بقلم: محمد بوكيوط
يجمع الدارسون في حفل التاريخ أن « كتب الرحلات» تعتبر من المظان التي تجود بمعطيات قلما تسعف بها المصادر التاريخية المختلفة لاعتبارات يطول تناولها، ومما يؤكد ذلك ما تروم هذه المساهمة إبرازه بالوقوف عند الصورة التي أوردها سفير مغربي زار فلسطين في أواخر ثمانينات القرن الثامن عشر الميلادي
والسفير هو محمد بن عبد الوهاب بن عثمان المكناسي أحد أنجب الدبلوماسيين المغاربة خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، باعتباره مهندس النقارب المغربي الإسباني في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله «1757م-1790هـ»، حيث كللت سفارته الأولى إلى « مدريد» بإبرام معاهدة سنة 1780م، التي وضعت أسس السلم والتعاون بعد قرون من العداء والصراع بين الدولتين، وقد ألف السفير رحلة هذه السفارة يفصل فيها وقائع سفره ومشاهداته.(1)
وفي سنة « 1781م-1782م» كلف ابن عثمان بمهمة سفارية أخرى إلى كل من جزيرة «مالطة»، و«مملكة الصقليتين»، أسفرت عن تحرير أكثر من 600 أسير تركي من الأولى، وإبرام اتفاقية انضمام الثانية إلى المعاهدة المغربية الاسبانية.
وعن هذه السفارة كتب رحلته الثانية (2) التي تعكس الصورة التي كونها رجل من النخبة المغربية عن أحوال بلاد أوربية في هذه المرحلة التاريخية.
أما سفارته الثالثة فكانت سنة 1786م إلى أستانبول، حيث مكث ما يقارب السنة بالعاصمة العثمانية ليسافر منها مع ركب الحج العثماني إلى البقاع المقدسة بالحجاز قصد قضاء مناسك الحج سنة 1787 م.
وبعد أداء المناسك رجع مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم عرج على فلسطين قصد زيارة الأماكن المقدسة، كمما يعكس عنوان الرحلة، حيث سماها ابن عثمان: « إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب».(3)(*)
ينم العنوان الذي اختاره ابن عثمان لمؤلفه عن إيلاء فلسطين مكانة خاصة بالتنصيص على زيارة القدس الشريف والخليل، وغير خاف ما لهذه البلاد المقدسة من قيمة لدى المسلمين، ففيها توجد أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وارتبطت بالإسراء والمعراج، وبها قبر أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام مما جعل المسلمين يشدون الرحال لزيارتها، بل شاع عند العامة، كما يورد ابن عثمان ، أن الرسول قال: « من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة»،(4) بل ساد الاعتقاد بأن زيارة بقاع فلسطين المقدسة من تمام الحج.
هذا الشغف هو الذي ساق سفيرنا إلى هذه البقاع، وجعله بالتالي يعود إلى الشام صحبة الركب الشامي عوض الرجوع مع الركب المغربي، رغم وجود عوامل أخرى دفعته على اتخاذ قرار عدم مصاحبة الركب المغربي.
على كل، من حسن حظنا أن السفير رجع إلى دمشق، وتوجه منها إلى الديار الفلسطينية، لن ذلك أسعفنا بمزيد من المعطيات التي ضمتها « رحلته»، وزاد من فرص اطلاعنا على أحوال جزء من ولاية الشام العثمانية، بحيث انتقل من دمشق نحو عكا، ومنها على كل من القدس والخليل.
وكما دأب في « رحلته» اهتم عثمان بوصف مراحل الطريق بين « دمشق» و« عكا»، بحيث نجده يتحدث عن الخانات المنتشرة على طول الطريق، وعن جغرافية المناطق التي اجتازها، إذ يشير إلى مروره مثلا« بأرض كثيرة الحجارة، كثيرة الطين»، دون إغفال أعمال البنية التحتية التي طالما أعجب بها أيما إعجاب طوال رحلته، فيورد بعد ذكر الطريق الوعرة السابقة أنه « صفحت الأرض بالحجارة المبسوطة ليمر الناس عليها زمن الطين إلى أن أوصلوا الرصيف إلى الخان وسموها جسرا، فأضيف إليها الخان، فقيل: خان الجسر»(5)
وقبل الوصول إلى «قرية الرمة» التي تبعد عن «عكا» بست ساعات كتب السفير يقول :« فسرنا في أرض من أصعب الأرضين، وأكثرها حجارة وصلدا».(6)
علاوة على الوصف الجغرافي للطريق يلفت نظر قارئ « الإحراز» أنه لم يمر السفير ببقعة في أرض « فلسطين» إلا ويوجد بها قبر، أو ضريح، أو تربة نبي، أو ذريته، مما أضفى على رواية ابن عثمان مسحة روحية متميزة، حيث نستشف أنه منذ حلوله بفلسطين انهمك في التنقل بين المقامات والأضرحة، متجشما مشاق السفر، وتقلبات المناخ لبلوغ غايته.
ودون الخوض في تفاصيل ذلك يكفي القول أنه أفاض في إيراد معلومات عن مواقع المزارات، والأضرحة، والأماكن الرمزية المرتبطة بأحداث ورد ذكرها في « القرآن الكريم»، فقد أشار إلى شجرة قرب « خان الجسر» السالف الذكر، « يقال: إن بقربها مقابر بنات يعقوب»،(7)
وبعد مغادرة هذه المنزلة بمرحلة نزل بخان آخر يوجد بجانبه « جب يوسف عليه السلام» محيط به سور(8).
« ولما خرجنا من « نابلس» أرونا عن يسار الخارج قببا يقال : إنها مدافن أولاد يعقوب عليه السلام»،(9) وفي الطريق بين « البيرة» و« القدس » « قابلنا النبي شمويل بن يعقوب عن يمين المار إلى القدس على ربوة عليها بناء».(10)
وبعد زيارة الأماكن المقدسة بالقدس الشريف، والتبرك والدعاء عند محراب مريم، ومهد عيسى، وتربة سليمان وداود عليهم السلام، ومربط البراق وغيرها من الأماكن، صعيد بن عثمان إلى « جبل الطور» لزيارة أضرحة من اشتمل عليه من أهل الثناء والسنا»، وهناك زار ضريح الشيخ محمد العلمي من ذرية عبد السلام بن مشيش، مشيرا إلى وجود مسجد وزاوية قرب الضريح يقال لها:« الأسعدية» نسبة لشيخ الإسلام أسعد أفندي،(11) كما لم يفته التبرك « بزيارة خلوة أبي مدين الغوث دفين تلمسان وهو في حارة المغاربة».(12)
ثم توجه ابن عثمان نحو « الخليل»، وفي طريقه إليها استمر في تعداد البقاع والأماكن إياها، إذ يقول : غنه مر على قبر راحل أم يوسف عليه السلام» عن يمين الطريق عليها قبة بينها وبين القدس نحو ساعة، ثم على قرية « بيت لحم»، وفيها المكان الذي ازداد فيه نبي الله وكليمه« عيسى ابن مريم عليه السلام»، وقد بقيت عن يسارنا… ثم تمادينا على المسير فواجهنا تربة نبي الله « يونس بن متى» صاحب الحوت بقي عن يسار الطريق على ظهر جبل».(13)
وعند مواجهة السفير لكل موقع من هذه المواقع حرص على قراءة الفاتحة، والابتهال إلى الله تعالى، والدعاء بما يرجى على حد تعبيره.
إلى جانب هذا البعد الروحي الذي سنتناوله في حينه يفيد كتاب « الإحراز» في الوقوف على معلومات تاريخية لها أهميتها، إذ كان ابن عثمان شاهد عيان لأحوال مدن وبوادي فلسطين التي زارها، فعلى الرغم من اقتصار مقامه ببعضها على يوم واحد، أو اكتفائه بالمرور بالبعض الآخر- ما عدا مدينة « عكا» التي أقام بها بضعة أيام- فإنه سجل عنها انطباعات لا تخلو من قيمة.
فقد استهل حديثه عن « عكا» بتسجيل الحفاوة التي حظي بها من قبل واليها، ويروي أنه قبل بلوغ المدينة بعث أحد أصحابه « ليكتري لنا دارا ننزل بها، فطاف البلاد كلها، فلم يجد منزلا، فسمع بذلك الوزير صاحب البلد- وعملها ويقال له: أحمد باشا الجزار- فعين لنا موضعا نزلناه مشرفا على البحر في أحسن حال في « خان جديد» أنشاه على ساحل المرسى».(14)
وبعد يوم من حلوله « بعكا» استدعى السفير المغربي من طرف الباشا أحمد الجزار« فأبدى بشاشة وفرحان وقعدنا معه ساعة نتحدث، ثم خرجنا من عنده».(15)
وبديهي أن يترك هذا الكرم والأريحية اللذين أبداهما الباشا من تلقاء نفسه أثرا في نفس ابن عثمان، ففي معرض حديثه عن أحوال هذه المدينة أبدى ثناء على الباشا، وقدم صورة إيجابية عن حكمه لها تتعارض مع الصورة التي ارتسمت للجزار في كثير من المصادر التاريخية؛ وفد كتب يقول بأن « لهذا الوزير أثر كبير بهذه المدينة، هو الذي شهرها، وبه اشتهرت»،(16) معددا منجزاته وأعماله، فذكر بإعجاب أنه أنشا بها مسجدا من أحسن المساجد ألطفها على شكل مساجد القسطنطية، وغرس في صحته المستدير شجرا مصفوفا من نخيل وسرو، وأنشأ بها أيضا حماما ما رأيت مثله لا في القسطنطية، ولا في الشام،(17) كما بنى خانا جديدا بميناء المدينة لإيواء المسافرين والتجار، مما يفيد بأن « عكا» عرفت انبعاثا عمرانيا في هذا العهد، مما يفيد بان « عكا» عرفت انبعاثا عمرانيا في هذا العهد، على عكس ما وصفه بها عبد الغني النابلسي، الذي زارها سنة 1105هـ/1693م، فوجدها « بلدة خربة مندكة قد تهدمت أسوارها، وانكسر سوارها، وانقلعت عين قلعتها، وخفيت بدائع صنعتها، ولم يبق منها إلا القليل من البيوت.(18)
غير أن ما له دلالته في اعتقادنا إشارة السفير إلى موقف السكان من الباشا، إذ أكد أن « أهل البلد يثنون عليه كثيرا»،(19) مقرنا ذلك بشهادة عن جانب آخر من سياسته، يتمثل في أعماله الاجتماعية، « فله جرايات على الضعفاء، والفقراء، ورواتب لأهل الحياء والحشمة، الذين لا يسألون الناس إلحافا»(20) تكتسي شهادة ابن عثمان مصداقيتها في كونه لم يثن على « الجزار» فقط، بل سجل انتقادا ضمنيا لمواقفه السياسية تجاه الباب العالي، وإن وجد له عذرا، فبعد ذكر مآثره وأعماله الخيرية أردف قائلا:
« إلا أنه به شموس من الدولة، أبي الانقياد يفعل في بلاده برأيه ويقبل من أوامرها ما يوافق عرضه، وقد استدعته الدولة، ونحن هنالك، للقدوم عليهم قائلين له: إنهم أرادوا بعثه لناحية العدو برسم الجهاد فأبى عليهم، لكنه معذور فلا يأمن على نفسه».(21)
علاوة على هذه المعطيات التاريخية يفيد كتاب « الإحراز» في استخلاص معلومات أخرى عن « عكا» كمحطة بحرية في الساحل الشرقي للمتوسط، واهتمام واليها « الجزار» بتوفير بنية تحتية، وضمان الأمن والاستقرار، والظروف الملائمة لارتيادها، مما يفسر رسو المراكب الأوربية بها حسب ما يفهم من رواية ابن عثمان.
ومن أمثلة ذلك : بناؤه « الخان الجديد» في المرسى كما أسلفنا، وما يكتسيه من أهمية في تسهيل إقامة التجار والمسافرين، بحيث يورد السفير أنه نزل بالخان المذكور، ومكث « تسعة أيام حتى عينا المركب الذي يحملنا في البحر، وتعاقدنا مع صاحبه، عينا المدة للسفر، واشتغل رئيسه بإصلاح شؤونه، والاستعداد للسفر»، (22) بل نعتقد أن تيسير الإقامة، وإجراءات التعاقد على الإبحار ساعد ابن عثمان كثيرا في استغلال مدة تحضيرات صاحب المركب لزيارة القدس والخليل.
وإذا كانت ظاهرة « أحمد الجزار» قد اشتهرت في كتب التاريخ فإنه لم يكن الوحيد في « منطقة فلسطين»، إذ تفيد شهادة السفير المغربي أنه لما سافر من « عكا» يريد « القدس» نزل « بقلعة سنور» حيث أكرم وفادته صاحبها، ومما لفت نظره كون الأسلحة معلقة بباب القلعة « لأنهم لا يتركون أحدا يدخل بالعدة» إليها.
إلا أن أهم ملاحظة جاء بها تهم الجانب السياسي، إذ يقول : إن صاحب « قلعة سنور» تابع نظريا لوالي الشام،« لكنه غير كامل الطاعة والانقياد، فهو يميل إلى الاستقلال والاستبداد، منفذا لأوامر أميره، لكنه لا يتلاقى معه خوفا على نفسهن والوزير أيضا لا يقدر على نزعه، فهو قانع بما يأتي منه، فإذا أتى الوزير إلى ناحية بلاده يخرج منها على ناحية أخرى حتى يرجع الوزير ويرجع».(23)
تكشف هذه الشهادات عن واقع العلاقة بين الولاة والحكام المحليين من جهة، وبينهم وبين الباب العالي من جهة ثانية، إذ يبدو الوضع كما لو أن الدولة لا يهمها كيف يسير الولاة والحكام شؤون ولاياتهم ماداموا يرسلون نصيبا مما حبوه من السكان إلى من هم أعلى في التراتبية الإدارية.
ولاشك أن هذا الواقع كانت له تأثيراته على الوضع العام، خصوصا إذا استحضرنا التركيبة القبلية والعشائرية المعقدة في المنطقة، كما نستشف ذلك بين ثنايا رواية ابن عثمان.
ومن الصور التي نقلها تلك التي ارتسمت في ذهنه عن بعض المدن الفلسطينية، فقد وصف « نابلس» بأنها« بلدة متوسطة بين جبال مرآها حسن، وبناؤها كله بالحجارة المنحوتة، حسن المنظر، وماؤها كثير ذات بساتين، إلا أن أزقتها كثيرة العفونات، والطريق إليها من القلعة المتقدمة في صعود وهبوط وحجارة».(24)
أما مدينة « القدس» فيتميز وصفه لها بمسحة روحية طاغية تنم عن المكانة المقدسة للمدينة، وهن ميوله الروحي والديني، وورعه، وسعة اطلاعه على العلوم الإسلامية؛(25) ومع ذلك نجده يستهل وصفه لها بإعجابه بتحصيناتها ومنظرها العام قائلا:
« وللقدس السور الحصين مبني بالحجارة في غاية الكمال والإتقان، والأبواب الحصينة الغلق»،(26) ومردفا أنه« من جبل الطور يظهر « بيت المقدس» في غاية البهاء، والابتهاجِ؛ وحسن المنظر، وكذا من جهة القبلة، وأما من جهة الغرب والشمال فلا يرى منه من بعيد إلا القليل لمواراة الجبال له»،(27) ليضيف أن « بيت المقدس والخليل في جبال كثيرة الأوعار والأحجار، والسير فيها متعب، والمسافة فيها بعيدة.(28)
وبديهي أن يفيض ابن عثمان في ذكر الأماكن المقدسة التي زارها بالقدس، إذ هي المقصود من زيارته للمدينة، أولها المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، اللذين صفهما وصفا دقيقا، حيث ساق مثلا عدد الأعمدة التي تقوم عليها القبة قائلا :
« فعدد أعمدة القبة كلها أربعون عمودا من الرخام الفائق، منها أربعة عشر عمودا هي الدائرة بالصخرة المرفوع عليها قبتها، ومنها ستة عشر عمودا مرفوع عليها المسقف المحيط بقية الصخرة،(29) وذكر أبواب المسجد الأقصى بأسمائها، وظروف تسميتها، إلى غير ذلك من التفاصيل الهامة، ومستطردا استطرادات طويلة عن بناء « بيت المقدس»، وأصل « الصخرة»، مما يطول الخوض فيه.(30)
وفي معرض اقتباسات ابن عثمان من مظان ومصادر مختلفة بخصوص تاريخ « بيت المقدس»، والأحداث التي شهدتها طوال هذا التاريخ، يلفت النظر إيراد معلومات جغرافية بخصوص مغلوطة واعتبارها من الحقائق آنذاك، إذ يذهب مع الشيخ العيطي إلى أن بعض المحدثين أجزموا أن بيت المقدس أعلى مكان في الدنيا،« وأقرب أماكن الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا».(31) وتفيد زيارات ابن عثمان لشتى المزارات والأماكن بتداخل واشتراك الديانات السماوية الثلاث في الإرث التاريخي للمدينة.
والجدير بالإشارة هنا أنه أبدى حرصا على زيارة الموضع الذي فيه محراب سيدتنا مريم، وفيه أيضا مهد عيسى عليه السلام، وقد انحدرنا إليه بمدارج، وقعدت في المهد تبركا بصاحبه»،(32) وزيارة « تربة سليمان عليه السلام وهي موضع كرسيه»، وتربة نبي الله داوود عليه السلام وهو خارج سور البلد، وقرانا في ضريحه سورة « ص»، ودعونا الله هناك»،(33) مظهر نفس الخشوع والإجلال لدى زيارته أو مروره قرب المواقع المسيحية واليهودية، ولا غرابة في ذلك لكونه مسلما سنيا يؤمن بجميع الأنبياء والرسل وبكتبهم.
إلى جانب هذه المعطيات وردت إشارة إلى « المقدسيين»، فاعتبرهم السفير ذوي «بشاشة، وطلاقة، وأخلاق حسنة، وميل إلى مؤانسة الغريب، ومسامرته، والمحادثة معه، ولاسيما إن كان من هذا الجنس العلمي، فلهم اعتناء به كثيرا حياهم الله وبياهم، وأدام سقياهم ورياهم، وإلى مكارم الأخلاق يسرهم وهيأهم»،(34) مما ينم عن احتكاك السفير بأهل المدينة، ومخالطته إياهم، وبالتالي عدم الاقتصار على صورة تنقل الارتسامات عن المكان دون أهله.
ومن ملاحظاته في هذا الصدد ما رواه عن قيام السلاطين العثمانيين بتخصيص « الصدقة الجارية على من في القدس من الآباء والأبناء، وعينوا هنالك زاوية تظل على طول الآناء أعشارها تفور، وآنيتها بالطعام على الفقراء تدور، في العشي والبكور، ومن انحاز له من هذه الصدقة حظ أو نصيب صار ملكا له يورث عنه»(35) دون إيراد تفاصيل عن اسم تلك الزاوية ومكانها، والقيمين عليها، وكذا توعية الفقراء من روادها، وهل زارها شخصيا أم سمع عنها؟
وإذا كان ابن عثمان قد سجل بإعجاب وتقدير أن « هذه الحسنة جارية ود مضت عليها من الدهر أحقاب يتبع آثرها منهم صالح الأعقاب، وكل من أتى من ملوكهم عن هذا النهج لا يحبذ ولا ينقص، بل يزيد دام الله تعالى أيامهم، ونصر جيوشهم وأعلامهم»،(36) وتأثره للطافة أهل المدينة المقدسة، وكرم الضيافة، الذي حظي به خلال تنقله في أرجاء الأرض المقدسة، فإنه لم يتردد في كشف جانب آخر من الواقع يتصل بممارسات الحكام والولاة.
فلدى عودته من « الخليل» بات « بقرية سنجيل»: فأكرمنا أهلها، إلا أنهم كثيرو التشكي من الوزراء والولاة الذين يولون أمرهم من قبل الدولة العثمانية صانها الله، فإنهم أكلوا اللحم، وامتشوا العظم، واستفحوا المخ، ولا حول ولا قوة إلا بالله،(37) الشيء الذي يقوم دليلا على مدى التعسف والنهب، الذين ميزا سيرة الحكام المحليين بولاية الشام الكبرى، حيث أورد السفير أن « هذه سيرتهم في جميع الإيالة، فكل من مررنا به يشتكي من جوربهم».(38)
ومن الصور البليغة لهذا التعسف والجور ما تضمنه ذلك الحوار الذي جرى بين ابن عثمان وبعض أهل بادية فلسطين حين سأله أحدهم« عما يلزم الناس في أرض المغرب».
ولما أجابه السفير قائلا:« الذي أوجبه الله تعالى وهو الزكاة والأعشار.
فقالوا : وكيف الأعشار؟
فقلت لهم: يأخذ رب الزرع تسعة أعشار، والمزكى العشر.
فقال: يا ليتنا لو تركوا لنا العشر، وأخذوا تسعة أعشار».(39)
وفي هذا السياق لم يخف سفيرنا تذمره من كيفية تطبيق نظام الالتزام الذي ميز السياسة الجبائية العثمانية، إذ كتب عنه يقول:« وأقبح من ذلك أن الوزراء يولون النصارى خدامهم على القرى فتجد النصراني يستلزم للوزير خراج القرية، ويتولى قبض ذلك من المسلمين في مهانة، والأمر لله».(40)
واضح إذن، أن اطلاع أهل الشام زائرا مثل بن عثمان على مشاكلهم، والبوح بالتظلم والشكوى، يعكس ثقل النير الذين كانوا يرزحون تحته، مما يسعف الباحث بمعطيات تساهم في فهم جانب من الوضعية العامة للولايات العربية للدولة العثمانية في هذه الفترة من تاريخها.
من كل ما تقدم تتضح أهمية « رحلة إحراز المعلى» للسفير محمد بن عثمان في تسليط الضوء على أحوال فلسطين، ببواديها ومدنها خلال سنة 1787م، ورسم معالم الصورة التي كونها هذا الدبلوماسي المغربي عن تلك البقعة المقدسة والغالية من المشرق.
———————–
الهوامش:
(1) عنوان هذه الرحلة :« الإكسير في فكاك الأسير»، تحقيق : محمد الفاسي / منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي – الرباط- 1965
(2) عنوانها : البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر: تحقيق: مليكة الزاهدي/ دبلوم الدراسات العليا- كلية الآداب- الرباط/1995.« مرقونة».
(3) الرحلة لا تزال مخطوطة، ونحن بصدد تحقيقها ودراستها لتقديمها أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ، وتوجد منها نسختان بالخزانة الحسنية بالرباط، الأولى: التي نحيل عليها في هذه المقالة تحت رقم : 12307ز، والثانية رقم : 5264.
(*) وقد قام الأستاذ عبد الهادي التازي بنشر جزء من هذه، الرحلة صدرت ضمن منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة « إيسيسكو» 1418/1997، مطبعة الجديدة- الرباط،« دعوة الحق».
(4) نقل ابن عثمان عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد القادري الفاسي أن هذا الحديث غير صحيح،« إحراز المعلى والرقيب/ص: 275.
(5) ابن عثمان، المصدر السابق / ص: 257
(6) نفسه :ص: 258
(7) نفسه: ص 257
(8) ابن عثمان: الإحراز.
(9) نفسه: ص: 261.
(10) نفسه.
(11) ابن عثمان: الإحراز- ص: 269
(12) نفسه : ص: 272
(13) نفسه ص. ص: 272-273.
(14) ابن عثمان: الإحراز- ص: 258.
(15) نفسه
(16) ابن عثمان:« الإحراز»
(17) نفسه.
(18) عبد الغني بن النابلسي:« الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجار/ تقديم أحمد عبد المجيد هريدي- مصر/ 1986- ص:98.
(19) ابن عثمان/ الإحراز/ ص: 258
(20) ابن عثمان/ الإحراز/ ص: 258
(21) نفسه: ص: 259
(22) نفسه : ص: 260.
(23) ابن عثمان: الإحراز/ ص: 261.
(24) نفسه
(25) Benaboud M: The Spiritual Dimension In Ibn Utman Al- Maknasi “Account of Jerusalem (18 th century”. In la vie social dans les provinces arabes à l’époque ottonance. Vol 3.Zaghouane, 1988 p.77.
(26) ابن عثمان : الإحراز/ ص: 265.
(27) نفسه ص: 271.
(28) نفسه
(29) ابن عثمان : الإحراز/ ص: 266.
(30) انظر تفاصيل صف ابن عثمان واستطراداته في « الإحراز»، ص: 266 وما بعدها، وص : 279 وما بعدها.
(31) نفسه: ص: 283
(32) نفسه: ص: 269.
(33) نفسه: ص: 270.
(34) ابن عثمان : الإحراز/ ص: 290.
(35) نفسه : ص: 286.
(36) ابن عثمان :« الإحراز» نفسه.
(37) ابن عثمان :« الإحراز» ص: 290.
(38) نفسه.
(39) نفسه.
(40) نفسه
————————————-
مجلة دعوة الحق: العدد 357 ذو القعدة – ذو الحجة 1421 يناير- فبراير 2001