خمس سنوات ورغم كل خطوطهم الحمر والخضر والى الآن لم يطلقوا قذيفة باتجاه جبهة أو حاجز من حواجز الأسد أو نظامه غير القصف اللفظي، ولكنهم بدلاً من الأسد تراهم على استعدادٍ دائم وبكل أريحية على محاربة الكرد وقصف مناطقهم قولياً وعملياً متى ما أرادوا ذلك، طالما أن العداوة مع تلك الجهة أهم وأبعد من قصة الأسد ونظامه، ولذلك لِما لهُ من أبعاد تاريخية واستراتيجية بعيدة الغور والأمد.
ولكن باعتبار أن حكومة العدالة والتنمية هاجسها الرئيس منذ سنوات هو إظهار ذاتها كنموذج اسلامي حضاري سموح في المنطقة، وهي تحاول جاهدة ترسيخ ذلك التصور وتعمم ثقافتها الاسلامية تلك، ساعية في دخيلة نفسها ربما على دفع شعوب المنطقة أجمعين لمحاكاة تجربتها الاسلامية الرائدة، لذا نود تذكير المنبهرين بهذا النموذج الرائد بشيء من التراث الاسلامي نفسه، وذلك لإعمال المقارنة وللاحتكام الى المنطق قبل اشتعال العاطفة الدينية، إذ معروفٌ أن الفعل الحضاري للشخص أو الجهة السياسية هو خير ما يعبر عنه وليس من خلال قوله، وكذلك الأمر بالنسبة للهمجي الذي عادة ما يعبر عنه تصرفه بدون الحاجة حتى الى معرفة أقواله، بما أن الفعل يعوَّض عن القول حسناً كان أم خبيثا.
لذا سنذكر القراء ومتخذي قرار السلم والحرب في الجارة الاسلامية بما قاله أبي بكر الصديق في وصيته لجنود الاسلام قبل فتح بلاد الشام في (12 هجرية) وهو يقول: “يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها”.
إقرأ أيضا: ترمب: لو بقي صدام والقذافي
ولكن ما حصل ويحصل على الأرض هو بخلاف ما جاء في وصية أبي بكر، إذ أن الجيش التركي تجاوز الحدود السورية في منطقة عفرين وهو يضرب عرض الحائط ما جاء في سياق الوصية، ونفذ عملية عسكرية بعكس شروط الوصية الواردة أعلاه من خلال قطع أشجار الزيتون في قرية قرمتلق الحدودية مع تركيا، إذ قامت تلك القوات بجرف وقلع ما يقارب 300 شجرة زيتون، كما قامت المدفعية التابعة للجيش التركي بالقصف العشوائي على المنطقة، بدعوى أنها تقصف مواقع وحدات الحماية الشعبية، والتي أدت الى مقتل وجرح العديد من المدنيين قبل (الذريعة) غريم الدولة التركية، أي قبل أي عنصر من عناصر وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتزعمه صالح مسلم.
أما من ناحية التصريحات المعادية للأسد ونظامه، فلا شك بأن متابعو أحداث الثورة السورية منذ البداية سمعوا عن الخطوط الحمر التي وضعها الرئيس رجب طيب أردوغان، بينما الأسد ونظامه راحوا يتجاوزون تلك الحدود بشكلٍ دائم يوماً بعد يوم، بدون أن تُقدم تركيا حتى على ضرب أو لطم أصغر كتيبة عسكرية تابعة للنظام السوري، بينما يوم تعلّق الأمر بالكرد فسارعت تركيا الى قصف المناطق المأهولة بالسكان بأسرع وقتٍ ممكن، خصوصاً بعد تفجير أنقرة مباشرة، ذلك التفجير الذي بدا كذريعة، حيث سارع رئيس الوزراء داود أوغلو الى القول بأن منفذها سوري الجنسية وعلى أنه من مواليد مدينة عامودا ومنتسب لوحدات الحماية الشعبية، ولكن عندما لم يأخذ أحد من المتعاونين مع تركيا ذلك الاتهام المذكور محمل الجد وخصوصاً حلفاؤها في الناتو، ظهرت فجأة جهة جديدة ثانية على الساحة وتبنت العملية تلك، مدعيةً بأنها تابعة لحزب العمال الكردستاني، وتدعى “صقور حرية كردستان” وقد نُشرت صورة لمنفذ العملية على موقع تلك الحركة، قائلين بأن اسم منفذ العملية هو زنار رابرين، أو عبد الباقي سونمز، إلا أن العارفين بمجال الفوتوشوب سرعان ما عرفوا بفبركة القصة التي بُنيت على أنقاض شخصية صالح نجار الذي طُرح بالأول كمتهم أولي، وذلك علَّها تنقذ الحكومة التركية من الاحراج أمام حلفائها، وقد تبين من خلال البحث والتقصي بأن الصورة الاساسية لذلك الشخص الجديد يعود بتاريخه لعام 2014 لشاب يدعى Şafak İNAN حيث قامت الجهات المعنية بالترويج لتلك القصة، وبتغيير الرأس على برنامج الفوتوشوب، وذلك ربما لإنقاذ الدولة من الورطة والموقف الحرج أمام الرأي العام المحلي والدولي من جهة، وكذلك لتبرير ضربها لمنطقة عفرين من جهةٍ أخرى بعد أن نفدت الحكومة كل المبررات والحجج السابقة في كشكولها السياسي فيما يتعلق بالغريم الدائم أي حزب الاتحاد الديمقراطي.
لذلك فأمام هذه التطورات والوقائع والاختلاقات اليومية قد يُداهم خيال المتابع الذي ينظر الى الأحداث بعينٍ ثالثة، بعيداً عن هاجس الميل الى هذه الفئة أو تلك، وهو يتساءل يا ترى هل الى هذه الدرجة كانت غنية تجربة وفلسفة معمر القذافي السياسية؟ حتى يتم الاستعانة بها على أعلى المستويات في تركيا، بل فوقها يحاول حزبٌ له تاريخ طويل وعريض مثل العدالة والتنمية استنساخ الفلسفة القذافية تلك أو السير على هداها.
كاتب صحفي/”ايلاف”