المغرب العربي الكبير مرة أخرى

قبل ستة أشهر (29 – 11 – 2013) كتبت من هذا المنبر: «قد يقال إنه يلزم التوفر على قدر هائل من التفاؤل حتى يمكن للمرء أن يتحدث الآن عن المغرب العربي الكبير أفقا للتفكير والعمل (…) بشهادة ما تحمله المنطقة في الوقت الحالي من أحداث جسام». ثم إنني تساءلت في المقال نفسه: «أليس من الإسراف في التفاؤل أن نتحدث عن المغرب العربي في وقت تبدو فيه كل المؤشرات سائرة في خط السير المغاير؟». ومتى نظرنا، من جهة أولى، في واقع التوتر الذي لا يزال يشوب العلاقات المغربية – الجزائرية، وتنبهنا، من جهة ثانية، للوضع المؤسف (بل المأساوي) الذي تتخبط فيه ليبيا، فإننا نجد جميع المبررات للقول إن ما أبديناه – قبل عدة أشهر – من استغراب، لا يزال حتى اليوم صالحا. ففيمَ الحديث عن المغرب الكبير أو المغرب العربي إلا أن يكون الأمر إسرافا في الحلم وإغراقا في الرومانسية؟
أما أن في الأمر حلما، فلا أملك تكذيب ذلك، ولست أرى فيه ما يستوجب الخجل أو الحرج أو هما معا، بيد أنه لا إسراف هناك، وإنما هو بشري طبيعي. ومن الأقوال المأثورة عن الزعيم والرئيس الفرنسي شارل ديغول أن الأمل الفسيح أو «القصد العظيم» le grand dessein حافز ضروري للفعل عند الأمم العظيمة. ولو أن الفعل السياسي كان خلوا من الحلم والأمل لتقاعس الناس عن العمل، ولفقد الوجود البشري كل دلالة ومعنى. والمغرب العربي (أو المغرب الكبير – فلست أجد في الأمر ما يحيل بالضرورة إلى نوع من الخطاب الإقصائي الذي يجعل المكون الأمازيغي خارج المشاركة والوجود، كما يذهب إلى ذلك بعض غلاة النزعات الإقصائية، منظورا إلى الإقصاء من زاوية أخرى) قصد عظيم (في عبارة القائد الفرنسي) وأمل فسيح يغذي فكر وعمل المواطن الموريتاني، والمواطن المغربي، والمواطن الجزائري، والمواطن التونسي، والمواطن الليبي، كل على نحو، إذ قد تتباين الأسباب أحيانا، ولكن الحافز في العمق يظل واحدا مشتركا.
لست أقول ذلك بدافع من منظور «قومية عربية» أخنى عليها الدهر، وغلفتها الآيديولوجيا التسلطية بهذا الغلاف أو ذاك، وإنما أصدر عن مقتضيات وطنية (أو «قطرية»، كما هو متداول في الخطاب القومي العربي موضع اعتراضنا). ربما استوجب الأمر عبارة أكثر صراحة وتعبيرا عن القصد، فنحن نقول إن المغرب العربي أفق للتفكير ضروري ومجال للعمل حاجي (نسبة إلى الحاجة، حيث يكون الحاجي عند أصحاب أصول الفقه سابقا على الضروري، وأكثر إلحاحا من الكمالي)، وهو كذلك، بالنسبة لكل بلد من البلدان الخمسة، لدواعٍ ترجع إلى الأمن، من جانب أول، وإلى الاقتصاد من جانب ثانٍ، وإلى الثقافة من جانب ثالث.
في هذه المنطقة من الشمال الأفريقي يتهدد الإرهاب جميع الناس، ويبدو أن «القاعدة» (من خلال تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) هي من القوة والتغلغل ما يجعل واقع التوتر والضعف في مجمل الحدود الجغرافية الثنائية والثلاثية مناخا ملائما لإمداد التنظيم بأسباب القوة وسهولة الانتشار. وإنه لجنون أن تعترض دولة عربية مغاربية على حضور دولة عربية مغاربية جارة في لقاءات التنسيق والتخطيط المشترك، وأن تكون أسباب الاعتراض واهية تحمل على الرثاء أكثر مما تستدعي السخرية. إن طبيعة الصحراء الشاسعة في جنوب بلدان المغرب الخمسة، ومتاخمتها لمنطقة الدول الأفريقية ذات الوضع الهش (أمنيا واقتصاديا وسياسيا)، كل هذه عوامل لا تستوجب التنسيق وتضافر الجهود من أجل الوقوف في وجه التنظيم العالمي الخطير، وإنما تجعل من الانصراف إلى الجهود الفردية لكل دولة من الدول الخمس على حدة جهدا مبددا وعملا لا طائل من ورائه، فضلا عن كلفته المالية العالية. دون جهد مغاربي منظم ومتصل، لا سبيل ناجعا لمحاربة التنظيمات الإرهابية، ونحن نقول إنها سذاجة في التفكير أن يماثل المرء بين «تنظيم» التنظيم الإرهابي وعصابات المخدرات والتهريب، وإن كان التقاطع يجري بينهما، وكان التنظيم الإرهابي يتوسل بخدمات شبكات المخدرات والتهريب أحيانا.
وأما من جهة الاقتصاد، فإن من المفيد أن نتنبه إلى ما تقضي به الجغرافيا من جهة وجود دولتين من الدول الخمس على شاطئ المحيط الأطلسي، وتجاور ثلاث منها قبالة أوروبا الغربية، مع انتسابها إلى البحر الأبيض المتوسط. لا يكمن السبب الاقتصادي في عظم المغرب العربي سوقا للتبادل التجاري والاستهلاك (ولا تزال المجموعة الأوروبية خاصة ترى في المغرب العربي سوقا ضخمة في جنوب البحر الأبيض المتوسط، ومعبرا إلى شطر مهم من القارة السمراء – وهذا صحيح بطبيعة الحال). ومن نافلة القول إن المكاسب الاقتصادية في العمل والتنسيق والتكامل تفتح أمام المواطن المغاربي آفاقا رحبة، فهي تذكي ذلك «القصد العظيم»، والحق أن الملك محمد السادس (في خطابه في البرلمان التونسي) قد لامس من هذه القضية جوانب جوهرية محورية وأحيا في كثير من النفوس أملا وشوقا – بشهادة ما قرأناه من تعليقات الملاحظين، وما شاهدناه من انطباعات المواطنين التونسيين في الشارع التونسي. وبالجملة، فإن الدواعي الاقتصادية تمثل الحجة الأشد بلاغة في الانتصار لفكرة المغرب العربي الكبير، لا بل إنها تعادل دواعي الأمن من حيث القوة والتأثير.
ومتى أخذنا الثقافة في المعنى الواسع، فنحن نجدنا أمام أسباب هي من جهات المنطق والتاريخ والمكونات اللسانية والروحية والوجدانية تزري أضعاف أضعاف بتلك الأسباب التي تذكر في محيط مجموعة دول الاتحاد الأوروبي. يكفي أن نستطلع رأي المواطن في البلدان الخمسة عن أذواقه في الأكل والموسيقى، ونمط احتفائه بشهر رمضان وبعيدي الفطر والأضحى والاحتفال بالمولد النبوي، أو أن نستمزج رأيه في مسلسل تلفزيوني تبثه (في اليوم ذاته أحيانا) القنوات التلفزيونية في ليبيا وتونس والجزائر وفي المغرب وموريتانيا.
لسنا البتة أمام ضرورة الحديث عن الدواعي التي تجعل الحديث عن المغرب العربي (أو المغرب الكبير) حديثا مستساغا حتى في أزمنة الأزمات الحادة، حيث نجد العوامل التي تحمل على الانكفاء على الذات تمتلك مبررات القوة والتغلغل، بل إن ضرورة الأمل الطبيعي و«القصد العظيم» الضروري لحياة الأمم والشعوب، وكذا البنيات النفسية والثقافية (فضلا عن دواعي الأمن والاقتصاد).. كل هذه أسباب تحملنا على التساؤل عن العوائق التي تقف في وجه تطلع طبيعي مشروع. ونحن إذ نتحدث عن العوائق، فنحن ننفذ إلى دائرة المعقول الذي يقبل الفهم والمجاوزة معا.
“الشرق الأوسط”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *