لم يتوقع الشباب الذين فجَّروا حركةَ السابع عشر من فبراير 2011 أن ما اعتقدوه ثورة سيفتحُ لهم البابَ مُشرعا أمام ليبيا جديدة: ليبيا المليشيات المُدجَّجة بالسلاح، المنقسِمة على نفسها أشدَّ انقسام، والمُستعِدة لفعل كل شيء، عدا السِّلم الذي يُدخل لأنفسِهم أملَ إعادةِ بناء وطن كابدَ المَ التعسّف والتّوق إلى الحريات أكثر من أربعة عقود. والأخطر من ذلك، لم يكن يتخيّل هؤلاء الشباب أن تَناحُرَ بني جلدهم سيُنبتُ فوق أرضِهم آفةَ الإرهاب، ويُجلبُ إليهم، من كل حَدب وصَوب، من أطلقوا على أنفسِهم عُنوة لَقبَ “الجهاديين”، و الحال أن الجهادَ براء منهم براءة الذئب من دم يوسف.
لم يكن خافيا على كل مُطِّلع على الشأن الليبي أن إسقاطَ النظام تحت قصفات “الناتو”، لن يُنقلَ البلاد إلى برِّ الأمان بسهولة، كما لن يُتيح فرصَ إعادة بناء ليبيا دون كُلفة بشرية ومادية باهظة. والحقيقة أن قبل أن تجف دماء المتناحرين غداة سقوط النظام، اكتشف الليبيون صعوبة المراحل التي تنتظرهم، وحجم الجهود التي هم مطالبون القيام بها لوضع بلدهم على سكة الأمان. فأكثر من أربعين عاما من حكم “القذافي” لم تمنح الليبيين اندماجا وطنيا يُذيب قبليتَهم، ويوحِّد ولاءَهم للدولة، كما لم يُسعِفُهم في تكوين حياة حزبية قادرة على تربيتهم على الشأن العام، والإحساس بالعيش المشترك، بل إن نمط الحكم الذي ساد على مدار كل هذه السنين، أفقد الليبيين كفاءة الاستقلال بذاتهم، والتمرّس على ثقافة البناء المشترك. لذلك، ليس صدفة أن يتمزق ولاء الليبيين بين برلمانين، وحكومتين، وأكثر من جيشين، وأن تعجزَ حتى الآن جهودُ المجتمع الدولي في إقناعِ المتصارعين بصياغة مخارج لتجنيب بلادِهم أفقَ الحرب الأهلية على شاكلة ما هو حاصل في العراق و سوريا.
من المفارقة أن دَخلت الأزمةُ الليبيةُ دائرةَ النسيان في لُعبة الأمم، ولم يُلتَفت إليها إلا بعدما شرع تنظيم “داعش” في التمدُّد والاستيلاء على قُرابة رُبع الأراضي الليبية. ففي أوج الشعور بالخطر، غداة ترهيب العاصمة الفرنسية باريس، تعالت دعواتُ الانتباه إلى ما يجري في ليبيا قبل فوات الأوان، والعمل على إنجاح جهود المصالحة الوطنية، وحثّ المتصارعين على إخراج بلادهم من شرنقة لغة السلاح. فغير خاف الجهود التي بذلها المبعوث ألأممي “برناردينو ليون” على مدار عدة شهور، وإلى جانبه المملكة المغربية التي استَضَافت أرضُها مدينة الصخيرات، جولات المفاوضات، التي، مع الأسف، لم تُدرك مقاصِدَها النهائية باستتباب السلام في ليبيا. لذلك، احتضنت تونس الأحد الماضي 14 كانون الأول/ ديسمبر 2015(حوارا أسفرَ عن اتفاق مبدئي لإنهاء الصراع القائم بين المتحاربين في ليبيا. كما أعلنت إيطاليا على لسان وزيرها في الخارجية والتعاون الدولي “باولو جينتيلوني”، عن التئام مؤتمر متوسطي من أربعين دولة في العاصمة روما، يُتوقَّع أن يتناولَ بالحوار والمناقشة قضية ليبيا، وأزمات منطقة البحر الأبيض المتوسط والخطرَ الإرهابي، وكذلك قضية الهجرة بين الضفتين.
إقرأ أيضا:ليبيا و«داعش».. والناتو الحائر
لكن بالمقابل، ثمة طبولُ حرب بدأت تدقُّ في أكثر من عاصمة دولية وإقليمية، تُرجِّح خيارَ التدخل العسكري للقضاء على “داعش” واستعادةِ الأمن لليبيا، والدَّفع بالمتحاربين إلى التوافق على أرضية مشتركة للمصالحة وبناء مؤسسات الدولة الجديدة. نَلمَسُ هذا التوجه في تصريحات المسؤولين الفرنسيين، وتصريحات بعض الدول العربية، من قبيل دولتي الإمارات العربية المتحدة ومصر، اللتين لم تترددا في الإعلان جهرا عن رغبتهما بالتدخل العسكري في ليبيا. ففرنسا، التي اكتوت، أكثر من غيرها بنار الإرهاب في الثالث عشر من الشهر الماضي، غدت على رأس الدول المُشجِّعَة على الخيار العسكري، والداعية إلى ضرورة الشروع في تنفيذه. فبلهجة قوية لم يتردد وزيرها في الداخلية “مانويل فالس ” في القول: “يتوجب على فرنسا أن تحارب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في ليبيا”، ليُضيف “نحن نتعايش مع التهديدات الإرهابية ونحن نحارب عدونا من أجل تدميره في سوريا والعراق، لكن غدا علينا مواجهته من دون شك في ليبيا”. والواقع أن كلاما من طينة هذه اللهجة جاء بعد أيام من تسرّب معلومات مفادُها قيام مقاتلات فرنسية بعمليات استكشاف ورصد في أجواء مدينة “سرت” الليبية، حيث يتطلع تنظيم “داعش” إعلانها مقر “إمارته القادمة”.
تقنعُ المُعطيات أعلاه، أن الأحداث في ليبيا تتسارع بقدر تسارع تطلعات “داعش” إلى إقامة “إمارة البغدادي” . فدون شك، ستُفضي الأيام المقبلة عن أي الخيارين سيجد طريق تطبيقه على الأراضي الليبية: دقّ الطبول، أم تصالح الليبيين مع أنفسهم، وتجنيب بلدهم آفة السلاح والتدخل العسكري. وفي كل الأحوال يبدو الخياران واردين، بل ربما هما معا ضروريان لاعتبارات موضوعية، أبرزها أن المناخ السياسي والثقافي العام داخل ليبيا لم ينضج ويكتمل بعد، حيث لازالت ثقافة الانقسام القبلي والجهوي ضاغطا، والسلاح منتشر ومتاح بشكل مدهش، والمتحاربون موزعون على أكثر من ولاء . وبالمقابل، ثمة واقع خطير يتشكل ويزداد قوة، إنه واقع تنظيم “داعش”، الذي يجهد من أجل تحقيق حلم “البغدادي” في ربط المشرق بالمغرب واستكمال بناء “عمارة الإمارة” المزعومة.
إن الحاجة ماسة لينصت الليبيون لنداء بلادهم، وفي الآن معا يحتاجون لدعم دولي يسندهم للقضاء على “داعش” دون تحويل أراضيهم إلى مقبرة لدفن كل آمالهم في بناء ليبيا جديدة تنعم بخيراتها، وتُعيد الأمل للشباب الذين أطلقوا ثورتها، ويتطلعون لقطف ثمارها في الحرية والعيش الكريم.
* أستاذ جامعي/”عربي21″