لا تولي الطبقة السياسية المغربية، فيما يبدو، كبير أهمية لما يجري في الجارة الايبيرية (إسپانيا) من تدافع وحراك بين القوى السياسية، في مواجهة أزمة حكم غير مسبوقة تولدت عن انتخابات العشرين من شهر ديمسمبر الماضي؛ وضعت حدا للقطبية الحزبية التي عمرت في البلاد ما يقرب من اربعة عقود.
وهذا الموقف ليس غريبا على مكونات الطيف الحزبي في المغرب، على اعتبار ان الجسور بينه وبين نظيره في إسبانيا غير متينة ولا سالكة في اغلب الاوقات، لا يجري تفعيلها الا اضطرارا حينما تندلع ازمة مباغتة بين البلدين، تتم معالجتها بالاسلوب التقليدي الذي دأبنا عليه منذ عهد الديكتاتور “فرانكو” أي بالاعتماد على المراجع العليا والتسليم بالمبادرة لها، جراء غياب رؤى حزبية دقيقة للشأن الاسباني وكيفية معالجة الطوارئ مع جارتنا.
وعلى الرغم من ان المغاربة، رأي عام ونخبا فكرية، أبدوا في شتى المناسبات إعجابهم بنموذج الانتقال الديموقراطي السلمي في إسبانيا وتمنوا ان تتبع بلادهم نفس المنحى؛ إلا ان احزابهم، ولوا وجههم نحو اتجاه آخر ولا سيما التنظيمات التي لها صلات بأشباهها في جارتنا الشمالية. لم تبذل مجهودا يذكر من اجل تطوير وتعميق معرفتها بإسبانيا وتوثيق علاقاتها مع الفاعلين الحزبيين هناك بغاية الاستفادة من الدرس الاسباني في تنظيم وهيكلة الحياة الحزبية والنقابية؛وحتى المجتمع المدني ما زال في طور المحاولة الخجولة.
و لم يوفق حزبا الاتحاد الاشتراكي والاستقلال، اللذان يفخران ان لهما علاقات صداقة، في توثيق صلتهما مع القطبين اليساري والمحافظ: الاشتراكي العمالي، والحزب الشعبي، سواء من خلال تواجد كليهما في الاممية الاشتراكية والدولية الديموقراطية، أو عبر لقاءاتهما الثنائية. لم يستطيعا التأثير على الحزبين اللذين تناوبا على السلطة من عام 1982وإقناعمها بجدوى التعاطي الايجابي والمنصف مع الملفات العالقة والمتناسلة بيننا وبين إسبانيا. عوائق فكرية، لغوية وتاريخية وتباعد سيكولوجي حالت دون ذلك ليس هنا مجال تفصيل الحديث فيها
إسبانيا مقبلة حاليا على تدشين مرحلة سياسية ستطوي تدريجيا تلك التي سبقتها، ظهرت تجلياتها القوية في: برلمان شاب وتعددي حد الانقسام، ازمة في تشكيل حكومة وفشل حتى اللحظة في عقد تحالفات قارة بين مكوناتها قدر من الانسجام، وضع مشتعل في إقليم “كاتالونيا” يهدد بانفجار بؤر توتر في مناطق اخرى.
والمقلق اكثر في هذه الصورة القاتمة، ولكنها سلمية، تراجع هيبة الملكية والتطاول على شخص الملك من قبل اليسار الشعبوي المتطرف، رغم ما ظهر به الملك الجديد، فيليپي السادس، من دماثة في التعامل وتواضع في نمط حياته الشخصية، وقبل هذا وذاك، احترامه التام لبنود الدستور.
ومن الطبيعي ان يساور المغرب بعض القلق من وضع محتقن يتوجب على نخبه السياسية مراقبته واستيعاب مغزى تحولاته حتى نكون على بينة من مستقبل حافل بالمفاجآت السارة والضارة.
اسبانيا أيضا عند مفترق ازمة سياسية قد تنفرج لتنفتح على سيناريوهات واحتمالات في صورة توافقات تاريخية او تدبير حلول مؤقتة، وفي أضعف التوقعات طول مدة الأزمة.
إقرأ أيضا: المغرب وانتخابات إسبانيا..عين على النتائج وأخرى على المستقبل!!
في هذا السياق، بات من شبه المؤكد، ان يترك رئيس الوزراء الحالي المنتهية ولايته، ماريانو راخوي، كرسيه في قصر “لا منكلوا” لمن سيخلفه وسيقاوم لآخر لحظة، معولا على فشل التفاوض بين الاشتراكيين وحزب پوديموس ومكونات اقليمية صغيرة، ليمد يديه من جديد نحو الاشتراكيين، مناشدا فيهم روح المصلحة العليا والحمية الوطنية لحماية وحدة الوطن والشعب.
والواقع ان كثيرين في إسبانيا لا يرغبون في استمرار، راخوي، اذ يعتبرونه المسؤول والمتسبب في عدد من المآزق. يجمعون على انه افتقد خلال ولايته الرؤية السياسية الثاقبة وعابوا عليه نشوته بأغلبيته العددية في البرلمان السابق
كان بإمكانه إبداء مرونة وانفتاح لمعالجة مشكل، كاتالونيا، قبل تفاقمه، ولو تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات للانفصاليين أو اجراء انتخابات تشريعية سابقة لاوانها، تجدد له الدعم او تفسح المجال لغيره. بدلا من ذلك، ضاعف خلافاته الازلية مع الحزب الاشتراكي، ففقد الحلفاء في كل الجبهات.
ومن جهته، ليس مطمئنا المسلك الذي يسير فيه التحالف البديل بين الاشتراكي وپوديموس، مسنودين باحزاب اقليمية، يباعد بين مكوناتها خلافات بخصوص طبيعة الحكم والبرنامج الاقتصادي والنظرة الى الاقاليم المشتعلة بل الموقف من النظام الملكي وصياغة الدستور.
ويأمل، سانشيث، رئيس الحكومة الافتراضية، في اسكات پوديموس، والمتعاطفين معهم، بان يضمن برنامج حكومته اجراءات وتدابير شعبية تنتظرها الفئات المتضررة من الازمة الاقتصادية. وهذا رهان ليس مضمون النتائج، لسبب بسيط يتمثل في ان حلفاءه، ليست لهم تجربة وخبرة في ممارسة الحكم والتريث والاعتدال عند الاقتضاء؛ وبالتالي فان شبح الارتداد عن التحالف وارد، سيظل مؤرقا لرئيس الحكومة، پيدرو سانشيث، وهو غير المدعوم بكامل التأييد والرضى من “بارونات”حزبه.
ويتبين من المشهد الموصوف هنا بإيجاز، ان اسبانيا غارقة في أتون ازمة، قد تتولد عنها ازمات اخرى أكثر استعصاء وتعقيدا، ريثما تستقر البلاد على منظومة سياسية يضبطها دستور جديد.
كيف سيتعامل المغرب مع المجهول الوارد، ووفق اية رؤية وانطلاقا من اية اسبقيات؟
أكيد ان جارتنا هي التي تعاني مما اصابها، لكن مضاعفات العدوى يمكن ان تنعكس على جارها الجنوبي؛ ليس بمثل الاعراض وانما في صورة مخاوف من فقدان محاور مجرب وموثوق به وفيه، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات لا يريدها الجاران لبعضهما.
صحيح ان منطق المصالح المشتركة هو الذي يسود وينتصر في خاتمة المطاف، لكن هاجس الاستقرار لاسبانيا والمغرب يجب ان يتصدر كافة الاسبقيات والاجندات، لما بين البلدين من وشائج بشرية وإنسانية وتطلعات اقتصادية وتحديات مشتركة، ولذا فالتعاضد بين الاثنين يجب ان يظل معطى ثابتا، مهما اشتدت الازمات وتلبدت الاجواء بالغيوم، ليس على حساب طرف ما يوجب معرفة أفضل للطرفين ببعضهما وتقلسم المتلفع والاضرار.
هل من المناسب مثلا ان يفاتح المغرب جارته بهدوء،لتبين موقفه من القضايا الخلافية الأزلية التي ورثتها الديموقراطية الحديثة عن عهود الاستعمار الاستيطاني للمغرب؟ سيكون صادما ان تذعن السلطات الاسبانية لضغوط داخلية تهدد وحدة البلاد، وتفتعل العمى والصمم، عن ظلم تاريخي تسببت فيه اطماع اجدادها، من استولوا بالقوة على ارض لم تكن لهم، ارتووا من مائها واكلوا من خيراتها دهرا!!.
لا يطلب منهم جارهم الان، التعويض عن الاضرار الجسيمة والاعتذار عنها. يكفيهم فتح الملفات العتيقة وإخراجها الى الساحة، لتأليف كتاب المستقبل المشترك
ليس سهلا اقناع الجانب الاسباني، احزابا ورأي عام ومجتمعا مدنيا والقوى الفاعلة الماسكة بأوصال الدولة ومرافقها، بعدالة الحقوق المغربية لكن زحزحتهم عن عنادهم التاريخي ممكن بالتعمق في معرفة المجتمع واستيعاب الاليات التي تحركه وتتحكم في صنع القرار الأسمى في البلاد، بموازاة مع تثمين موضوعي لقوتنا وقدراتنا الذاتية وللاوراق التي بحوزتنا. لا يمكن تغيير الوضع لصالحنا الا في ظل ميزان قوة مختلف.
لقد تغيرت أساليب المواجهة والمنافسة بين الدول، ولم تعد ناجعة تلك التي جلبت الانتصارات العسكرية في الماضي. شرط واحد يضمن النصر وكسب المعارك: ان تعرف سر قوة الخصم وأسباب مناعته، وتحاشي الوقوع في صدمة المفاجأة.
أكيد ان إسبانيا، طبقت القاعدة السالفة، فنجحت في إشغال المغرب عن مطالبه، اعتقادا منها اننا لا نعرف عنها الا القليل السطحي، ناسية ان اطلاعها على عمق تطلعاتنا ناقص هو الاخر. كيف يتجاوز البلدان اخطاء الماضي لصنع الحاضر وتأليف كتاب المستقبل في وئام وانسجام؟
الكرة في ملعب “مدريد”