صاحبت الثورةَ التونسية كثافةٌ لغوية استعاريةٌ كبيرة، هي مما نسج إطاراً تفاعلياً مهمّاً بين فواعل الثورة. ومن الاستعارات المتواترة، اليوم، استعارة تشبّه حال تونس بالشجرة الأخيرة الناجية في غابة الثورات المحترقة. ولهذه الاستعارة استعارات أخرى، يمكن استخراجها منها على سبيل الترشيح، حسب المصطلح البلاغي المعروف. فهذه الشجرة ملاذ وأمل، وهي للذي يريد استنبات شجيرات/ثورات جديدة مدّخَر أساسي للمستقبل.
وتتضافر معطيات عديدة، لتجعل من الثورة التونسية حدثاً منعطفاً في تاريخ الإنسانية قاطبة، فالثورات تنشئها ملابسات وظروف محلية، هي، في نهاية المطاف، إرادة الشعوب في أن تتحرّر من قهر قاهر داخلي أو خارجي، لكن تيْنك التاريخية والمحلية تغدوان كونية ورمزية بما بين المحلي في مكان مّا والمحليات في أصقاع أخرى من تشابه، فالقهر والمظالم من الكليات المحركة للتاريخ الإنساني.
من هذه الزاوية، يتحقق للثورات امتداد جغرافي مكاني في السياق الآني، لكنها مرشحة لامتداد زماني أهم، بحكم ما توفره من دفع معنوي وإطار مرجعي لحركات التحرّر عبر التاريخ. فلذلك يتضاعف حجم الربح والخسارة، باعتبار ما يمكن أن تؤول إليه هذه الثورات في هذين الامتدادين: الآني والزماني.
واقع الحال أن الثورات العربية اندلعت بشكل عنقودي فيه استرسال جغرافي، فتحققت بإرادة الشعوب العربية وعذاباتها وحدة رمزية، لم يتسن تحقيقها بالقرارات السياسية. وهذا الاندلاع التصاعدي جعل الثورات تغذي بعضها بعضاً، وبعبارةٍ من مجازات الثورة، فإن كل ثورة هي لقاح أخواتها. وبما أن منطق العدوى أصدق في سياق العلة منه في سياق الصحة، فإن انتكاسة أي عنصرٍ تهدد بقية العناصر بالانتكاس والارتداد.
كان من الآثار الأساسية للثورات العربية مضاعفة ما للقضية الفلسطينية من مركزية ضمن القضايا العربية من جهة، وتكثيف ما لها من رمزيةٍ محرجةٍ للضمير الإنساني من جهة ثانية. فكلما تبلبلت الألسنة بما تهتف، تجلت القضية الفلسطينية بوصلة ورائزاً، فبها تتحدّد درجة الوفاء لقضايا الأمة.
إقرأ أيضا: مسار الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي
ومتاخمة فلسطين لمصر (إحدى دول “الربيع العربي”) ولدت امتداداً ثورياً كان بالإمكان أن تنجم عنه تأثيرات دقيقة تغيّر وجه المنطقة، لو لم تظهر في مصر قوى الثورة المضادة، وعلى “الثورة التونسية ستستقر في الضمير الإنساني منوالاً ثورياً أصيلاً” نحو لا يمكن فهمه إلا في ضوء الملابسات الجيوسياسية. وتقديرنا أن الامتدادات الخارجية للثورات، مكانياً وقيمياً، هي بمثابة الارتدادات الحاسمة في مسار الثورات العربية. ولذلك، قدّمت القضية الفلسطينية للثورات العربية أضعاف ما كسبت منها، لا فقط لأنّ القضية الفلسطينية منوال ثوريّ وتحرّري مخصوص في التاريخ الحديث، وإنما لأنّ الأصوات الثورية ظلت تحتاج في إثبات أصالتها وتجذّرها إلى رائزٍ هو ما لها من وفاء لقضايا الأمة على نحو يستتبع، بالضرورة، الوفاء للقضية الفلسطينية. وحسْب المتابع، هنا، أن يُلاحظ أن أكثر ما يقع في مصر بعد الثورة يقرأه الناس بما يقع في فلسطين.
إن مقارنة المضمون الخطابي المجيّش للثورة، في بدايتها، بنظيره الراهن الداعم لنجاحها يكشف حجم ما تعقده الجماهير على الثورة في فجرها، وما تتوجسه قُبيْل الانتخابات من خيفة فشلها. ففي فجر الثورة، لم يكن للجماهير إلا قيودها لتخسرها، واليوم لها حريتها فهل تفرّط فيها؟
في هذا السياق، تتجلى الثورة التونسية في المحيط الإقليمي، وفي السياق الكوني، باعتبارها منوالاً ثورياً، إن انتكس فسينال كل قوى التحرر القائمة أو الممكنة فتور وانتكاس. وإن للملاحظ لمثالاً يمكن أن يقيس عليه، وهو مثال الثورة الرومانية.
ففي السادس عشر من ديسمبر/كانون أول 1989، اندلعت في العاصمة الرومانية بوخارست ثورة أخذت عدّاً تصاعدياً بلغ أوجه خلال أسبوع، وانتهى بإطاحة الدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو، فأُعدم وزوجته في محاكمة صورية بساعتين. وسرعان ما أعْمت الفرحةُ الغوغائيةُ عن حقيقة أنّ للدّكتاتور خلَفًا ألدّ هُمْ جهازه التنفيذي وأداته في القمع. وفي غمرة تهليل الجماهير ونشوتها، تخلّقت جبهة من المستفيدين من حكم تشاوسيسكو، ومن الأجهزة الأمنية، لتشويه قوى الثورة، وكانت الهجومات المدبّرة على مباني الإذاعة والتلفزة والجامعات، وبعض المؤسسات الحساسة، كافية لإفقاد المدّ الثوري مصداقيته في وعي الناس، ولتمكين الرعب من أنفس الرومانيين، فإذا الذين يباركون الثورة أمس يباركون من الغد الانقلاب عليها. فأعمى الخوف والهلع جمهور بسطاء الناس عن أن يروا أنّ الجبهة التي تشكلت بعد إعدام الدكتاتور، والتي كانت تسمى “جبهة الخلاص الوطني” يتزعمها إيون إيليسكو، نائب الرئيس الدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو وأحد عتاة رجاله.
ومن جديدٍ تمت السيطرة على أجهزة الدولة، ووُظفت الآلة الإعلامية في تشويه صورة الشباب
“إقصاء رأس النظام القاهر ليس سوى إزالة لسدادة قمقم، من نظرائه وحلفائه النافذين المستفيدين من حكمه وقهره” الثائر. وفي مرحلة ثانيةٍ، تمّ توظيف عمّال المناجم بتسليحهم في معاقبة شباب الثورة. وخلال يومين من المواجهات، أريقت دماء مئات في رومانيا. وانتهى الأمر بترشيح إيليسكو نفسه مدة رئاسية ثانية أعلن فيها فوزه، على منوال كل الدكتاتوريات بما يناهز تسعة أعشار الناخبين.
القراءة المقارنة بين مساريْ الثورتين، التونسية والرومانية، تكشف نقاط شبه، هي بمثابة الكليات الراسخة في كل حراك ثوريّ، ويمكن حصرها في ثلاث نقاط. الأولى أنّ الجماهير المسحوقة التي لأجلها، وبها تقوم الثورات، تغدو ألدّ أعداء الثورة، إنْ لم يؤطرها وعي ثوريّ يرشّد حركتها. وكثيراً، ما استُعمِل في هذا السياق تشبيه لهؤلاء البسطاء بأنهم بمثابة الغريق الذي إنْ لم تحسن التعامل معه، شدّك إلى الأعماق، فينالك ما يناله من غرق، فالبسطاء في أوطان الثورات هم بالضرورة الأكثر، وهم وقود الثورات الذين يذْكونها، أو يحترقون بها، وحال السلبية هو الذي جعل لهم في أدبيات كثيرة صورة سلبية، فخصوا بأسماء مثل السوقة والرعاع والدهماء والهمج والغَثَر والوخش والبوغاء والرِّجْرِجة والغوغاء..
النقطة الثانية أنّ إقصاء رأس النظام القاهر ليس سوى إزالة لسدادة قمقم، من نظرائه وحلفائه النافذين المستفيدين من حكمه وقهره. وبالتالي، على الجماهير الثائرة أن تعلم أن حالها، بُعيْد الثورة، أشدّ حرجاً، لأنّ المفرد قد غدا جمعاً، ولأنّ من كانوا يختفون وراء الحاكم بأمره قد برزوا للعين المجردة. لكن، على نحو أخطر، بما أنهم سيشكلون كياناً متماسكاً متضامناً، فليس لهذه الكيانات إلا أن تقضي على الثورة، فتكون حياتُها أو تقضي عليها الثورة فتكون نهايتُها.
النقطة الثالثة أنّ ألدّ الأخطار الممكنة للثورات هي وسائل الإعلام، ففي كل نظام مستبدّ يسعى النظام الحاكم إلى ترويض وسائل الإعلام بالعصا طوراً وبالجزرة أطواراً. ولذلك، تجد أن المنعرجات الحقيقية ترتبط بالتحكم في وسائل الإعلام، لاسيما إن كانت الأمور مرتبة، كما وقع في تونس في انقلاب 7 نوفمبر 1987، حيث كانت الإذاعة أوّل جهة يتم منها إعلان الوضع الجديد.
قد يرى متابعون أن القوى النافذة في العالم تعاملت مع الثورة التونسية بما يبرئ ذمتها إزاء بقية الثورات العربية، وبما يرفع عنها العتب في فشل هذه الثورات. ولكن تقديرنا أن في هذا الرأي إهانة واستهانة بإرادة الشعوب، كما أن فيه وجهاً آخر لعقلية المؤامرة، وإن كان، في هذه المرة، تآمراً على إنجاح هذه الثورة وإفشال أخواتها.
من ملامح تلازم الألم والأمل لدى الشعوب العربية ما يدرَك من حركات التحرّر الوطنية، ومن كلفتها العالية، وبالقوانين نفسها التي بها تخلصت هذه الشعوب من مضطهدها الخارجي، ستتخلص من مضطهديها المحليين. ولذلك، نجزم أن ثورات هذه الشعوب لن تهزم، وإنما كل ما في الأمر أنّ كلفة كل منها متفاوتة، وأنّ القانون الأساسي في الثورات هو أن وقودها الدم، وكل قطرة دم خطوة في مسار الحرية الذي كثيراً ما يكون طويلاً.
المستقبل المتوسط والبعيد للثورات أخطر من مآلاتها القريبة والمباشرة، فالثورة الفرنسية ظلت وقوداً يدفع الشعوب المتعطشة إلى قيم الحرية والانعتاق. ولذلك، فشل منوال ثوريّ معيّن هو فشل لكل قوى التحرّر في عهده وبعده. ولذلك، ستجد بين كل دعاة الحرية نصيراً للثورة التونسية، وستكون مثالاً يلهم قوى التحرّر في العالم وعبر التاريخ. ويقيننا اليوم أنّ الثورة التونسية ستستقر في الضمير الإنساني منوالاً ثورياً أصيلاً، وذا كثافة رمزية عالية، وستظلّ قوى التحرر تستلهم قيم هذه الثورة، وتعتبر من مساراتها.
كاتب وباحث تونسي/”العربي الجديد”