قبل الخوض في عناصر الالتقاء والتقاطع بين الدولة الدينية والدولة المدنية، لابد من توضيح المقصود من كلا المصطلحين، فالدولة الدينية تعرف في الأدبيات السياسية والدستورية بأنها ” دولة مقاليد الحكم فيها بيد المؤسسة الدينية.. فقوانين الدولة الدينية هي أحكام إلهية، ورجال الدين الذين يحكمون سلطتهم مقدسة، فالدولة أو الحكومة الدينية هي التي يستمد حكامها السلطة والقوة مباشرة من الله، وحكامها ممثلون أو مجسدون لسلطة الله على الأرض ” والدولة الدينية تمثل أقدم أشكال الحكم على وجه الأرض، وقد ظهرت في مصر الفرعونية وبلاد فارس والصين واليابان وبلاد ما بين النهرين وأوروبا وغيرها من بلاد العالم.
أما الدولة المدنية فتعرف بأنها ” تقوم.. على أساس عدم تدخل الدين.. في وظائف الدولة، فقيم المجتمع ومعاييره ومقاييسه يجب ألا تتأثر ولا تخضع لسيطرة الدين.. وفي الدولة المدنية نجد أن الأمة هي مصدر السلطة، والحكم فيها هو حق للأمة تفوض فيه من تشاء.. وتفصل الدولة المدنية بين ما هو ديني وما هو دنيوي فصلا حاسما وواضحا، فلا يكون للسلطة الدينية وصاية على العقل البشري، وإنما ينفتح المجال واسعا أمام الاجتهاد والتطور، وتفصل الدولة المدنية أيضا بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وترسي مبدأ التعددية، وتجعل من الديمقراطية والشورى والعدالة والحرية والمساواة دعائم أساسية للنظام السياسي”، وهذا الفهم للدولة المدنية هو ما نصطلح على تسميته بالدولة العلمانية بصورتها الغربية المتزمتة التي لا تمد جسور التقارب والتفاهم مع الدين متأثرة بالتجربة التاريخية للكنيسة في أوروبا.
ولكن مع ذلك يمكن أن نتلمس وجود بعض مظاهر التقاطع والالتقاء بين مفهومي الدولة الدينية والدولة المدنية، لاسيما إذا فهمنا الدين بمقاصده العامة المرتبطة بحفظ الكيان الإنساني وتحقيق الكرامة وبسط الحقوق المحترمة لأفراده وجماعاته، ومن هذا المنطلق سنجد أن وظائف الدولة أي كانت مدنية أو دينية تتمثل حسب رأي احد الكتاب بما يلي:
1- حفظ الثغور والحدود ومنع أية محاولة للتعدي والعدوان، وأن أي خلل على هذا الصعيد يعد تهاونا من مؤسسة الدولة.
2- حفظ المصالح العامة، فمؤسسة الدولة لا يمكنها تعميق شرعيتها في الفضاء الاجتماعي، بدون سعيها المتواصل لحفظ مصالح شعبها العامة.
3- تحقيق العدالة، في المجتمع الإنساني حيث تتضارب الإرادات وتتعدد الميولات وتتراكم نزعات السيطرة والهيمنة، تكون من وظائف الدولة الكبرى تحقيق العدالة في المجتمع، سواء في الفرص التي تتيحها لشعبها، أو في توزيع الثروات والإمكانات، أو في مشروعات البناء والتنمية.
كما أن مقومات الدولة أي دولة يجب أن تستند إلى ما يلي:
1- التعاقدية بين الحاكم والمحكوم، فلا تكون الدولة قائمة على الإكراه والغلبة والاستئثار من قبل الحاكم.
2- المشاركة في صنع القرار بين الحاكم والمحكوم بعيدا عن الاستبداد والطغيان.
3- المراقبة والمحاسبة الشعبية والتزام كافة المسؤولين بالدستور ومقتضيات العدالة والمساواة.
4- التداول والانتقال السلمي للسلطة في ظل عملية انتخاب نزيهة وشفافة.
وإذا نظرنا إلى منظومة القيم التي تستهدفها الدولة الصالحة سنجدها تتمحور حول مبادئ لا خلاف عليها هي: العدل والعدالة والمساواة والحرية والشورى، وهذه المبادئ وغيرها محل اتفاق في كونها هدف الدولة الدينية بفهمها الإسلامي المعتدل، وهدف الدولة المدنية بفهمها المعاصر، فتكون وظائف الدولة ومقوماتها ومنظومتها القيمية من المشتركات الإنسانية بين دينية ومدنية الدولة.
أما عوامل التقاطع بين الطرفين، فيقع في مصدرية السلطة والتشريع، فالسلطة في الدولة الدينية مصدرها الله تعالى، وله السيادة على البشر، وكذلك التشريع مصدره الهي بإحكامه العامة، وعلى البشر استنباط الأحكام التفصيلية من مقاصدها التشريعية العامة، كما يمكن أن نتلمس بعدا آخر للتقاطع يتمثل في اتجاه حركة الحكومات وشعوبها، وفي مصطلحاتنا المعاصرة نشير إليه بالرؤية الإستراتيجية للحركة نحو المستقبل، فالدولة الدينية تتحرك من الناحية المعيارية نحو تجسيد العبودية لله وطاعته في جميع أحكامها ومظاهرها ليتحقق في الامتداد الطولي لهذه الحركة سعادة الإنسان ورفاهه وتقدمه في الحياة الدنيا والآخرة، أما الدولة المدنية فتتحرك نحو خير الإنسان وتقدمه إجمالا في إطار الاجتهاد البشري ومستخلصات التجربة التاريخية للإنسان سواء تحقق ذلك في إطار العبودية لله أم في إطار الاجتهاد الوضعي للبشر.
وعندما نسقط ما تقدم على تجربة الدولة في إيران بعد عام 1979 ودستورها النافذ سنجد ما يلي:
1- إن الدولة في إيران، دولة دينية مذهبية بامتياز، وقد نص على ذلك دستورها النافذ بمختلف مواده، منها المادة الثانية الفقرة الخامسة التي أشارت إلى أن من أهداف الدولة ” الإيمان بالله الأحد (لا اله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره ” و” الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام ” والمادة الرابعة التي نصت ” يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات..” والمادة الخامسة التي نصت: ” في زمن غيبة الأمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه، العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع، القادر على الإدارة والتدبير..” إلى آخره من المواد التي تؤكد دينية الدولة وانتمائها المذهبي المحدد.
2- وقد أعطى الدستور الحق للأمة في الإدارة من خلال مجالس الشورى (م 6 وم 7)، واقر بوجود ثلاث سلطات للدولة منفصلة هي: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، إلا أنه جعل هذه السلطات تعمل تحت إشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة (م 57)، كما أخضعت مجلس الشورى وهو السلطة التشريعية المنتخبة إلى الرقابة الملزمة لمجلس صيانة الدستور الذي يتكون من اثني عشر عضو ستة منهم يختارهم الولي الفقيه، والستة الآخرين يرشحهم رئيس السلطة القضائية المعين من الولي الفقيه (م 91) بحث يفقد مجلس الشورى شرعيته بدون وجود مجلس صيانة الدستور (م 93) هذا في الوقت الذي يكون لهذا المجلس صلاحيات واسعة في الرقابة على انتخابات خبراء القيادة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى والاستفتاء العام (م 99). بالإضافة إلى صلاحيات الولي الفقيه في الرقابة والإشراف أعلاه، فان له صلاحيات واسعة جدا حددتهــا المادة 110 وتتمـــــــثل بـــ:
– تعيين السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية
– الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام
– إصدار الأمر بالاستفتاء العام
– القيادة العامة للقوات المسلحة
– إعلان الحرب والسلام والنفير العام
– نصب وعزل وقبول الاستقالة من فقهاء مجلس صيانة الدستور، وأعلى مسؤول في السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ورئيس أركان القيادة المشتركة، والقائد العام لقوات حرس الثورة، والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
– حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث.
– حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها.
– إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية المنتخب.
– عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية.
– العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية.
هذه السلطات الواسعة للولي الفقيه موجودة، في الوقت الذي أشارت المادة الثالثة من الدستور الإيراني في الفقرة السابعة إلى انه من وسائل تحقيق أهداف الجمهورية هو ” محو أي مظهر من مظاهر الاستبداد والدكتاتورية واحتكار السلطة “.
3- وفي الوقت الذي أعطت المواد 12 و15 من الدستور الحق لأصحاب المذاهب والأديان الأخرى في التمتع بالحقوق وفقا لأديانهم ومذاهبهم، نجد أنه في مجال التعليم تم فرض اللغة الفارسية لتكون لغة التعليم، واقتصار التخاطب بلغاتهم على الصحافة ووسائل الإعلام العامة.
4- وعلى الرغم من أن المادة 26 أعطت الحرية بالتواجد للأحزاب والجمعيات والهيئات السياسية والاتحادات المهنية والهيئات الإسلامية.. فإنها حددتها بشرط عدم التناقض مع أسس الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية والقيم الإسلامية وأساس الجمهورية الإسلامية، وهذه شروط ربما تكون مطاطة، وتستغل في الإقصاء ومحاربة المعارضين.
مستقبل نظام الحكم في إيران
يتحدد مستقبل نظام الحكم في إيران بنجاحه في الإجابة عن ومعالجة ما يلي:
أولا: هل دينية الدولة تفهم من خلال جعل الدين عامل اجتماعي – سياسي لإسعاد المجتمع، وتنمية قدراته، وضمان حقوقه وحرياته، ومعالجة مشكلاته الملحة، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، واستيعاب تطورات العصر. أم أنه شعار سياسي لإدارة السلطة وإعطاء المشروعية المقدسة للنخبة السياسية المهيمنة لديمومة وجودها فيها وإقصاء معارضيها؟.
ثانيا: ما هي حدود الاستقلالية الفردية، وقبول وجود المعارضة السياسية في ظل الحكم الديني للجمهورية الإسلامية، ومدى قدرة هذا النظام على استيعاب التجربة التاريخية للرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين، وهل سينجح في الانتقال من دولة النموذج المذهبي إلى دولة النموذج الحضاري؟.
ثالثا: نجح النظام بعد موت السيد الخميني في تجاوز مشكلة انتقال السلطة، فهل سينجح في ظل الآليات المحددة في المادة 107 في تجاوز هذه المشكلة في المستقبل هذا من جهة، ومن جهة أخرى في ظل الصلاحيات الواسعة المحددة للولي الفقيه هل سيستطيع النظام المؤسسي للدولة الإيرانية عزل الولي الفقيه في حالة توظيف صلاحياته لأغراض خاصة ضيقة من قبل قادة مستقبليين غير ملتزمين؟.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com
[email protected]
…………………………………
مصادر تم الاستفادة منها:
– محمد عتريس. الموسوعة في المصطلحات السياسية والبرلمانية. ط1. القاهرة، مكتبة الآداب، 2011.
– محمد محــــفوظ. تحرير الديني: الدولة المدنية طريقــــا. ط1. بيروت، مـــؤسسة الانتشار الـــعربي، 2010.
– الدستور الإيراني النافذ.
* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية