الروح الجماعية في زمن العمل الرقمي.. “سر النجاح في المؤسسات الحديثة”

بقلم: الدكتور سفيان جنيدي*

في عالم الشغل الحديث، تتجاوز جودة العمل حدود الكفاءة التقنية وسرعة الإنجاز، لتتعمق في جوانب إنسانية تفرض نفسها بقوة، وعلى رأسها: طبيعة العلاقات بين الزملاء، وكيفية تعامل أرباب العمل مع موظفيهم. فقد أصبح من المؤكد اليوم أن المناخ الاجتماعي داخل المؤسسة، سواء كان حضورياً أو عن بُعد، هو مفتاح النجاح أو الفشل.

علاقات الزملاء: ما بين التعاون والتنافس

في بيئة العمل التقليدية، حيث يلتقي الزملاء يومياً، تظهر التفاعلات المباشرة، وتبرز القيم الإنسانية الحقيقية: من احترام وتقدير، أو في بعض الأحيان، من تنافر وسوء تفاهم. عندما يسود الاحترام والتعاون، يتحول الفريق إلى خلية إنتاج ديناميكية، يتكامل أفراده ويتبادلون المعرفة والدعم. لكن، في حالات التوتر أو الصراعات الصامتة، يتراجع الحماس، وتبدأ الشكاوى، وتنعكس النتائج سلباً على جودة الأداء.

علاقات الزملاء في نفس الدرجة الوظيفية يجب أن تقوم على مبدأ الشراكة لا التنافس غير النزيه. نجاح أحدهم لا يجب أن يُنظر إليه كتهديد للآخرين، بل كدافع لتطوير الذات، خاصة في المؤسسات التي تُشجّع الإنجاز الجماعي وتعترف بالمجهودات الجماعية والفردية.

المستخدم ورب العمل: علاقة ثقة أم علاقة سلطة؟

أما العلاقة بين المستخدم ورب العمل، فهي علاقة تتطلب توازناً دقيقاً بين سلطة الإدارة وكرامة الموظف. فرب العمل المتفهم، الذي يصغي، ويُشرك الموظفين في القرار، ويوفّر ظروف عمل إنسانية وعادلة، يجني ثماراً كثيرة، من ولاء الموظفين، إلى جودة تنفيذ المهام، مروراً بالاستقرار الداخلي للمؤسسة.

لكن في المقابل، فإن انعدام التواصل، وغياب التقدير، والمعاملة الجافة أو الاستعلائية، تؤدي إلى النفور، وتُفقد المؤسسة رأس مالها البشري، الذي لا يمكن تعويضه بسهولة.

العمل عن بُعد: ضرورة فرضت قواعد جديدة للتعامل

لقد جاء التحول نحو العمل عن بُعد، خصوصاً بعد جائحة كورونا، ليُغير جذرياً طبيعة العلاقات المهنية. فبعد أن كانت اللقاءات تتم وجهاً لوجه، أصبح الاعتماد على البريد الإلكتروني، ومكالمات الفيديو، ومنصات التعاون الرقمي، هو الأساس. هذا التغير، وإن فتح آفاقاً جديدة للمرونة، إلا أنه طرح أيضاً تحديات كبيرة في التواصل الإنساني.

في العمل عن بُعد، قد يغيب الدفء الإنساني، وقد تتأثر العلاقات بسبب التأويل الخاطئ للرسائل النصية، أو بسبب العزلة التي قد يشعر بها الموظف. لهذا، أصبح من الضروري تبني ثقافة رقمية إنسانية، تُراعي التواصل الفعّال، والتقدير المستمر، والمرونة في التعامل.

الاجتماعات الرقمية: سلاح ذو حدين

الاجتماعات الرقمية، رغم ما توفره من وقت وتكاليف، قد تتحول إلى عبء إذا لم تُدار بشكل جيّد. فقد يشعر الموظف بأنه مراقب أكثر مما هو مسموع، وقد تتحول الاجتماعات إلى لحظات جافة تغيب فيها روح الفريق. من هنا، يبرز دور المسؤولين في تنظيم لقاءات رقمية تفاعلية، تُشجّع الحوار، وتُعطي فرصة للتعبير، وتبني علاقة ثقة حتى عبر الشاشات.

بناء بيئة إنسانية في زمن التقنية

تحديات العصر الرقمي، والتطور المتسارع في أساليب العمل، تجعل من الضروري إعادة النظر في فلسفة العلاقات المهنية. سواء في المكتب أو عن بُعد، يجب أن تبقى القيم الإنسانية في صلب كل استراتيجية عمل: الاحترام، التعاطف، الإصغاء، والتقدير.

وقد بدأت العديد من الشركات حول العالم في إدراك هذه الحقيقة، فأنشأت برامج دعم نفسي، وتكوينات في مهارات التواصل الرقمي، ونظّمت أنشطة افتراضية لبناء الفرق، بهدف الحفاظ على الروح الجماعية، رغم المسافات.

الخلاصة: الإنسان أولا

مهما تطورت التكنولوجيا، ومهما تغيّرت أنماط العمل، يبقى العامل البشري هو قلب المؤسسة النابض. جودة العلاقات بين الزملاء، وبين المستخدمين والإدارة، هي البوصلة التي تحدد وجهة المؤسسة: إما إلى النجاح والاستقرار، أو إلى التفكك والصراعات الداخلية.

الاستثمار في البُعد الإنساني للعلاقات المهنية ليس ترفاً، بل خياراً استراتيجياً يُثبت يوماً بعد يوم أنه أساس النجاح في عالم يتغير بسرعة، ويحتاج إلى تماسك داخلي أقوى من أي وقت مضى.

* أستاذ بالمعهد العالي للمهندس والتدبير بالدارالبيضاء