نشرت الكاتبة الصحفية الفرنسية ميراي ديتاي مقالا بمجلة “لوبوان” تحت عنوان: “محمد مدين، الرجل الأكثر غموضا في الجزائر”، خصصته للحديث عن هذا القوي داخل النظام الجزائري، والمعروف عن ابتعاده عن دائرة الأضواء.
ففي الوقت الذي يعرف فيه الجزائريون رئيسهم، حتى وإن كان دأب على التواري عن الأنظار في الآونة الأخيرة بسبب المرض، فإنهم بالمقابل يجهلون تقريبا كل شيء عن رئيس المخابرات العسكرية، بما في ذلك صورته.
نفس الأمر كان ينطبق، تقول ديتاي، على قاصدي مرباح، الرجل القوي في عهد بومدين قبل أن يصبح وزيرا في ثمانينيات القرن الماضي.
اليوم يبدو الجنرال محمد مدين، المعروف باسم توفيق، كأحد أقوى رجالات النظام، هذا النظام الذي وضع لبناته الرئيس الراحل بومدين، وهو يستمر اليوم في حسم الاختيارات الكبرى في الجزائر بالرغم من بعض الصراعات التي تظهر داخله بين الفينة والأخرى.
الغموض الذي يحيط بشخصية مدين فتح المجال أما نسج العديد من الاستيهامات حوله، لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بتوفر الرجل على نفوذ كبير داخل دواليب السلطة بالجزائر. فبعد تدرجه في مختلف المصالح العسكرية إلى حين وصوله إلى هرم المخابرات العسكرية عام 1990، والتي يوجد على رأسها منذ ذلك التاريخ.
بعد النجاح الكاسح الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1991، كان مدين ضمن مجموعة الجنرالات، بقيادة الجنرال خالد نزار، الذين قرروا التدخل لوقف تقدم الحزب الإسلامي من خلال إلغاء الدور الثاني من الانتخابات.
نفس المجموعة هي من واصلت “جر خيوط اللعبة إبان الحرب الأهلية الدموية التي وضع عبد العزيز بوتفليقة حدا لها بعد انتخابه رئيسا خلال انتخابات 1999″، تقول ميراي ديتاي.
خلال السنوات التي قضاها الجنرال توفيق على رأس المخابرات العسكرية، تمكن الرجل من تحويل هذا الجهاز إلى “دولة داخل الدولة”، تضيف الكاتبة الفرنسية، حيث عملت مصالح الاستخبارات على تدبير ملف المسلحين الإسلاميين، ووقفت طيلة سنوات في وجه مساعي فتح قنوات الحوار مع الإسلاميين، كما عملت على السيطرة على وسائل الإعلام ووضع مقربين منها في الإدارة والشركات والأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني، كما تقول الصحفية الفرنسية.
هذا الأمر مكن الجنرال توفيق من التوفر على شبكة كبيرة من الولاءات داخل مجموع التراب الجزائري وإحاطة نفس بالعديد من المخلصين.
ويبدو أن النفوذ الكبير الذي يتمتع به الرجل هو ما ساهم في توتر العلاقة بينه وبين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي سعى بدوره إلى توسيع هامش تأثيره داخل النظام الجزائري على مدار السنوات التي قضاها في قصر المرادية.
لعبة شد الحبل بين بوتفليقة والجنرالات، حسب الكاتبة الفرنسية، كان من بين تجلياتها محاولة قطع الطريق أمام ترشح بوتفليقة عام 2004 من خلال دعمه منافسه القديم الجديد علي بن فليس، صراع كانت الغلبة فيه لبوتفليقة الذي نجح في الإطاحة بالجنرال محمد العماري وتعيين الجنرال قايد صلاح في رئاسة الأركان.
الصراع بين الرئيس والجنرال كان من تجلياته الإطاحة ببعض المقربين من بوتفليقة، مثل وزير الطاقة السابق شكيب خليل على خلفية قضايا فساد، بيد أن ذلك لم يمنع الرجل من الوصول إلى توافقات بحسب نظر الكاتبة الفرنسية، مثل ما برز ذلك في دعم مدين لترشح بوتفليقة في انتخابات 2004 و2009، وكذلك دعمه للتعديل الدستوري الذي ألغى حصر عدد الولايات الرئاسية في اثنتين فقط.
بيد أن الجنرال لم يكن يحبذ رغبة بوتفليقة، الذي تدهور صحته بسبب المرض، الاستمرار في الرئاسية لعهدة رابعة، هو ما جعل الصراع يتخذ أبعادا مختلفة من بينها تفجر خلافات بين المخابرات العسكرية ورئاسة الأركان القريبة من بوتفليقة، تقول ميراي ديتاي، بعد أن حملت رئاسة الأركان جهاز المخابرات الفشل الذي صاحب تدبير عملية الهجوم المنشأة النفطية عين أميناس من قبل مسلحين إسلاميين بسبب عدم قيامها برصد تحركات العناصر المسلحة.
كما ظهرت تجليات الصراع بين الرئيس والجنرال من خلال التعديل الذي طرأ على بعض مصالح الاستخبارات التي تم إلحاقها برئاسة الأركان، قبل أن يتخذ النزال طابعا جديدا عبر وسائل الإعلام.
واليوم، بعد إعادة انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، تتحدث بعض الأخبار عن قرب رحيل الجنرال قايد صلاح، فهل سنرى نفس الأمر بالنسبة بالنسبة للجنرال توفيق أم أن الأخير لا ينوي التقاعد خصوصا مع إصرار غريمه بوتفليقة على الاستمرار في الكرسي رغم تقلبات المرض، والذي وإن أنهك جسمه، فإنه لم يحد من تعطشه للسلطة.