شرور الإرهاب كثيرة، لكن بعض تداعيات التنسيق في الحرب عليه تصلح ما تفسده خلافات السياسة. وفي الوقت الذي أعلنت فيه باريس تعليق العمل بتعهدات ذات صلة بأوضاع حقوق الإنسان، ضمن مقاربتها الجديدة في التصدي للمخاطر، بعد تعرضها لهجمات إرهابية وحشية، يكون لافتاً أن المؤاخذات حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه هذه الحرب المفتوحة بدأت تتراجع في عقر عاصمة الأنوار والحرية باريس.
لا يعني الأمر استباحة الإفراط في استخدام أساليب غير قانونية ولا إنسانية، ولكن العقوبات تتوازى وأضرار الجرائم كإحدى المعادلات التي أقرها المجتمع لدرء فتن الفوضى والظلم وانتهاك الحرمات والخصوصيات. وبين درجات الجدل الحقوقي وحوافز صون الأمن والاستقرار تتوزع الآراء والاجتهادات، وتلتقي عند استخدام سلطة القانون غير القابلة للتجزئة. وإن كان الراجح أن إعلان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند أن بلاده تخوض حرباً حقيقية ضد الإرهاب، بالمعنى الكامل لمفهوم الحرب، أبعد أي تساهل أو مرونة في التصدي لمن يفتح النار على الأبرياء، من دون وازع ضمير أو رعشة خوف أو احترام لماهية الإنسان وحقه في الحياة.
في العلاقة بين الرباط وباريس، لم تستأثر قضية بالاهتمام أكثر من حالة طلب مدير جهاز الاستخبارات الداخلية المغربية عبد اللطيف الحموشي إلى التحقيق في مزاعم حول التعذيب. وسواء كان الطلب ارتدى طابع تقديم شهادة أو المساءلة، فإن ردود الفعل التي رافقته أدت إلى أزمة خانقة، هيمنت على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين الحليفين والصديقين، وألقت بظلالها على مفاهيم ومرجعيات سرعان ما توارت أمام المصالح الكبرى للدول.
إقرأ أيضا: التعاون الأمني بين المغرب وفرنسا
كان من نتائج الأزمة أنها عاودت البحث في الاتفاق القضائي المبرم بين البلدين، لناحية ضرورة ملاءمة حدود ومجالات التعاون، من دون تغليب طرف على الآخر، أي تكريس مبدأ الاحترام المتبادل الذي لا ينتقص من استقلالية القضاء، وفق مرجعيات القوانين الدولية وضوابط السيادة. ومن أجل معاودة الدفء إلى منابع الصداقة المتميزة، أعلن وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف عن قرار بلاده منح مدير الاستخبارات المغربية عبد اللطيف الحموشي وساماً رفيعاً من الدولة الفرنسية.
كانت الرسالة قوية، تفيض بدلالات، ليس أقلها أن العلاقات بين الدول لا تتأثر بعوارض طارئة. وكانت تلك الالتفاتة أقرب إلى اعتذار مهذب، وإن لم يحدد المسؤولية إزاء تعريض علاقات استراتيجية إلى نزوات من نوع أشكال الحروب النفسية أو بالونات الاختبار. لكن الرد المغربي كان مغايراً، وحين التفتت باريس إلى جوارها تبحث عن الخيوط الرفيعة لتطويق الهجمات الإرهابية على باريس، كانت الاستخبارات المغربية سباقة إلى مدها بطوق النجاة.
حروب الأجهزة قائمة باستمرار. وفي الحرب على الإرهاب، بدا أن الإمساك بالمعلومات واقتناصها استباقياً أفضل إجراء احترازي. وقبل أن يضع مدير الاستخبارات الداخلية الوسام الفرنسي على صدره، التأم في باريس اجتماع أمني رفيع المستوى في حضور وزيري داخلية المغرب وفرنسا وكبار المسؤولين الأمنيين الذين كان الحموشي في طليعتهم. فهمت الرسالة على أساس أن التكريم مزدوج، وأن حضوره إلى باريس يعتبر في حد ذاته اعترافاً بالدور المشهود له في الحرب على الإرهاب.
أبعد من ذلك، أنه خلال فترة ما بعد هجمات شارلي إيبدو في باريس، انبرت أصوات من دوائر نافذة في فرنسا تدعو إلى معاودة تقويم التعاون الأمني مع المغرب، بما يجنب علاقات البلدين أي مزالق، وقال وزير الداخلية الفرنسي السابق شارل باسكوا إنه لا يعرف سبباً وجيهاً لحدوث تلك الأزمة التي أصبحت اليوم عابرة، وضعها البلدان إلى الخلف.
الآن يلتقي اليمين واليسار الفرنسي على أهمية الانفتاح أكثر على تجارب بعض بلدان الجنوب في الحرب على الإرهاب. وحبذا لو شمل الانفتاح البحث في مقاربات موضوعية، لا تستسلم لمشاعر متشددة، أكانت صادرة من أبناء الشمال أو الجنوب. فالمطلوب تعاون آخر يعاود بناء توازن العلاقات بين الدول.
*كاتب صحفي/”الحياة”