تواجه رئيسة جمهورية الارجنتين، كريستينا فرنانديث كيرشنير، موجة من النقد على اثر الكشف عن قرار تعيينها للقاضي الاسباني المكلف بقضايا الارهاب، بلتسار غارثون، الذي كلفته الرئيسة بمهام التنسيق بين أعضاء هيئة المستشارين المكلفين بمتابعة ملفات حقوق الإنسان، لدى رئاسة الجمهورية.
ومنحت الرئيسة بموجب قرار جمهوري، القاضي غارثون، رتبة وظيفية سامية (كاتب دولة) بمرتب 6711 يورو، حسب السعر الرسمي لصرف عملة الارجنتين ( الپيصو).
وأمام تداول القضية على نطاق واسع في صحافة الأرجنتين وشبكات التواصل الاجتماعي، سارع غارثون، المممنوع من ممارسة مهنة القضاء في بلاده اسبانيا لمدة 11 عاما، بناء على قرار تأديبي، غير قابل للطعن، أصدرته في حقه السلطات القضائية العليا في مدريد؛ سارع الى تصحيح مبلغ الراتب الذي يتقاضاه من حكومة الأرجنتين، موضحا انه لا يتجاوز 4455 يورو.
وبخصوص تعارض مهمته الرسمية الجديدة مع سجله المهني السابق، باعتباره مرتكب مخالفات قانونية وخرق أعراف وأخلاقيات العدالة أثناء عضويته في المحكمة الوطنية بمدريد، رد القاضي الموقوف ان الإجراء الصادر بحقه لا يحرمه من ممارسة أية مهنة باستثناء القضاء في بلاده، وانه سيسترد موقعه في هيئة العدالة باسبانيا، بمجرد انتهاء مدة حرمانه من المزاولة.
وكان غارثون، صار نجما ورمزا لطهارة العدالة في اسبانيا والعالم، فقد اشرف على التدبير القضائي لملفات الإرهاب، حيث منح سلطات واسعة مكنته من إجراء تحقيقات خارج اسبانيا لمطاردة الإرهابيين والمتعدين على حقوق الإنسان وخاصة في أميركا الجنوبية.
ويذكر انه نجح في استصدار قرار من السلطات البريطانية بالتحفظ على الديكتاتور الدموي، اوغوسطو پينوشي، رئيس الشيلي الأسبق، الذي قاد انقلابا دمويا على الرئيس اليساري المنتخب، سلفادور اليندي، في سبتمبر عام 1973. حيث قتل الرئيس الشرعي في قصر “لامونيدا “بالعاصمة “سانتياغو” وهو يدافع عن الشرعية ورشاشه في يده.
واستطاع غارثون، استمالة وتأليب الرأي العام الدولي، الكاره آنذاك للديكتاتور پينوشي، الذي ظل مخيفا للنظام الديموقراطي الذي خلفه فيدالشيلي، مهددا بتأثيره على القوات المسلحة، ومحصنا أي، بينوشي، بقرار عدم متابعته قضائيا جراء جرائمه، بل انه اجبر السلطات الجديدة على منحه عضوية مجلس الشيوخ مدى الحياة، وهي الصفة التي عززت حصانته المفروضة واضطر النظام الديموقراطي الجديد للقبول بها بالنظر الى صعوبة الانتقال السياسي في البلاد،
ونتيجة لقرار، غارثون، ملاحقة پينوشي، سافر الأول الى بريطانيا حيث كان الثاني يتلقى العلاج من أمراض الشيخوخة، واقنع السلطات البريطانية بالتحفظ على الجنرال الوحش، تحت الإقامة الإجبارية، ريثما يقرر غارثون مصيره بعد استكمال التحقيقات.
وأثار احتجاز، پينوشي، في لندن، نقاشا قانونيا واسعا، تناول الحدود التي يمكن ان تقف عندها او تتجاوزها العدالة الإنسانية باعتبارها مفهوما جديدا افرزه تطور الحريات وثقافة حقوق الإنسان في العالم، للحيلولة دون إرهاب الدولة وارتكاب جرائم إنسانية، يقترفها في الغالب من يكونون على رأس السلطة في بعض البلدان، البعيدة عن الديموقراطية.
وساعدت المواقف الصارمة التي اتخذها القاضي غارثون، بخصوص ملفات الإرهاب وحقوق الإنسان التي باشرها، في انتشار شعبيته بعدد من دول أميركا الجنوبية التي عانت من أنظمة عسكرية فاشية. وصار القاضي الاسباني رمزا للقصاص العادل باسم الاف الضحايا والثأر العادل لذويهم . هكذا أصبح قطبا حقوقيا وإنسانا محبوبا وخاصة في الأرجنتين التي عانت أكثر من غيرها من ديكتاتوريات عسكرية مديدة وشديدة، شابتها خروق كبيرة لحقوق الإنسان تجلت في إعدامات سرية وتصفيات غامضة للمعارضين على أيدي أجهزة مسلحة تابعة للأنظمة العسكرية التي تناوبت على الحكم في، بوينوس ايريس، وغيرها.
ويبدو ان الرئيسة الحالية فرنانديث، وهي معارضة وزوجها الراحل الذي ورثت عنه رئاسة الدولة بالانتخاب، ما زالت مدينة للقاضي،غارثون، بالأدوار الكثيرة التي قام بها مدافعا عن حقوق الإنسان في بلادها، بل إنها في خطاب رسمي أثناء انعقاد جلسة للبرلمان الأرجنتيني، دعي لها، غارثون، ضيف شرف، أشادت الرئيسة بحضوره بين ممثلي الشعب، طالبة من البرلمانيين، ان يقفوا لتحيته.
الى ذلك، اكتفت عدد من الصحف الاسبانية بنقل أصداء الجدل الجاري في الأرجنتين، بخصوص القاضي الذي أثار الرعب في وقت من الأوقات، في نفوس المتعدين على حقوق الإنسان، بملاحقتهم حيثما تحصنوا.
ويعود إسقاط صفة القاضي عن غارثون الى مخالفته القانون، حيث أمر بالتصنت على هواتف المحامين وموكليهم في القضية المعروفة باسم el caso gurtel وهو ملف فساد مالي وسياسي، تورط فيه في مدينة، بلنسية، أعضاء في الحزب الشعبي، الذي لا يحب القاضي المثير للجدل.
ولا بعرف كيف سيواجه غارثون عاصفة النقد التي يتعرض لها خارج بلاده، لا سيما وانه يتقلد منصبا سياديا في هرم دولة الأرجنتين. ومن المحتمل ان يتخلى طواعية عنه، او يطلب بهدوء إعفاءه من مسؤولية جرت عليها المتاعب، بل تبدو وكأنها رشوة، اذ لا يليق بالقاضي ان يغادر منصبه للبحث عن وظيفة خارج بلاده حتى ولو ارتبطت بعمل نبيل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.
وتكشف هذه النازلة بما لا يدع مجالا للشك، ان القضاة ليسوا محصنين عن الزلل وخرق القانون، بإرادتهم او سوء تقديرهم، وأحيانا بحسن نيتهم.