ما كان أوسع المحللين خيالا يتوقع أن تتحول ليبيا التي حوّل زعيمها الراحل العقيد معمر القذافي اسمها من ليبيا إلى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، إلى مقرّ رئيسي للجماعات المتشددة، خاصة جماعة الإخوان المتأسلمين، غير أن الجحيم العربي لم يكن كارثة على القذافي والمنطقة العربية وحدهما، ولكنه امتدّ إلى ليبيا ليحيلها من دولة نفطية غنية ومتماسكة، إلى أرض تعمها الفوضى وتتنازعها الأطماع الداخلية والإقليمية والدولية، ويمزقها أبناؤها بأيديهم في صراعات لا تنتهي.
الشغب الليبي ليس جديداً على العالم، فالقذافي ارتبط اسمه كثيراً بالإرهاب، واشتهر بتمويله الحركات التي كانت ترفع مسميات ثورية وتحررية، وكان يحكم قبضته الفولاذية على الدولة التي حافظ على غناها ووحدتها وتماسكها رغم الكثير من التصرّفات الطائشة التي كان يواجه بها خصومه دون مبالاة، فقد تضايق العالم كثيراً من تصرفاته المريبة التي استهدفت دول المنطقة وغيرها، وتأذّت الدول العربية كثيراً من التصرفات الليبية في السابق، خاصة دول الجوار التي أرهقتها الجماهيرية الليبية بتمويل وتحريك مختلف التحركات والاضطرابات التي كانت تمولها بحجة مناصرة حركات التحرر العالمية. فالقذافي، ذلك الضابط الصغير ذو الـ27 عاماً الذي قفز إلى كرسي الحكم في 1969، بينما كانت معظم شعوب المنطقة تعيش نشوة التحرر من المستعمر الغربي وتشكيل أسس حكم محلية يتحكم فيها مواطنو كل دولة بشؤون دولتهم، وكان شديد الإعجاب بجمال عبدالناصر الذي أطلق دعوة الوحدة العربية، وحاول جاهداً قيادة المنطقة العربية لوحدة تكاملية رغم أنه أرهقها بمزيد من الحروب التي زادتها ضعفاً، خاصة وأن الاستعمار عندما خرج كان قد ترك وراءه هاجساً عربياً كبيراً تمثّل في تنفيذ وعد بلفور الذي اقتطع دولة فلسطين.
جنون العظمة، ومحاولات تقليد عبدالناصر، وبناء أمجاد شخصية بالتواصل السخي مع قادة الحركات الثورية والتي كان يغلب عليها طابع الفكر اليساري، في عالم كان يتحكم به قطبان كبيران يحكمان العالم، حيث كان الاتحاد السوفييتي يمثل دعوة الاشتراكية التي تبشّر الشعوب الفقيرة بعهد جديد من المساواة وتقاسم الثروة والسلطة في أوضاع لا تفرّق بين من يبذل جهداً أكبر أو أقل، بينما الولايات المتحدة الأميركية التي لازالت متماسكة حتى بعد تشظّي الاتحاد السوفييتي إلى دول، كانت تبشر بالرأسمالية التي تطلق العنان لكل مجتهد لينال نصيبه حسب اجتهاده، وتترك القاعد لمصير مجهول. وقد تخّبط القذافي بين المعسكرين، ثم ما لبث بعد أن وجد صعوبة كبيرة في تطبيق تلك الأفكار التي لم تُخلق لمنطقته، ولم يتم تفصيل ملبسها على قياساتها الحقيقية، فجاء ببدعة الاشتراكية التي جسّدها في كتابه الأخضر المثير للسخرية، والذي وجد صعوبات كبيرة في تطبيقه حتى على المواطن الليبي الذي لم يستوعب من سطوره الكثير سوى نظريات تقاسم الثروة والسلطة، غير أن تقاسم الثروة كان مجرد شعار فالقسمة كانت بين كامل الشعب ومعه تمويل العديد من التحركات الإرهابية في مناطق مختلفة، وبين القذافي وأبنائه والمحيطين به وبعض حلفائه، والذين تكشفت الكثير من أرقام حساباتهم السرية بعد سقوط حكمهم.
وبطريقة مأساوية جاءت نهاية القذافي، على أيدي قوى عديدة، ولم يقف وقتها المراقبون عند حادثة مقتله، فدخول التنظيم الإخواني المتأسلم ومن يقف إلى جانبه من داعمين وحركات إرهابية جاء بأيد أجنبية بعد أن شاركت الكثير من الاستخبارات الغربية علناً في إزاحة نظام القذافي، وخلق وجود للإخوان بليبيا، مما يقدم دليلا مادياً قوياً على ارتباط التنظيم الإخواني بالاستخباراتية الأجنبية، خاصة أن الكثير من عناصرهم عاشوا فترات طويلة في الغرب يتأهبون للعب هذا الدور.
الدرس الثاني الذي لم يقف عنده المراقبون في حادثة قتل القذافي وسقوط نظامه هو الأسلوب الذي قُتل به والذي كان يمثّل رسالة لم يحسن الجميع التقاطها في حينه، وهو عرض الطريقة التي سيتعامل بها هذا القادم الإخواني الجديد مع خصومه، وأيضاً أسلوب الازدواجية الذي استخدمه، فقادة المقاتلين وقتها كانوا ينتقدون سياسات القذافي القمعية، وتعذيب أجهزة أمنه القاسي لمعارضيه، وإساءته لسمعة البلاد خارجياً.. في تناقض بين الخطاب والفعل تواصل ليصبح قاعدة إخوانية مكشوفة. فمنتقدو التعذيب ومطلقو اللحى، يقتلون الرئيس المسن بطريقة مثيرة للامتعاض، كما يقطعون سبابة ابنه سيف الإسلام. والعجيب أن إعلام غالبية الدول الإسلامية لم يبد دهشته من تلك التصرفات؛ فوجود العميل الإخواني المدعوم بمستهدفين غربيين مكّنته من السيطرة على العديد من منافذ الإعلام العربي، خاصة تلك التي تتيح نفسها أمام الرأي الآخر، والتي بدلا من شجب القتل، كانت تهلل للحدث وتصوّره عملا بطولياً، بل وتحرّض بقية شعوب المنطقة على تقليده نشراً للدعوة الإخوانية الجديدة.
وقبل أن يجف مداد خبر مقتل القذافي، تعمّدت تلك التنظيمات طرح صورة الدولة الإخوانية الجديدة في ليبيا، وهي عبارة عن إقطاعيات لعصابات الإسلام السياسي، تحتكر كل حركة منها قطاعاً يمثّل دولة داخل دولة، فالفوضى هي الجو المثالي للحكومات الإخوانية. وإلقاء نظرة سريعة على الدول التي تضم التنظيم الإخواني المتأسلم توضح هذه الحقيقة، وهذا ما يجعلنا نقرع أجراس الخطر بناءً على الأخبار المتداولة حول ترحيل قادة «الإخوان» من قطر إلى ليبيا لاتخاذها مقراً لهم، وحلّا للمشكلة التي أوقعوا فيها دول مجلس التعاون الخليجي، والتي أدّت لأول مرة في تاريخ المجلس إلى سحب ثلاثة سفراء دفعة واحدة. غير أن هذا الخيار سيخلق قلقاً كبيراً للمنطقة، فتجميع الإخوان في بلد تحكمه الفوضى سيمكنهم من السيطرة على ليبيا واستغلال مواردها، ومن ثم العودة مجدداً لمربع استهداف الدول الأخرى بذرائع انتقامية، خاصة وأن التنظيم الإخواني حالياً في وضع الجريح المتهالك الأشبه بالشركة المفلسة، ما يجعله يوافق على كل الشروط في سبيل أن ينتقم، إضافة لموقع ليبيا المتاخم لمصر.
من ناحية أخرى تبقى الحالة الليبية درساً مفيداً لكل الشعوب الخليجية، خاصة من انقادوا وراء الأوهام الزائفة وتبعوا خطوات الشيطان الإخواني. فليبيا مرت بثلاث حقب متعاقبة ومتناقضة: الحكم الملكي المتمثّل في آل السنوسي، والحكم العسكري بقيادة القذافي، ثم الحكم المتأسلم الحالي. ولو قرأنا جيداً حال الشعب الليبي في كل من تلك النماذج لأدركنا أيّ أنظمة الحكم هو الأصلح لمجتمعات المنطقة، خاصة لو أخذنا بعين الاعتبار أوجه التشابه بين ليبيا ودول الخليج، مثل التركيبة القبلية والثروات النفطية وقلة عدد السكان.. لنلاحظ الأسباب التي حافظت على منطقة الخليج من الانجراف نحو حرائق الجحيم العربي، وهي ذات الأسباب التي ستحافظ على نهضتها وتقدمها الحالي والمستقبلي.
الاتحاد الإماراتية