ينسى العالم كل سنة، ذكرى ثورة القرنفل البرتغالية التي أطاحت يوم الرابع والعشرين من ابريل 1974 بأعتى وأبشع الأنظمة الاستبدادية في القرن العشرين.
وليس ذلك الانجاز هو الفضيلة الوحيدة التي ميزت ثورة قادتها نخبة من الضباط الشباب، تزعمهم قائدهم العام الجنرال المخضرم “انطونيو دي سبينولا” بل انهم اشركوا المدنيين من الحزب الاشتراكي والشيوعي،في ممارسة الحكم،منذ الايام الاولى، حيث كلفوا الاشتراكي، ماريو سوايش، وزير الخارجية، بتصفية ملف المستعمرات البرتغالية في افريقيا وآسيا،انتهت بانسحاب الجيش البرتغالي وعودته السريعة الى البلاد.
وفي هذه النقطة بالذات، تعد الثورة البرتغالية، اكثر اهمية بمعنى من المعاني،من التحول الديموقراطي الذي جرى في اسبانيا جارتها الايبيرية، اذ تمسكت الاخيرة بالمستعمرات القديمة، ولولا دهاء الملك الراحل الحسن الثاني، لظل الجيش الاسباني مرابطا في الاقاليم الصحراوية،او لسلمها الى جهة مجهولة.
كانت المسيرة الخضراء “ضربة معلم” استغل فيها الملك الرحل، بذكاء، فترة الاحتضار الطويل للطاغية، فرانكو، والارتباك الذي ساد صفوف انصاره وهو يصارع الموت.
وكما هو معروف، لم يتبع المسار الثوري في البرتغال،نفس الخط الذي آمن به “وتمناه ثوار القرنفل” حينما شكلوا تحالفا تاريخيا، لا نظير له في العصر الحديث،بين المدنيين والعسكريين، سلموا بعده طواعية، مصير البلاد لتداول بين الاحزاب السياسية على الحكم، في اطار التعددية الحزبية ووفق اعراف الديموقراطية الغربية الى ان اصبحت البلاد عضوا في الاسرة الاوروبية.
ومكن التطور الذي سارت فيه البرتغال، من تجريبها لصيغ عدة في الحكم الانتقالي والمستقر: ففيها حدث تساكن، ربما قبل فرنسا، بين رئيس يميني ورئيس وزراء يساري، ثم جرى العكس اثناء ولايات لاحقة. تلك التجربة السياسية الخصبة، لم تنل ما تستحقه من دراسات تحليلية ومقارنات،بينها وبين التجارب المماثلة في الخارج، ما يعني بصريح العبارة، ان البرتغاليين غير راغبين في تسويق تجربتهم في التداول على الحكم،او لانهم لا يعرفون كيف يقدمونها للناس على طبق من حرير. وحتى أوروبا عاملت ثورتهم بلامبالاة وتنظر اليهم بنظرة تتسم بنوع من الغرابة، غير مكترثة بما يحدث في ارض كانت في الماضي ذات مجد عسكري اوصل جيوشها حتى البرازيل وفي النهاية تحرر من ارث المستبدين: سالازار وكايطانو.
وفي سياق اللامبالاة او ما يشبهها، لاذ الاتحاد الاوروبي بالصمت حتى اليوم، حيال سن قوانين اتفقت عليها الاحزاب الممثلة في البرلمان، اغلبية ومعارضة، تقضي بفرض قيود صارمة ورقابة قبلية على حرية الصحافة، خلال الفترة الانتخابية ابتداء من تاريخ الاعلان عن الترشيحات، دون اقتصار الاجراءات الاستثنائية على فترة الحملات التنافسية التي تستمر اسبوعين.
وبالاطلاع،على مضمون الترتيبات السالبة لحرية التعبير مؤقتا، يتساءل الملاحظ كيف اتفقت الطبقة السياسية على تلك القوانين الرادعة وهل يوجد لها سند دستوري؟ ولماذا لم يحتج عليها الاتحاد الاوروبي، على اعتبار انها تشكل خروجا عن المبادئ الديموقراطية، اما المنظمات المتشدقة بالدفاع عن حقوق الانسان، فقد سكتت بدورها.
يومية “الباييس” الاسبانية نشرت في طبعتها الالكترونية، ليوم امس (23 ابريل) تفاصيل عن التدابير الرقابية التي الزم الاعلام المرئي والمسموع، الرقمي والتناظري، المكتوب والمبثوث عبر الفيديوهات في البرتغال، بالتقيد بها، شمل حتى صفحات الانترنيت الاشهارية لصالح المرشحين واحزابهم،اذ باتت مجبرة على الالتزام بنفس التقنينات والتصريح مسبقا بمضامين صفحاتها، والا اصبحت تحت طائلة القانون وتغريمها هي والمخالفين، بذعيرة مالية تصل الى 50 الف يورو.
وينسحب تطبيق القرارات على اصناف المواد الصحافية،سواء كانت في صورة اخبار، تعليقات، تحاليل، ريبورتاجات، مقابلات أومناظرات. تحقق في استجابتها للنعايير والبت بصلاحيتها او عدمها، لجنة مؤلفة من الاحزاب السياسية.
ويشترط القانون ان تاخذ المواد حيزا محددا لا تتعداه، كما لا يجوز لصحافي، ان يختص في تغطية حزب بعينه طوال فترة الحملة الانتخابية،كيفما كان مضمون كتاباته، لصالحه او ضده.
حزب واحد،غير ممثل في البرلمان، اسمه livre انفرد بالاحتجاج على الاجراءات الصارمة واعتبرها تصب في مصلحة الاحزاب الكبيرة الممثلة في الجمعية التشريعية البرتغالية.
واذا انصاع الفاعلون السياسيون والاعلاميون لتلك التدابير غير المسبوقة في الحملات الانتخابية، فسيكون لهذه الاخيرة طعم هادئ وفريد من نوعه ؛ وقد يتسبب في ردود فعل معاكسة للناخبين يعبرون من خلالها عن اختيارات لا يتوقعها احد.
درس آخر في الديموقراطية وحرية التعبير، تقدمه البرتغال، بهدوء تام. ربما يراودها يقين ان ما يحدث فيها لا يهم الا البرتغاليين، على اعتبار ان الراي العام الخارجي، دأب على التغاضي عنها، ومن حقها ان تلقنه درسا مستقلا في التخليق السياسي وحرية التعبير.
*تعليق الصورة: الجمعية التشريعية البرتغالية