بقلم: أحمد الأصفر
الميثولوجيا Mythologie (أو علم الأساطير) أحد العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تولي اهتمامها بقضايا الإنسانوتاريخه، وتولي اهتمامها الأول بدراسة الأسطورة وتفسيرها بوصفها ظاهرة ثقافية اجتماعية شديدة التعقيد، وتعتمد في تحليلها على وجهات نظر ورؤى متباينة تختلف باختلاف الفلسفات الاجتماعية السائدة في عصر من العصور.
إن الأسطورة بصورة عامة رواية ممتلئة بالرموز والدلالات الثقافية التي ترمي إلى تفسير جملة من الظواهر الاجتماعية، وهي تحاول تفسير ظهور العالم والخلق والإنسان والحيوان والعادات والتقاليد التي يعيشها الناس، كما أنها تحاول تفسير الأصول التاريخية للنشاطات الإنسانية والعقائد والأفكار.
وقد تستمد الأسطورة قسطاً من عناصرها من التاريخ الحقيقي المدوّن للمجتمع، ومن الخصائص الطبيعية المكانية التي يعيش فيها الناس، مما يجعل للأسطورة صلة وثيقة بالتاريخ مع احتفاظها بخصوصياتها التي تميزها منه، بانطوائها على عناصر خارجة من الزمن والمكان؛ على خلاف الحدث التاريخي الذي يقيده حدود المكان، وتحدده مسارات الزمان.
وفي حين تلج الرواية التاريخية إلى وعي الناس من خلال عقولهم وتفكيرهم النقدي ومناقشتهم تفاصيلها؛ مما يجعلها قابلة للنقد والأخذ والرد؛ يلاحظ أن الناس تتقبل الأسطورة بقدر كبير من التسليم الإيماني الذي يجعلها أمراً مسلماً به على نحو مطلق، وفي حين يحاول الناس فهم الحدث التاريخي من خلال ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشون فيها؛ يحاولون فهم الواقع بأجزائه وتفاصيله من خلال المعاني والرموز التي تنطوي عليها الأسطورة، فهي أقوى في معانيها ودلالاتها من الحدث التاريخي، وقد يسقط المرء فهمه للحدث التاريخي وللواقع المعاصر من خلال ما تنطوي عليه الأساطير من دلالات ورموز ثقافية.
وارتباط الأسطورة بالمقدس غالباً ما يكون أكبر من ارتباطها بالواقع مع عدم إغفال الصلة بينهما والتي بفضلها تفهم العقائد والشعائر والطقوس المكونة للثقافة في المجتمع، فصلة الآلهة بالطبيعة والإنسان والمجتمع، وتفسير آلية الخلق أكبر من أن تحدّ بزمان أو مكان؛ ولهذا تخرج عن حدودهما، ولكن الأسطورة تعود؛ لتنهل منهما بعض عناصرها؛ لتصبح أقرب إلى وعي الناس وفهمهم، فتسبغ على ذاتها القدسية التي تجعلها خارجة عن حدود النقد أو الرفض، وغالباً ما تنطوي على عناصر الثواب والعقاب التي تجعل منها أكثر قوة وتماسكاً.
وتشترك الأسطورة مع كل من الحكاية [ر] والخرافة وغيرهما من المفاهيم المشابهة لها في بعض الوجوه، وتختلف عنها في وجوه أخرى، ذلك أن هذه الأنماط من الإنتاج الفكري الإنساني لا تنطوي بالضرورة على ما هو مقدس، فالحكاية قد تروي قصص أبطال مغامرين ومتفوقين على غيرهم من الجنس البشري دون أن يتصفوا بالقداسة بالضرورة، كما هي الحال في الحكاية التي تحمل في مكوناتها قدراً من الأماني والرغبات التي يتطلع إليها الناس، وتستلهم من الوقائع التاريخية بعض عناصرها بعد تضخيم عناصرها الأخرى، كما هي الحال في الحكايات المروية عن أبطال الخير والشروالدفاع عن الإنسان وحقوقه وما شابهها، أما الخرافة فهي الرواية التي تفتقر إلى الحدود الدنيا من الواقعية والصدق، وتأتي كلها أو الجزء الكبير منها من صنع الخيال الإنساني.
ويعود الاهتمام بدراسة الأسطورة وفهمها من الناحية العلمية بوصفها نتاجاً للفكر الإنساني إلى القرن الثامن عشر؛ مع الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكو Giambattista Vico ت(1668ـ1744) الذي أخذ بدراسة الأسطورة في ضوء الوقائع التاريخية، وكان له الفضل في إظهار دور الفكر الإنساني في إنتاج التصورات وأهمية الخيال البشري في صنع الأساطير. وفي القرن الثامن عشر ظهرت مجموعة من الأعمال التي حاولت دراسة الآداب والفنون في ضوء تطور الأسطورة ذاتها لدى كل شعب من الشعوب الإنسانية، ومن أكثر الأعمال شهرة في هذا السياق ما قدمه كل من فريدريش ماكس مولر [ر]Friedrich Max Muller ت(1823ـ1900) الذي وجد أن الأسطورة ما هي إلا نموذج لتطور اللغة تاريخياً، وميشيل بريَل Michel Bréalت(1882ـ1915) الذي أولى اهتماماً كبيراً بعلم المعاني والدلالات التي تنطوي عليها تعابير اللغة بما فيها المعاني والدلالات التي تحملها الأسطورة، ويأتي ذلك في سياق ربط الأسطورة باللغويات.
غير أن دراسة الأسطورة في سياقها الاجتماعي والتطوري انتشرت انتشاراً واضحاً في أعمال مجموعة من علماء الأنثروبولوجيا، كما في أعمال جيمس جورج فريزر [ر] Sir James George Frazer ت(1854ـ1941) الذي ميز بين ثلاث مراحل أساسية في تطور الفكر الإنساني؛ أولها السحر، ثم الدين، وأخيراً العلم، واهتم خصوصاً بدراسة الأسطورة والدين والأساطير البدائية، ويمضي عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي برول Lucien Levy-Bruhl ت(1857ـ1939) في المسار ذاته عندما يجد أن الأسطورة تعكس نمط التفكير البدائي للإنسان؛ وأنها تعدّ مرحلة تاريخية مهمّة من مراحل تطوره.
كما يأخذ مارسيل موس Marcel Mauss ت(1872ـ1950) بمعالجة الأسطورة في سياق وظيفتها الاجتماعية معتمداً في ذلك على نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Émile Durkheim ت(1858ـ1917) الذي جعل من الوظائف التي تؤديها الظواهر مدخلاً أساسياً لدراستها، ويمضي في الاتجاه ذاته الأنثروبولوجي البريطاني برونيسلاڤ وكاسبر مالينوفسكي Bronislaw Kasper Malinowskiت(1884ـ1942) الذي وجد أنه لا يمكن فهم الأسطورة إلا في ضوء ما تؤديه من وظائف اجتماعية تسهم في تحقيق قدر كبير من التوازن في التفكير والتفاعل مع المتغيرات البيئية بصورة عامة، وبوساطة الفهم الوظيفي يمكن تحليل العادات والتقاليد والقيم والأفكار التي تنتشر في المجتمعات الإنسانية التي تختلف بين بعضها بعضاً باختلاف الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل منها.
كما يعدّ عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس [ر] Claude Levi-Strauss واحداً من أبرز علماء الميثولوجيا؛ إذ استحوذت الأسطورة في نظريته على موقع أساسي ومهمّ، فهي من حيث المبدأ ذات وظيفة حيوية بالنسبة إلى كل ثقافة، وما من شعب من شعوب العالم إلا وفيه من الأساطير التي تحمل في مضامينها جملة واسعة من القيم والمعايير والمبادئ التي تؤدي وظائف حيوية بالنسبة إلى الحاضر، فقوة الأسطورة لا تأتي فقط من الماضي الذي نشأت فيه، وتناقلها الناس فيما بعد، إنما تكمن فيما تؤديه اليوم من وظائف حيوية بالنسبة إلى الجماعات في حياتها المعاصرة، فشأنها شأن اللغة في تاريخ الشعوب، فإذا كانت اللغة قد نشأت؛ وتطورت عبر مراحل زمنية موغلة في القدم، فإن أهميتها لا تأتي من الماضي الذي تشكلت فيه بقدر ما تأتي قيمتها من الوظائف التي تؤديها في الواقع المعاصر.
ويمضي شتراوس في دراسته الأسطورة معتمداً على نظريته في التحليل البنيوي، فهي أي الأسطورة من حيث المبدأ عنصر أساسي من عناصر الثقافة، ومكون رئيس من مكوناتها، ومن ثمّ فإن أيّ تحليل لثقافة المجتمع يتطلب بالضرورة تحليل بنية الأسطورة فيه التي قد تأتي على شكل عقائد أو فنون أو حكايات شعبية تفسر قدراً كبيراً من أنماط السلوك اليومي التي يعيشها الناس وجملة من العادات والتقاليد التي استقر عليها المجتمع، وهي تعزز بوساطة عملية التنشئة جملة المعايير الضابطة للسلوك الاجتماعي.
وإذا كانت الأسطورة تبدو من حيث الشكل خالية من التماسك المنطقي في تسلسل أحداثها، من حيث الزمن والمكان إلا أنها من حيث النتيجة تعدّ ميداناً لجملة من العمليات المنطقية اللاشعورية التي يمكن استخلاصها من الرؤية الإجمالية لبنيتها العامة على مستوى الثقافة الواحدة وعلى مستوى الثقافات المتعددة، ذلك أن قيمة العناصر المكونة للأسطورة لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقها العام، وكل محاولة لفهم هذه العناصر وهي منعزلة عن بعضها يفقد الأسطورة قدراً كبيراً من المعاني التي تحملها، وتنطوي عليها؛ ومن ثمّ تبدو الأسطورة بهذا المعنى خالية من الدلالات والمعاني. وقد دفع هذا النمط من التحليل بليفي شتراوس إلى دراسة أنماط متعددة من الأساطير في الثقافة الواحدة؛ وفي الثقافات المتعددة.
وبالنظر إلى ارتباط الأسطورة التي تعدّ الموضوع الرئيس للميثولوجيا، بمجالات أخرى كالدين والآداب والفنون وعلوم التاريخ والاجتماع والنفس وغيرها…؛ فإن اهتمامات الميثولوجيا ـ بوصفها علماً من العلوم الاجتماعية ـ أخذت تمتد إلى كل تلك الميادين، وعالم الميثولوجيا بهذا المعنى يهتم بكل هذه الميادين والمجالات؛ لأنها تقدم له ما يفيده في فهم الأسطورة وتحليلها ودراستها، فيبدو ارتباطها قوياً بالدين تارة؛ وبالآداب والفنون تارة أخرى؛ وبعلوم التاريخ والاجتماع والنفس تارة ثالثة
مراجع للاستزادة
ـ إديت هاملتون، الميثولوجيا، ترجمة حنا عبود (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1990).
ـ كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي (دار الحوار، اللاذقية 1985).
ـ شارلوت سيمور سميث، موسوعة علم الإنسان، ترجمة مجموعة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجية، بإشراف محمد الجوهري (المجلس الأعلى للثقافة والترجمة، القاهرة 1990)