تمهيد
يعتبر موضوع الملابس أو الأزياء المغربية الإسلامية، بنوعيها المدني والعسكري، من الموضوعات الأثرية الهامة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، جدة وطرافة في هذا المجال، لأن الملابس عامة تشكل عنصراً تراثياً هاماً من بين عناصر تراثنا المادي والفني، لا يقل أهمية عن بحث ودراسة أي أثر تراثي آخر مهما بلغت قيمته الفنية والفكرية معا.
ودراسة الملابس الإسلامية من ناحيتي الزمان والمكان تمثل مصدراً أثرياً أصيلاً يميط اللثام عن جوانب اجتماعية وثقافية مفيدة نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر تطور الذوق الاجتماعي، والأصناف والميول الفردية، وكذا الفروق الاجتماعية والمادية في المجتمع الإسلامي في جده وهزله، في فترات ازدهاره وذبوله واضمحلاله. هذا، فضلاً عن أن الملابس نفسها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعادات والتقاليد، خصوصاً أوقات المناسبات والأعياد والاحتفالات المختلفة، التي تحدد لنا طريقة ارتدائها، وتنوع ألوانها واختلافها. ومع ذلك، وبالرغم من أهميتها القصوى، فإنها لم تلق العناية اللاّئقة بها من قبل الباحثين والمؤرخين وعلماء الآثار والمشتغلين بالدراسات الاجتماعية الأخرى باستثناء بعض البحوث والدراسات القليلة المتفرقة هنا وهناك.
ومما لاشك فيه أنّ معلوماتنا عن الملابس عامة، والعسكرية منها على الخصوص، لا تزال في بدايتها. فمادتها متناثرة في المصادر التاريخية وكتب الرحالة والجغرافيين العرب، وهي لا تسعف الباحث في هذا المجال، لذلك نلجأ إلى الدراسات الأثرية التي تعد الحجر الأساسيّ في كشف أشكال الثقافة المادية، حيث تمكن الباحثون والعلماء بفضل الدراسات الدقيقة من استخلاص أشكال ومضامين شفاهية غير مسجلة من عادات الإنسان وتقاليده منذ العصور القديمة، وهو ما نبه الأثريين إلى تطبيق الدراسات الأثرية على التراث في جانبيه التاريخي والفني.
والمصادر الأثرية متنوعة يأتي في مقدمتها المخطوطات المزوقة([1])، والخزف والنسيج والجص والعاج وغيرها لاستكمال النقص وبالتالي رسم صورة واقعية عن الملبوسات. وباعتبار أن هذا التراث ما هو إلاّ نِتَاجٌ حضاري معاصر للفترة أو الحقبة التي أنجز فيها، وبالنظر إلى كونه يفيد في معرفة التواصل الحضاري في مجال التراث المادي، ورغبة منا في خدمة هذا الموضوع، ارتأينا أن نساهم بهذه الدراسة المتواضعة عن الملابس والأزياء المغربية في العصر الإسلامي من الناحية التاريخية والاجتماعية والحربية (العسكرية)، وذلك حسبما يتوافر لدينا من أدوات البحث المتعلقة بهذا الجانب الهام.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، سوف نتناول دراسة الملابس المغربية من جانبين رئيسين هما:
1 ـ جانب نظري.
2 ـ جانب عملي تطبيقي.
أما الجانب النظري، فيهتم بالناحية التاريخية لإثبات أصالة الملبوسات المغربية، وبالتالي يحاول اكتشاف المادة التراثية وتفحصها ومقارنتها، ثم ملاحظة توظيفها في المجتمع الإسلامي آنذاك.
أما الجانب العملي التطبيقي، فيأخذ في الاعتبار كل ما تيسر من مواد الملابس والأزياء في بلاد المغرب ومخلفاتها وموادها الخام، إذا أمكن الحصول عليها. هذا، فضلاً عن مصادرها كتجارة الأقمشة والخيوط لبيان المؤثرات عليها. ويخلص هذا الجانب إلى تقسيم الملابس إلى مجموعات حسب طريقة استعمالاتها، ولا سيما الناحية الاجتماعية لاقتصارها على وظيفة معينة أو فترة محددة.
وتهدف الدراسة الميدانية إلى بيان أصالتها وتتبع جذورها من حيث كونها ملابس مغربية إسلامية متوارثة ترجع في أصولها وتقاليدها إلى القرون الأولى للهجرة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه لا يتحقق إلا بالقيام بدراسة مقارنة تستند إلى الأدلة الأثرية والنصوص التاريخية، والتي تستحق التحليل الدقيق المقارن لمضامينها، علماً بأن المصادر التاريخية من جهة وكتب الجغرافية والرحلات والفقه والنوازل والمعاجم اللغوية من جهة ثانية، كلها تحتوي على العديد من الألفاظ والأسماء والصفات لمختلف أنواع الأزياء. ومن الأمثلة على ذلك ما نكتشفه في كتب التراث مثل كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني و”مروج الذهب” للمسعودي و”العقد الفريد” لابن عبد ربه و”البيان” لابن عذاري و”المعجب” لعبد الواحد المراكشي و”الإحاطة في أخبار غرناطة” للسان الدين بن الخطيب و”الحلة السيراء” لابن الأبار. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك كتب المسالك والممالك مثل كتاب “المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب” للبكري و”نوازل” ابن رشد.
أما المعاجم اللغوية، فقد أمدتنا بالكثير من المعلومات القيمة التي يتطلبها البحث، خصوصاً فيما يتعلق بأصول المفردات واشتقاق المصطلحات. وهنا لابد من الإشارة إلى أن استعمالنا لاصطلاح اللباس أو الزي العسكري للدلالة على عدة الجيش (الجند) وفي طليعته الخليفة أو الأمير والقائد والجندي المقاتل في المغرب الإسلامي شيء مبالغ فيه إلى حد ما، بل هو غير وارد تاريخياً البتة، لأن المغاربة المسلمين في مرحلة الفتح وصدر الإسلام وردحٍ من العصر الأموي، لم يعرفوا الجيش المنظم الدائم بمفهومه العسكري؛ كما أن المؤسسة العسكرية الإسلامية لم تتبلور وتأخذ أبعادها وسماتها الحقيقية إلا في العصر العباسي([2]) في حالة المشرق، والعصر الفاطمي في حالة المغرب. وحين جاء الإسلام، غدت الأمة كلها مقاتلة، وهذا يعني أن كل القادرين على حمل السلاح من الرجال ينفرون للحرب عند الحاجة([3]).
وهكذا، حين بدأت حركة الفتح العربي الإسلامي، اشترك فيها المقاتلة من مختلف القبائل. ومع ذلك، فهؤلاء المقاتلة لم يشكلوا جيشاً نظامياً بمعنى الكلمة، وبالتالي لم تكن هناك شارة أو لباس يميزهم، بل ظلوا على أزيائهم العادية ولباسهم الفضفاض الذي لا يعوق حركة أجسامهم ولا يقلقها عند الالتحام: »خفاف بسيطة وسراويل فوقها البرانس وجباب الصوف«([4]).
ومع ذلك، فإننا غالباً ما نجد أزياءهم متعددة الألوان، ولكن لم تكن للألبسة شارة أو رمز معين. وهذا يدل فعلاً على أن المسلمين في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام تميزوا بالبساطة. فالمسلمون جميعاً مجاهدون في سبيل الله يلبون النداء، ويركبون إلى الغزو بلباسهم العادي وأسلحتهم التي كانت بحوزتهم، واستعملوا بالإضافة إلى ذلك أغطية الرأس مثل العمائم.
ويمكن القـول ـ في ضـوء ما سبـق ـ بأن بحث ودراسـة الملابس (الأزياء) العسكرية المغربية والأندلسية في العصر الإسلامي، يطرح إشكالية معالجتها ودراستها دراسة تحليلية مقارنة كما وردت في المصادر التاريخية والأثرية، لندرة ما وصلنا بشأنها. ومما يزيد في صعوبة البحث أننا كلما حاولنا جمع شتات المادة التاريخية، نجد أنفسنا في بحر لجي بسبب ندرة الأخبار والأوصاف المتعلقة بها كما سبق أن ذكرنا؛ وحتى إن وجدت، فهي قليلة وشحيحة جداً لا تدلنا على شكل ثابت لها. ومن ثم فهي لا تسعف الباحثين المتخصصين في هذا المجال. وهذا لا يعني بطبيعـة الحال خلو المصادر التاريخية من المادة نفسها فحسب، بل هي قليلة جداً لا تعدو مجرد إشارات وتلميحات متناثرة هنا وهناك. وبالرغم من قلتها، فهي مهمة لما تضمنته من معلومات دقيقة، ولا سيما فيما يخص أنواع الملبوسات، وكذا التسميات التي عرفت بها وطريقة ارتدائها وطرزها وتنوع أصنافها. هذا، فضلاً عن المناسبات التي استعملت فيها آنذاك، حيث تميز كل فصل من فصول السنة بزي خاص.
وانطلاقاً من المعلومات التي تضمنتها، فهي تفيد في دراسة الملبوسات العامة والخاصة التي ارتبطت بفئات وطبقات معينة في المجتمع المدني؛ كما تساعد أيضاً في التعرف بشكل صحيح على المواد الخام التي صنعت منها تلك الملبوسات. نذكر من بينها ما حفلت به مؤلفات الإدريسي([5])وابن حيان([6]) والمقري([7]) من أخبار عن أهل قرطبة حاضرة الخلافة الأموية، الذين اشتهروا بحسن الزي في الملابس والمراكب([8]).
ويأتي في مقدمة هؤلاء المؤرخين الرحالة والجغرافي العربي ابن حوقل الذي تحدث عن أنواع الملابس المفضلة عند أهل الأندلس، فذكر منها »اللبود المغربية الثمينة والحرير، وما يؤثرونه من ألوان الخز والقز«([9]).
[وكان] يجلب منها الديباج ولم يساومهم في أعمال لبودهم أهل بلد على وجه الأرض. وربما عمل لسلطانهم لبود ثلاثية، يقوم اللبد منها بالخمسين والستين ديناراً… فهي من محاسن الفرش، ويعمل عندهم من الخز السكب والسفيق ما يزيد ما استعمل منه للسلطان على ما بالعراق ويكون منه المشمع فيمنع المطر من أن يصل إلى لابسه ([10]).
يتبين من كلام ابن حوقل الذي لم يحدد فيه منطقة أو جهة معينة أنه قصد مدينة قرطبة نفسها، ولا نستبعد أن تكون الملابس نفسها قد استعملها أهل المغرب بحكم عامل التأثير والتأثر والامتزاج الحضاري.
ونستخلص مما أورده المقري في مؤلفه “نفح الطيب” نقلاً عن ابن سعيد المغربي من أن ما كان يجري بالأندلس، كان يجري بقرطبة([11]). والغالب على سكانها ترك العمائم وانهم كثيراً ما كانوا يرتدون غفائر الصوف الحمر والخضر. أما الغفائر الصفر، فكانت “مخصوصة لليهود”، وأكثرهم لا يمشي »دون طيلسان، إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون« ([12]).
أما عن ابن عذاري المراكشي، فيلقي أضواء كاشفة حول الملابس الأندلسية بشكل خاص، فيعطينا ثبتاً كاملاً بأصناف الملبوسات الممتازة وتسمياتها، التي شاع استعمالها من قبل الأندلسيين خلال القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ـ كما يفهم من عبارته التي يشير فيها إلى أنه من بين أصناف الأكسية: »… الخز الطرازي، وصوف البحر والكساء العنبري،والسقلاطون، والمريشات وأنماط الديباج، والديباج الرومي والفروي الفنك«([13]).
ومما يؤثر على أهل الأندلس ما سنه الفنان زرياب لسكان قرطبة من لبس البياض وترك الملابس الملونة في فصل الصيف، بينما يعودون إليها »ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة«.وجعلهم يلبسون في الفصل الذي بين الحر والبرد »جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها«([14]).
أما في بداية الفصل الذي بين البرد والحر، وهو ما يطلق عليه المقري اسم الخريف، فكانوا يلبسون فيه »المحاشي والمروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة«. وفي فصل الشتاء، فقد نصحهم زرياب أن يستظهروا من تحت ثيابهم »صوف الفراء«([15]).
وإذا كانت هذه حال الملابس الأندلسية كما كشفت عنها أوصاف المؤرخين والجغرافيين العرب، فماذا عن الملابس المغربية خلال العصر الإسلامي؟ فهل نالت هي أيضاً عناية واهتمام هؤلاء الكتاب والمؤرخين أو أنها ظلت بعيدة عن ذلك؟ والغريب أن ما ذكره المؤرخون بخصوص هذا الموضوع أكدت جزءاً كبيراً منه الآثار الإسلامية.
ومهما يكن من أمر، فالذي لا جدال فيه أن ما نملكه من نصوص تاريخية عن أصناف الملابس المغربية قليل لا يفي بالمطلوب ولا يسعف الباحث في هذا الحقل من الدراسات الأثرية.
ومع ذلك، فاستناداً إلى الإشارات المقتضبة التي وردت عنها في كتب المؤرخين والجغرافيين، نستطيع رسم صورة حقيقية عنها. من ذلك مثلاً ما ذكره المقدسي حول »الرساتيق ـ الأقاليم ـ كانوا يرتدون أكسية« وأن عامة سكان المغرب من البربر الذين أطلق عليهم السوقة، كانوا يرتدون المناديل، والمنديـل ـ كما هو معروف ـ لباس من صوف يغطي الرأس ويتدلى على الكتفين والظهر، وليس ببعيد أن يكون هذا المنديل بمثابة عمامة أو زناراً يتمنطقون به، كما يستشف من الأخبار التاريخية أن لبس الجبة كان من الصوف، فهذا اللباس البسيط انتشر بشكل خاص في مدينة تاهرت حاضرة الدولة الرستمية في المغرب الأوسط، وهو ما أكده ابن الصغير في معرض كلامه عن عبد الرحمن بن رستم الذي كان يكثر من شراء هذا النوع من الملبوسات، »فاشترى أكسية صوفاً وجباباً صوفاً وفراء«([16]).
ويتضح من عبارة ابن الصغير أن الصوف والفراء كانا يشكلان أهم الأقمشة التي لقيت إقبالاً شديداً بين الناس. هذا، بالإضافة إلى أن الجبة أو الجباب اعتبرت أيضاً من الأزياء المحببة لدى الأمراء. ومع ذلك، فالغموض وشحة الوثائق لدى المؤرخين القدامى قد امتدت عدواها إلى الباحثين المحدثين، فجاءت كتاباتهم وأبحاثهم في هذا الصدد مختلفة وغير ثابتة على حد تعبير أحد الباحثين العرب الذين اشتغلوا بموضوع الملابس([17]).
ومهما يكن من شيء، فالذي لاشك فيه أن لباس الصوف كان يعد لباساً عاماً شاع استعماله في بلاد المغربين الأدنى والأوسط حيث ارتداه الزعماء والقادة والخلفاء والأمراء. يدل على ذلك أن أبا يزيد مخلد بن كيداد حين فجر ثورته في وجه الفاطميين الشيعة كان لباسه الصوف([18]).
وفي ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن لبس الجبة كان يشكل أيضاً لباساً رسمياً عند الخلفاء الفاطميين الذين كانوا يظهرون البساطة والتقشف في حياتهم السياسية. فقد روي عن الخليفة المعز لدين الله أنه استدعى ذات يوم أشياخاً من كتامة في يوم شتاء بارد، فدخلوا عليه في مجلس قد »فرش باللبود، وعليه جبة« ([19]).
والجبـة ـ كما هـو معـروف من أوصاف المعاجم اللغوية ـ كانت عبارة عن لباس طويل تتدلى إلى الركبة، وقد تزيد، لأنها تستر ما تحتها.
والحقيقة أن دراسة هذا النوع من الملابس الإسلامية ما زال يكتنفه الغموض، بسبب ندرة المعلومات من جهة، وقلة الرسوم والصور التي حفظتها الآثار من جهة أخرى.
البرنس
استعمل أهل المغرب، في العصرين القديم والإسلامي، البرنس ثوباً خارجياً. والبرنس كما عرفه ابن سيدة هو »كل ثوب رأسه منه متصل به سواء أكان دراعة أم ممطراً أو جبة«([20]).
وحسب المقدسي، فإن سكان هذه البلاد من البربر كانوا جميعاً يرتدون البرانس البيضاء والسوداء على حد سواء. وكما هو معروف، فالبرنس لباسٌ صوفي كان يستعمل في فصل الشتاء للوقاية من البرد والمطر، كما استعمل في بعض المناطق في كل الفصول أو على مدار السنة.
ومن المرجـح جداً أن لبس البرنـس في القديم كان يعد شارة أو علامة مميزة لطوائف من البربر، عرفوا تبعاً لذلك باسم “البرانس”، كانوا يمتهنون التجارة والزراعة، وتشربوا لثقافة اللاتينية. فهؤلاء تميزوا عن جيرانهم بلبس برنسٍ له غطاء رأس، بينما عرف الصنف الآخر من البربر باسم “البتر”، لارتدائهم برنساً مبتور الرأس، أي دون غطاء الرأس، وهؤلاء كانوا بدواً بعيدين عن تأثير الثقافة اللاّتينية.
وأما تفسير “البتر” بأنهم سموا كذلك لتجردهم من زي معين يعرف بالبرنس([21])، فهو تفسير لغوي لا يستند إلى أساس علمي قوي([22]). وعلى الرغم من تسليمنا بعدم صحة هذا التقسيم لسكان المغرب، فإن البرنس لباس خارجيّ كان يشكل زياً شعبياً منذ القديم في بلاد المغرب توارثته الأجيال وتواصل لبسه حتى اليوم.
ولعل لباس البرنس هذا هو الذي أشار إليه ابن الصغير في معرض حديثه عن عبد الرحمن بن رستم حينما قال: »… اشترى أكسية صوفاً«([23]) ووزعها على المحتاجين من أهل مملكته؛ ومن المحتمل جداً أنها كانت ألبسة صوفية غير مفصلة يلتحف بها كالحايك دون غطاء الرأس. وفي هذا الصدد يقول دوزي: »إن كلمة البرنس قد عنيت في الأزمنة القديمة طاقية، إلا أنها تشير إشارة في العصور الحديثة إلى معطف ضخم له قلنسوة«([24]).
والجدير بالملاحظة أن لبس البرنس لم يقتصر على سكان المغرب فحسب، بل امتد وانتشر إلى حد ما في المشرق في العصر العباسي، حيث اتخذ لباساً مميزاً للذين يشهرون بهم من الخارجين على الدولة. وجرت العادة في مثل هذه الحالة أن يلبسوا الخوارج برانس، ويطوفوا بهم على هذه الشاكلة في الشوارع والدروب([25]).
وبالإضافة إلى ما سبق، كان البرنس أيضاَ يشكل لباساً خاصاً عند اليهود وأطلق عليه اسم “براطيل”، كما شاع لبسه من قبل النصارى حسبما ذكره متز([26]).
وأكد المسعودي ظاهرة استعمال البرنس في العصر العباسي بقوله: »… ودخل المعتضد وبدر الكبير مدينة السلام، وبين أيديهما وصيف الخادم على جمل فالج وعليه دراعة ديباج وبرنس وخلفه جماعته وقد لبسوا الدراريع من الحرير الأحمر وعلى رؤوسهم البرانس« ([27]).
والمتأمل في النصوص السابقة يلاحظ أن وصف البرنس لا يدل على أنها متصلة بالرأس بلباس آخر مثل الدراعة، وإنما تدل على أنه غطاء للرأس فحسب. والبرنس المشرقي بهذه الكيفية يختلف تمام الاختلاف عمّا عرفناه عن البرنس الإفريقي أو المغربي الذي يتميز بمواصفات خاصة.
ولا يزال البرنس يستعمل في بلدان المغرب العربي حتى اليوم؛ ويحمل الاسم نفسه، ولكننا حينما نحاول البحث عن صورته التاريخية في الآثار الإسلامية المغربية، فإنه يكون صعب المنال، بسبب زوال معظم الفنون التطبيقية التي كانت تحمل صوراً حية من المجتمع المغربي في العصر الإسلامي. وفيما يخص البرنس المشرقي، فالأمر يختلف تماماً من هذه الناحية، حيث لا تزال بعض الآثار تحتفظ بصوره. من ذلك مثلاً نذكر أن أقدم صورة ما زالت تحتفظ بشكل البرنس على الآثار المشرقية، تلك التصويرة الواردة في مخطوط كتاب “كليلة ودمنة”([28])، وهي تمثل قصة “الناسك وابن الثعبان”، حيث نشاهد الناسك في الصورة وقد أسند ظهره إلى عمود داخل البيت، بينما وقف أمامه ابنه. ويظهر الناسك في برنس مؤلف من قطعة واحدة يغطي الجسم والرأس معاً، والجزء الذي يغطي البدن أقرب ما يكون إلى الدراعة، وهو متصل من أعلى بغطاء للرأس على شكل قلنسوة عالية([29]).
ونحب الإشارة هنا إلى أن البرنس، سواء كان مصنوعاً من الصوف أو الوبر، يعتبر من أهم الأزياء المحلية في المغرب الإسلامي.
ومما لاشك فيه أن الصوف كانت تشكل المادة الأولية في لباس القادة والخلفاء والأمراء. ويؤثر عن زعيم الموحدين الروحي المهدي ابن تومرت أنه يظهر التقشف والبساطة في لباسه، حيث اقتصر على لبس »ثياب الصوف من قميص ومن سراويل ومن جبة تواضعاً« ([30]).
وأصبح “البرنس” ولبسه من الأمور التي تحرص عليها كل طوائف المجتمع المغربي في العصر الإسلامي، يستوي في ذلك الرجل العادي والجندي والفقيه والعالم والسلطان، ولكن بدرجات متباينة يراعى فيها اللون والشكل والمادة، وهو ما أشار إليه القلقشندي في كلامه عن »لبس السلطان بالمغرب«، خصوصاً يوم الاحتفال أو يوم التمييز وهو: »يوم عرضهم (الجند) على السلطان، ويختص السلطان بلبس البرنس الأبيض الرفيع لا يلبسه ذو سيف غيره«([31]). ومنذ ذلك الوقت صار هذا العمل تقليداً متبعاً في كل بلدان المغرب الإسلامي.
أما الفقهاء، فقد لبسوا البرنس الأبيض شأنهم في هذا شأن السلطان، على حين كان »العلماء وأهل الصلاح لا حرج عليهم في ذلك، ولا حرج في غير الملون مثل الأبيض من البرانس«([32]).
ويستشف من الإشارات التاريخية أن البرنس المغربي كان يعد من الأشياء الثمينة التي تهدى للملوك والسلاطين بالمشرق. فقد أهدى السلطان أبو الحسن المريني لدولة المماليك بمصر»الحلل المرقومة المذهبة والأنساق والقنع والمحررات المختمة والبرانس المصنوعة من الحرير المشفف وأحاريم الصدف«([33]).
يتبين من الأوصاف السابقة المتعلقة بهذا النوع من الملابس الشعبية أننا نستطيع أن نتمثل صورته الواضحة. وقد ارتداه السلطان المريني والزياني وغيرهما من القادة والجند، إذ لا غنى لأحد عنه لأهميته التاريخية في المناسبات والاحتفالات الرسمية والحياة اليومية([34]).
السروال
إن المعلومات التي انتهت إلينا بخصوص هذا اللباس ضئيلة جداً. ويبدو أن سبب إحجام الكتاب والمؤرخين عن ذكره يرجع بالدرجة الأولى إلى عدم شيوعه بين الناس من جهة، وإلى كونه لباساً محدود الاستعمال من جهة ثانية([35]).
ونحب، قبل أن نفصل القول في هذا اللباس، أن نشير إلى أصل السروال اللغوي والتاريخي، لأن ذلك يساعدنا على فهم أهميته باعتباره لباس البدن الداخلي.
وعليه، فالسروال مؤنثة، وتجمع على سراويل وسراويلات([36]). وإذا كانت الكلمة عربية، فإن السروال في الأصـل ليس عربيـاً. ومن المرجـح أنه انتقل إلى العرب من بـلاد فارس، وهي مشتقـة من الفارسية القديمة “زرد أرد”([37]).
وتحدث الجاحـظ عن القميص والسروال في عهده، فقال([38]): »إن القميص والسروال هما الشعار، وسائر الثياب الدثار«.
أما عن شكل السروال، فيتألف من حجرة وساقين([39]). وتتميز بأنها تستر من الجسم أسفله، وتكون مفصلة ومخيطة. وهي على أنواع، منها سراويل أسماط، أي غير محشوة([40])، وسراويل مخرفجة ومفرسخة، وهي السراويل الواسعة([41]).
كان السروال من ملابس المجتمع المغربي القديم، كما كان لباساً مهماً شاع بين طبقات المجتمع المغربي في العصر الإسلامي من الخلفاء والسلاطين والحكام. ويعتبر السروال بالإضافة إلى ذلك من لباس الكتاب([42]) والفقهاء والقضاة وقادة الجيش والجند.
وكان الأغنياء من التجار يلبسون القمصان والأردية فوق السراويل([43]). ولما كان السروال لباساً عاماً، لبسه أعاظم الناس وأصاغرهم. وهي لذلك، لابد أنها كانت تختلف في شكلها ونوعها ولونها من فئة إلى أخرى، لأنها اتخذت من قِبَلِ مختلف الطبقات التي تتفاوت في المركز الاجتماعي والمادي. من ذلك مثلاً أن سراويل الإمام يعقوب بن أفلح الرستمي كانت تمتاز بعرضها الفضفاض حتى بلغت »حجرة سراويله في جنبه«([44]).
وكانت السراويل تتخذ من القماش، أي الكتان([45]). ويبدو أنها كانت أيضاً من طبقة الأثرياء. فقد ذكر الغبريني في ترجمته للتجيـبـي([46]):
أنه كان يوماً يسير إلى باب البحر (ببجاية) ومعه بعض خواصه، وإذا بشخص يتمايل سكراً، فألقى يده الشيخ فقال له: يا سيدي ارفع ما أتم به هذه السكرة. فانتهره الناس، فقال لهم: لا عليكم، دعوه!فتركوه. فأخذ سرواله ودفعه إليه لأنه لم يكن عنده، فانفصل الرجل والسروال بيده.
كان السروال في بلاد المغرب الإسلامي ذا أهمية خاصة عندما أصبح يشكل زياً رسمياً لرجال الدولة، بالإضافة إلى أزياء أخرى استعملت معه. ومع ذلك، فينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن كل طبقة من الطبقات التي سبقت الإشارة إليها كانت تختلف سراويلها من حيث شكلها ولونها ومناسبات لبسها. فقد جرت العادة في بلاد المغرب على أن الجند المقاتل وخصوصاً فرقة المشاة، كانوا يرتدون “جبا دولي” الأحمر أو الأخضر، ومن لباسهم أيضاً السروال الأزرق، والصدرية والعمامة أو الطربوش وكلاهما أحمر([47]). أما سراويل الجند والفرسان، فالمعلومات والإشارات الواردة بشأنها ضئيلة جداً ومقتضبة وغامضة، وأحياناً متناقضة؛ كما أن المصادر التي نستقي منها معلوماتنا عن الملبوسات المغربية قلما تذكر طول الملبوس وطريقة تفصيله وخياطته أو طريقة ارتدائه أو الألبسة التي تلبس مجتمعة معا([48]).
وفي هذه الحالة، نلجأ إلى المصادر المادية الأثرية، والتي لا يزال بعضها يحتفظ برسومها أو صورها. ومن الأمثلة على ذلك، نذكر أن السروال المصور على الآثار المغربية والأندلسية، جاءت بأشكال وأنماط متباينة في تفصيلها وخياطتها تبعاً للمناسبة التي اتخذت فيها. وفضلاً عن ذلك، فإننا نستدل على صورة هذه السراويل من العلب العاجية التي كانت تصنع في الأندلس. وقد وصلت إلينا مجموعة طيبة من صناديق مستطيلة الشكل غطاؤها على هيئة هرم مسطح وعلب أسطوانية الشكل، وجميعها كانت تتخذ لحفظ العطور والعنبر والمسك([49]).
تبين من رسوم هذه العلب أن الفرسان من الصيادين يرتدون سراويل تصل حتى الأقدام وتكاد تلتصق بالسيقان بحيث تبدو كما لو كانت جوارب([50]).
ومن المرجح جداً أن تلك السراويل هي اللباس نفسه الذي أطلق عليه المقري اسم: »الأشكر لاط« ([51]). وعلى العموم، ومهما يكن من شكل هذه السراويل، فليس بين أيدينا في الحقيقة رسم مصور واضح للسروال الأندلسي بعد القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي.
وفيما يخص بلاد المغرب الإسلامي، فالإشكال يظل مطروحاً بسبب إحجام المؤرخين من جهة، وغياب الفنون والصنائع التي قد تساهم برسومها في حل هذا الإشكال من جهة ثانية؛ وحتى إن وجدت، فنادراً ما تحمل بين زخارفها رسوماً آدمية.
—————-
([1]) يأتي في طليعة المصادر الأثرية: مقامات الحريري التي رسمها الواسطي والمحفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس.
([2]) فاروق عمر فوزي، »الجند الأموي والجيش العباسي ـ دراسة في تطور المؤسسات العسكرية في العصرين الأموي والعباسي«، مجلة المورد، عدد خاص، المجلد الثامن، العدد 4، 1979 م، ص. 234.
([3]) المقال نفسه، ص. 234.
([4]) المسعودي، مروج الذهب، على هامش الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج 5، ص. 127.
([5]) كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
([6]) المقتبس من تاريخ الأندلس.
([7]) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
([8]) د. أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلامي.
([9]) أطلق المسلمون على الحرير كلمة “القز” قبل غزله، ولكنه عندما يخلط مع الصوف يسمونه “الخز”. (انظر ابن سيدة، المخصص).
([10]) ابن حوقل، صورة الأرض، القسم الأول، ص ص. 110 ـ 114.
([11]) د. أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلا مي، ص. 259.
([12]) المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1، ص ص. 207 ـ 208.
([13]) ابن عذاري، البيان المغرب، ج 1، ص. 297.
([14]) المقري، نفح الطيب، ج 1، ص ص. 207 ـ 208.
([15]) المصدر نفسه، ص. 208.
([16]) ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين، تحقيق محمد ناصر وإبراهيم بحاز، بيروت، ط. دار الغرب الإسلامي، 1986 ، ص. 4.
([17]) د. صلاح العبيدي، الملابس العربية الإسلامية في العصر العباسي، ط. دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980، ص. 91.
([18]) ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان، تونس، الدار التونسية للنشر، 1976 م، ص. 157.
([19]) المرجع نفسه، ص. 159.
([20]) ابن سيدة، المخصص، ج 4، ص. 81.
([21]) انظر عبد الحميد العبادي، المجمل في تاريخ الأندلس، القاهرة، 1958 م، ص. 32.
([22]) د. عبد العزيز سالم، المغرب الكبير في العصر الإسلامي، ج 2، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1966 م، ص. 136.
([23]) ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين، ص. 41.
([24]) دوزي، المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب، ترجمة د. أكرم فاضل، بغداد، طبعة وزارة الإعلام العراقية، 1971 م، ص. 66.
([25]) د. صلاح العبيدي، الملابس العربية الإسلامية، ص. 234.
([26]) آدم متز، الحضارة الإسلامية، ج 1، ص. 94.
[27]) المسعودي، مروج الذهب، ج 4، ص ص. 267 ـ 268.
[28]) د. خالد الجادر، المخطوطات العراقية المرسومة في العصر العباسي، بغداد، طبعة وزارة الإعلام، 1972 م، ص ص. 38 ـ 39.
[29]) د. صلاح العبيدي، الملابس العربية، ص ص. 235 ـ 236.
[30]) ابن القطان، نظم الجمان، تحقيق محمود علي مكي، طبعة تطوان، ص. 132.
[31]) القـلقشنـدي، صبـح الأعشـى في صناعـة الإنشـا، القاهـرة، الطـبعة الأميريــة، 1915 م، ج 5، ص. 204.
[32]) المصدر والصفحة نفسهما.
[33]) ابن مرزوق، المسند الصحيح الحسن، ص ص. 452 ـ 453.
[34]) أشار الإدريسي في معرض كلامه عن مدينة “نول لمطة” المغربية إلى شهرتها ببيع الأكسية المسماة »بالسفسارية والبرانس التي يساوي الزوج منها خمسين درهماً ديناراً وأقل وأكثر«. (المغرب العربي من كتاب نزهة المشتاق، تحقيق وتعجيم محمد حاج صادق، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1983، ص. 75).
[35]) د. صلاح حسين العبيدي، الملابس العربية، ص ص. 195 ـ 196.
([36]) أبو هلال العسكري، كتاب التلخيص في معرفة أسماء الأشياء، تحقيق د. عزت حسن، دمشق، مطبوعات مجمع اللغة العربية، 1389 هـ، ج 1، ص. 214.
([37]) ابن سيدة، المخصص، ج 4، ص. 83، ويعرف في الفارسية الحديثة باسم “شلوار”.
[38]) الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي، 1914 م، ص. 154.
[39]) ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص. 152.
[40]) ابن سيدة، المصدر السابق، ج 4، ص. 83.
[41]) المصدر والصفحة نفسهما.
[42]) الخالديان، التحف والهدايا، تحقيق سامي الدهان، القاهرة، طبعة دار المعارف بمصر، 1956 م، ص. 157.
[43]) القرطبي، صلة تاريخ الطبري، أبريل 1897، ص. 79.
[44]) ابن الصغير، سيرة الأئمة…، ص. 113. ويروي في هذا الشأن عن الإمام نفسه أنه »كانت له أخلاق في لباسه وركوبه يخرج عن طبع البشر، حجرة سراويله في جنبه«.
[45]) وكانت السراويل تتخذ من القماش الأبيض والأسود والأزرق.
[46]) الغبريني، عنوان الدراية، تحقيق رابح بونار، الجزائر، ط. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1970 م، ص. 152.
([47]) عبد العزيز بنعبد الله، مظاهر الحضارة المغربية، القسم الثالث، الرباط، نشر دار المسلمين، 1958 م، ص. 43.
[48]) صبيحة رشيد رشدي، الملابس العربية وتطورها في العهود الإسلامية، بغداد، نشر مؤسسة المعاهد الفنية، ط 1، 1980 م، ص. 5.
[49]) عن هذه الرسوم وأوصافها، انظر:
José Ferrandis, Marfiles Arabes de occidente, Tomo 1 – 2, Madrid, 1935,
T. 2, Figure 26, pp. 26-27.
[50]) د. محمد عبد العزيز مرزوق، الفنون الزخرفية الإسلامية في المغرب والأندلس، بيروت، طبعة دار الثقافة، دون تاريخ، ص ص. 179 ـ 192.
[51]) المقري، نفح الطيب، ج 1، ص. 207.
* قسم الآثار بكلية العلوم الإنسانية جامعة الجزائر