بقلم: حياة الحويك عطية
الموضوع المحدد لهذه الورقة هو تناول العلاقات الصهيونية- النازية في الفترة الواقعة ما بين عامي 1933 و1942. أي منذ وصول هتلر إلى السلطة في 30 يناير 1933 وحتى 1941وإذا كان مما لا شك فيه أن هذه العلاقة قد مرت بإشكاليات متعددة متناقضة تندرج من التماهي الايديولوجي إلى العداء مروراً بالتعاون الوثيق وفق اتفاقات رسمية موقعة واتفاقات ضمنية مبرمجة، منها ما أعلن ومنها ما ظل طي ملفات التاريخ، بعد هزيمة الرايخ الثالث، واستسلامه بدون شروط، مما جعل أطنان الوثائق محظورة على الباحثين لسببين رئيسيين:
حرص المنتصر على تثبيت روايته الرسمية للتاريخ. وحرص الذين تعاونوا بشكل أو بآخر مع المهزوم، على إخفاء هذا التعاون كي لا يلحقهم ما لحقه من تجريم، وكي يكون بإمكانهم الوقوف في مقدمة جوقة الاتهام والإدانة للإفادة من مكاسب الانتصار ودعم المنتصر.
وكون هذا الاتهام وهذه الإدانة، لم يقتصرا على الجانب الحدثي السلوكي في إدارة السياسة والحرب، وإنما تعدى ذلك بشكل أساسي إلى الايديولوجيا نفسها، فلا بد من البدء بمقدمة تقوم على مقارنة سريعة بين الايديولوجيتين الصهيونية والنازية (وتمر بالفاشية أيضاً)، قبل الدخول في عملية الاستعراض التاريخي للفترة الحرجة المحددة أعلاه. مع ملاحظة أن المقدمة، ولكونها ما هي لن تقدم إلا فكرة سريعة عن موضوع يحتاج الكثير الكثير من الإضاءات والكشف والتدقيق.
في كتاب بعنوان “un juif libre” صادر عام 1976 يقوم الباحث ميشال راشلين بمقارنة مقتطفات من كتاب كفاحي ومن التوراة، ليخلص إلى تطابقها.
وفي كتاب آخر بعنوان “’histoire du mechant Dieu” L صادر عام 1988 يتابع باحث آخر هو بيير غريباري المقارنة ذاتها ليخلص إلى القول: “شئنا أم أبينا، والنصوص هنا واضحة تماماً: أن قانون موسى هو قانون عرقي، بل إنه (وعلينا ألا نتردد في القول)، القانون الكلاسيكي الأكبر من هذا النوع، النص الأقدم، والأكثر عنفاً الذي يبشر بعرقية ايديولوجية تبدأ من المقاربات الأولى وحتى أقصى حدودها. صحيح أن البشر لم ينتظروا التوراة ليقتتلوا، ولكن ما من نص جعل المذابح فرضاً دينياً بسبب عدم نقاء عرق الآخر. فاليهودية هي حقاً العنصرية ذات الحق الإلهي.”
وفي هذا يقول هانز ف.ك. غونثر: “إن وعي الدور- المهمة أو الرسالة لدى هتلر هو مشدود بقوة ذات طبيعة شرقية.”؛ كما يقول ناحوم غولدمان: “ثمة هوية أساسية لدى الألمان النازيين واليهود هي مواجهة المصير المشترك كمهمة إلهية.”
وعندما سئل المنظر العرقي جوليوس سترايشر في محكمة نورغبرغ، عما إذا كان قد شارك في وضع القوانين العرقية التي وضعت في مؤتمر الحزب النازي عام 1935، أجاب: “نعم بمعنى أنني كنت أكتب منذ سنوات مطالباً بمنع اختلاط الدم اليهودي بالدم النازي، وقلت أن علينا أن نأخذ العرق اليهودي أو الشعب اليهودي نموذجاً… فالقوانين اليهودية هي التي اتخذت نموذجاً (لقوانين نورنبرغ)… إنه أصل اليهودية التي استطاعت بفضل قوانينها العرقية أن تستمر طوال قرون في حين انقرضت جميع الأعراق والحضارات الأخرى.”
وفي هذا السياق يلاحظ حاييم كوهين الذي كان قاضياً للمحكمة العليا في إسرائيل: “إن سخرية القدر قد أرادت أن تكون الطروحات العرقية والبيولوجية التي تبناها النازيون وكانت وراء قوانين نورنبرغ، هي نفسها التي يبنى عليها تحديد صفة اليهودية في دولة إسرائيل.”
ويتوجب التوقف هنا لملاحظة أمرين:
التماهي الواضح، في جواب سترايشر بين مصطلحي: العرق والشعب. مما يترجم الايديولوجيتين: النازية والصهيونية. في حين إن مصطلح الشعب في جميع النظريات غير العنصرية يعني ذلك الكيان الذي تذوب فيه جميع الأعراق في وحدة لا تقر بالتمييز.
اعتبار عدم اندماج اليهود: استمراراً. واعتبار اندماج الأعراق الأخرى في مزيج حضاري مجتمعي (وهذا ما نفهمه نحن بالقومية): انقراضاً.
وهذا ما يذكر بمقولة لباحث يهودي معادٍ للصهيونية هو غومبلو ويتش، الذي اعتبر أن كل مشكلة اليهود تكمن في أنهم “لم يعرفوا أن يذوبوا ويندمجوا كالفينيقيين”، مقولة جعلت ثيودور ليسنغ الصهيوني يقول عنه بأنه “نموذج لكره الذات”.
وإذا ما اعتبر قائل أن هذا المفهوم العرقي هو واضح لدى اليمين الصهيوني في نظرية كاملة تعنونها مقولة جابوتنسكي الشهيرة: “إن مصدر الإحساس القومي موجود في دم الإنسان، في نمطه الفيزيائي- العرقي، وفيه فقط… إن الرؤية الروحية للإنسان تحددها أساساً بنيته الفيزيائية، لهذا السبب لا نؤمن نحن بالاندماج الروحي. إنه من غير القابل للتصور، من الوجهة الفيزيائية، أن يتمكن يهودي ولد في أسرة ذات دم يهودي نقي، من أن يتأقلم مع الرؤية الروحية لألماني أو لفرنسي. يمكن له أن يغرق في سائل جرماني. لكن نواة بنيته الروحية تظل أبداً يهويدية”، فإن اليسار الصهيوني لا يختلف كثيراً عن هذه الرؤية، حيث نجد بن غوريون يدين الاندماج بقسوة بل ويحتقر “اليهود المندمجين” وذاك ما يؤكده ويتبناه شيمون بيريز في كتاب لروبرت ليتل صادر عام 1996 بعنوان: “Conversation avec Shimon Peres”، مما يتماهى تماماً مع النظرية النازية التي كانت تصنف اليهود إلى نوعين: اليهود المندمجين هؤلاء أعداء النازية، واليهود الصهاينة وعم الحلفاء الممكنون.
كما عبر روبرت ويلتش رئيس تحرير جودش راندشو (المجلة اليهودية) في افتتاحية عدد 4 نيسان 1933، بالقول: “لقد قدمت النازية فرصة تاريخية لتأكيد الهوية اليهودية واستعادة الاحترام الذي فقده اليهود بالاندماج. إنهم مدينون لهتلر وللنازية.”
ووارده سول فريداندر في كتاب صادر عام 1997 بعنوان Lallemagne nazie et les juifs عن دار سوي في فرنسا. ليضيف: “لقد كان مفهوم العرق، المحدد كمجموعة ميزات فيزيائية وذهنية، تتناقل داخل المجموعة بقوة التقاليد بل والجينات، قد استعمل من قبل اليهود أنفسهم من موشيه هس إلى مارتن بوبر، خاصة في ثلاث محاضرات ألقاها بوبر في براغ عام 1911 ونشرت تحت عنوان “ثلاث خطب في اليهودية” واستمر هذا المفهوم في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. حيث نجد لودويغ هولاندر رئيس الجمعية المركزية للمواطنين الألمان ذوي الديانة اليهودية (zentralverin) يؤكد عام 1928 في مطالعة الصعوبات التي تواجهها الطائفة اليهودية، إن اليهود قد شكلوا عرقاً، منذ المرحلة التوراتية، بسبب أصلهم المشترك، لكنه يتساءل عما إذا كان هذا المفهوم ما زال ينطبق على اليهود المعاصرين مجيباً: ما يزال النسب قائماً. وبتعبير آخر ما تزال المميزات العرقية موجودة حتى ولو خففت القرون من حدتها. إنها ما تزال حاضرة في الملامح الفيزيائية والذهنية.”
كذلك يورد فريدلاندر منشوراً أصدره عام 1932 الكاتب الصهيوني غوستاف كروجانكر بعنوان (حول مشكلة القومية الألمانية الحديثة) يؤكد فيه أن التمرد الصهيوني على الليبرالية هو تلبية لفرائض الدم، ويجب أن يسمح بفهم عميق للتطور السياسي الحاصل في ألمانيا.
وإذا كنا نتوقف عند هذا المنشور لكونه صادراً عام 1932 أي في العام السابق لوصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا. بعد أن مررنا بـ1911 و1928 فإن المجال لا يتسع لاستعراض نظريات موشيه هس الذي أشار إليه فريدلاندر، والذي عاش في القرن التاسع عشر (1812-1875)، ودعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين بدعم من نابوليون الثالث، والمعروف بعبارته الشهيرة: “إن ما يصنع التاريخ هو صراع الطبقات والأعراق” وبتأكيده على التعارض الجذري بين العرق الآري والعرق السامي.
كذلك لا يتسع لاستعراض علاقات هرتزل بغياتسلاف بلهيلف وزير القيصر اللاسامي عام 1903؛ أو لاستعراض العدد الكبير من الدراسات والكتب حول العرقية اليهودية، من مثل: “اليهود كعرق” للدكتور انياسي موريسي جودث اليهودي البولوني (القرن 19) أو “مشكلة العرق” لاينياس زولشان اليهودي النمساوي (1909)، أو كتب هاكل، غوبينو أو الأميركي موريس فوشبرغ “العلاقات العرقية المميزة لليهود” (1912) أو “اليهود كعرق أو كمجموعة ثقافية” لليهودي الألماني فريتز خان، إلى كتابات اليهودي البروسي ارثور روبين (1930) الذي استقر في فلسطين عام 1907 وأصبح مديراً للاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية منذ عام 1926. وسنعود إليه عند تناول اتفاقية الهعفارا.
في نقطة أخرى يؤكد زئيف ستيرنهيل، الباحث الإسرائيلي، في كتاب صدر عام 1996 أيضاً بعنوان: Aux origines d israel Entre nationalisme et soscialisme، إن الصهانية العماليين الذين كانوا يديرون الوكالة اليهودية لم يكونوا اشتراكيين ديمقراطيين، بل قوميين- اشتراكيين متأثرين بالقومية الألمانية Volkisch وبنظرية سوريل حول الأسطورة.
وهذا ما يؤكده حديث هؤلاء عن “قوة الأسطورة” وعملهم عليها، بدءاً من ثيودور هرتزل الذي استعرض سلبيات كثيرة لفلسطين (كوطن قومي لليهود) لكنه استطرد أنها كلها لا توازي قوة الأسطورة. الأسطورة التي لا تقوم عنصريتها فقط على نقاء العرق، رفض الاندماج، والعزل العرقي. وذاك ما سنعرض في الاستعراض التاريخي، بل وأيضاً على مبدأي: الإبادة العرقية، والترانسفير.
فإذا كان الحل النهائي النازي قد عنى كما أثبت المؤرخون: ترانسفير اليهود خارج الرايخ الثالث، أو نقلهم إلى المعتقلات. دون أن يعني الإبادة الممنهجة، حيث مات من مات في هذه المعتقلات بشكل لا إنساني مثلهم مثل سائر المعتقلين. فإن الترانسفير اليهودي الصهيوني الممنهج ضد سكان فلسطين، والإبادة الجماعية لهم، تمتد منذ يشوع إلى شارون، مروراً بكل قادة إسرائيل.
“فسمع الرب لقول إسرائيل ودفع الكنعانيين محرموهم ومدنهم” (عدد 21/3).
“فضربوه هو وبنيه وجميع قومه حتى لم يبقَ له شارد وملكوا أرضه” (عدد 21/35).
“متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك… ودفعهم الرب إلهك وضربتهم فإنك تحرمهم… لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم” (تثنية 5/1-2/).
وإذا كان حجر الأساس، المبرر لكل هذه المفاهيم اللإنسانية هو الإيمان بفكرة التفوق، النابعة من مبدأ الاختيار الإلهي الذي يصنف الناس إلى فوق ودون، فإن التفوق الآري، المرفوض مبدئياً وتطبيقياً إن هو إلاّ تجلٍّ حديث للتفوق اليهودي القديم الحديث.
من التوراة إلى الحاخام كوهين في كتابه “التلمود الصادر عن Payot في باريت عام 1986، حيث يقول: “يمكن توزيع سكان العالم إلى قسمين: إسرائيل والأمم الأخرى مجتمعة. إن إسرائيل هي الشعب المختار: عقيدة رئيسية.” إلى آخر تصريحات المسؤولين والحاخامات الصهاينة في إسرائيل وخارجها.
العلاقة التاريخية 1933-1942:
ستقتصر هذه الورقة، كما هو عنوانها على العلاقة الصهيونية – النازية بدءاً من عام 1933 (كانت هناك بعض المواقف اليهودية المخالفة، والتي لن نتناولها لسببين: أولاً تحديد الموضوع وضيق المجال، وثانيًا إنها لم تكن ذات فاعلية تذكر، ولم تفضِ إلى نتائج ذات أهمية في سير العلاقة وفي النتائج السياسية).
تتحدد أهم المحطات بالقائمة التالية:
30 يناير: وصول هتلر إلى المستشارية.
5 آذار: حصول الحزب النازي على أكثرية في البوندستاغ.
13 آذار: إعلان مقاطعة ألمانيا من قبل المجلس اليهودي الأميركي.
1 نيسان: الرد الألماني عبر إصدار تشريع غير الآريين.
7 نيسان: تشريع إعادة تنظيم الوظائف العامة.
نيسان: رحلة تتشلار منفلستين إلى فلسطين.
21 حزيران: صدور ميموراندوم.
14 تموز: صدور قانون الجنسية.
7 آب: توقيع اتفاق الهعفارا.
30 آب: اعتراض الجمعية المركزية.
أكتوبر 33: افتتاح خط بحري مباشر بين هامبورغ وحيفا لنقل المهاجرين بإشراف حاخامية هامبورغ.
لم يكن تعيين هتلر في منصب المستشارية كافياً لسيطرة سياسة حزبه إلا بعد حصول الحزب على أكثرية في البوندستاغ في 5 آذار 1933، وبعد ذلك بثمانية أيام فقط، (40 يوماً من وصوله هو) طرح جوزيف توننبوم أحد قادة المجلس اليهودي الأميركي مقاطعة ألمانيا، ولم تكن الفكرة جديدة كونها طرحت أيضاً قبل ذلك بعامين. وظهرت تلبية سريعة للفكرة في بريطانيا حيث ظهرت على واجهات المحلات شعارات مقاطعة للبضائع وللسياح الألمان. لكن رئيس اتحاد صهاينة ألمانيا، ورئيس الجمعية المركزية للألمان ذوي الديانة اليهودية، أعلنا معارضتهما لسياسة المجلس اليهودي الأميركي، وخرجت مظاهرات ترفع هذا الاحتجاج في ألمانيا، لتقابلها في اليوم التالي مظاهرات أخرى في عدة مدن أميركية.
وردّ هتلر بطريقة تدريجية، أولاً بتنظيم يوم رمزي لمقاطعة المؤسسات التجارية اليهودية. لكنه لم يكن ينوي أكثر من ذلك، حرصاً على عدم التسبب فيما يضاعف الأزمة الاقتصادية في بلاده، وعندما تعرضت شبكة تيتز التجارية الكبيرة اليهودية للإفلاس، أمر بصرف قرض كبير لإنقاذها.
لكن مقاطعة البضائع الألمانية تنامت في الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، بولونيا. وإزاء هذا التأزم كان هناك موقفان: موقف الجمعية المركزية لليهود والألمان ذوي الديانة اليهودية، برئاسة لودويج هولاندر الذي كان يرفض الصهيونية، ويرفض أية ادعاءات تقول أن اليهود عرق مختلف ويؤمن بالانتماء إلى الأمة الألمانية، ويعارض أية تدابير ضد ألمانيا؛ وموقف المنظمات الصهيونية، الذي تحدد علناً بصدور ميموراندوم 21 حزيران، عن المنظمة الصهيونية في ألمانيا (Z.V.F.D)، والذي يقول عنه المؤرخ فرنسيس نيقوزيا: “يبدو وكأنه يدعو إلى تعاطف مع نظام هتلر، ويطرح كون الصهيونية متوافقة مع مبادئه”.
وقد جاء فيه: “لا تبني الصهيونية أي وهم حول صعوبة الوضع اليهودي، الذي يتمثل أساساً في بنية اجتماعية غير طبيعية، ووضع ثقافي فكري غير متجذر في تراث خاص، لقد استشرفت الصهيونية منذ وقت طويل، أن ظواهر تراجع وتخلف لم تتأخر عن الظهور بسبب الميل إلى الاندماج، وتعتقد الصهيونية بأن انبعاث الحياة القومية للشعب، الذي يحصل اليوم في ألمانيا، مع التشديد الذي يتم على جذوره المسيحية، وطابعه القومي، هو ما يجب أن يحصل داخل المجموعة القومية اليهودية، وبالنسبة للشعب اليهودي أيضاً: أن الأصل القومي، الدين، حس المصير المشترك، وحس فرادته وتفوّقه يجب أن تتخذ معنىً حاسماً في الوقت الذي يبنى فيه مستقبله… ونحن نعتقد أن ألمانيا الجديدة، تحديداً، هي التي تستطيع بفضل إرادة مصممة أن تجد حلاً لمسألة يجب أن تحل لدى سائر شعوب أوروبا… إن اعترافنا بالقومية اليهودية يقدم لنا أسس صداقة صادقة مع الشعب الألماني وحقائقه الواقعية القومية والعرقية. ولأننا تحديداً، لا نريد ولا نتمنى تخريب هذه المعطيات الأساسية (فنحن أيضاً ضد الزيجات المختلطة، ونريد الحفاظ على نقاء الجماعة) فإننا نرفض كل تداخل في المجالات الثقافية… ولبلوغ هذه الأهداف العملية. تأمل الصهيونية في الحصول على تعاون حكومة حتى ولو كانت معادية لليهود. ذاك أنه لا مجال للمشاعر في حل المسألة اليهودية، بل لمعالجة مشكلة حقيقية يهمّ حلها جميع الشعوب، وفي هذا الوقت الشعب الألماني خاصة… إن الدعاية لصالح مقاطعة ألمانيا، كما تتم الآن وبطرق مختلفة، هي في جوهرها دعاية مناهضة للصهيونية.”
وإذا كانت تصريحات كثيرة مشابهة قد تلت هذا الميموراندوم، سنعرض لها في حينها، فإن روبرت ويلش كان قد كتب في افتتاحية “المجلة اليهودية” (جودش راندشو) يوم 4 نيسان 1933 (مجلة Z.V.F.D) “إن النازية تقدم فرصة تاريخية لإعادة تأكيد الهوية القومية اليهودية، وسيستعيد اليهود الاحترام الذي فقدوه بسبب الاندماج، وسيطلقون انبعاثهم القومي الخاص. إن اليهود مدينون لهتلر…”.
في 7 نيسان، تم إقرار قانون إعادة تنظيم الوظيفة العامة بهدف إبعاد الخصوم من صفوف الجهاز الحكومي بدءاً بالشيوعيين. غير أن ما عرف بـ”الفقرة الآرية” كان يستهدف اليهود، ولكن التطبيق العملي لم يطلهم كثيراً لسببين:
1- أن عددهم كان قليلاً في الجهاز الحكومي.
2- تدخل جمعية قدماء المحاربين اليهود الذي أدى إلى استثناء جميع الذين قتل آباؤهم أو أولادهم في الحرب الأولى. وجميع اليهود الذين يعملون في خدمة الدولة منذ أول آب 1914.
وهكذا كان مصير القوانين التي تتالت بعدئذٍ حول: زيادة عدد الطلاب اليهود في المدارس أو بخصوص المحامين والأطباء أو الملكيات الزراعية أو المؤسسات الثقافية.
ولتكلل كلها بقانون الجنسية الذي حمل عنوان: “قانون إلغاء التطيبع والاعتراف بالمواطنة الألمانية” الذي كان يهدف إلى إلغاء التجنيس الحاصل بين 9 نوفمبر 1918 و30 يناير 1933. وكان يستهدف بشكل خاص يهود أوروبا الشرقية. لكن ذلك لم يؤثر في التصريحات الإيجابية من كلا الطرفين.
لكن: ما هي العلاقات السياسية التي كانت وراء هذه الإعلانات المؤيدة المتحمسة؟ ما الذي كان يدور في الخفاء بين النازيين والصهيونية؟ وتحديداً بين هؤلاء ومكتب الشؤون اليهودية في الاستخبارات الألمانية؟
رحلة منغلستين
في ربيع (1933)، التقى أربعة أشخاص في محطة برلين، ليستقلوا القطار إلى تريست، ومنها إلى ظهر الباخرة مارثا واشنطن، وهي باخرة كانت تحمل المهاجرين اليهود إلى فلسطين. الغريب في الأمر هنا يكمن في تشكيلة الفريق. زوجان يهوديان “تتشلر”، مرسلان من قبل الاتحاد الصهيوني في ألمانيا، وزوجان نازيان، (فإن ميلغن) مرسلان من قبل أجهزة الحكومة النازية. أما هدف هذه الرحلة التي دامت ستة أشهر، فقد كان القيام بتحقيق كامل قدر الإمكان، حول إمكانيات توطين يهود ألمان في فلسطين. ويتفق معظم المؤرخين على أنه لم تكن لأدولف هتلر أية سياسة متكاملة محددة حول المسألة اليهودية، حتى ليلة الكريستال المشهورة ليلة 9/10 نوفمبر 1938، وذلك رغم تصريحاته المبدئية ورغم بعض التدابير الخاصة من مثل مقاطعة اليهود الألمان اعتباراً من أول أبريل 1933، وإقرار تشريع حول غير الآريين، بعد ذلك بأسبوع.
هذا الموقف غير المحدد ترك الحرية شبه الكاملة لمكتب الشؤون اليهودية في الاستخبارات الألمانية (S.S) لتجريب مختلف السياسات الممكنة. وفي سياق ذلك جاءت رحلة البارون ليود بولد التي نسيت كلياً اليوم. وذلك رغم أن ميلغنستين لم يكن شخصاً هامشياً أو غير جاد. فهو عضو في (N.S.D.A.P.) وضابط كبير في الأجهزة السرية. كما أنه كان قد سبق وكلّف قبل عام (1933) بتقديم تقرير دقيق حول الهجرة اليهودية باعتبار أن الحكومة لم تتوصل إلى حل مرضي إلى هذه القضية. مما مكن الاستخبارات من أن تمتلك، وقبل سواها من أجهزة السلطة، عناصر ملموسة ودقيقة جعلتها تمسك بزمام المسألة اليهودية من عام (1934) إلى عام (1936) باعتبارها التنظيم الوحيد الذي يمتلك معلومات دقيقة حول هذا الموضوع. كان ميلغنستين مهندساً ولد في براغ عام (1902)، واهتم منذ مرحلة الدراسة، بالمسألة اليهودية، وشارك في اجتماعات الفئات اليهودية المختلفة. ثم التحق بصفوف الاستخبارات الألمانية باعتباره واحد من الخبراء النابغين في موضوع اليهودية وكصهيوني متحمس، كان من أول من رأوا أهمية وجود المنظمات الصهيونية، وخاصة المراجعة منها، داخل صفوف المجموعة اليهودية.
كتب ميلغنستين في حينه سلسلة من اثنتي عشرة مقالة موثقة تماماً، تحت عنوان “نازي يترحل في فلسطين”، وذلك في الصحيفة البرلينة اليومية Der Angriff التي كان يشرف عليها الدكتور غوبلز. وفي هذه المقالات يعرب عن إعجابه الشديد بالصهيونية وبالروح الرياضية لدى المستوطنين اليهود الأوائل. ويخلص إلى استنتاج مفاده “أن الوطن القومي لليهود في فلسطين سيكون علامة على وسيلة لشفاء جرح قديم يعود إلى عدة عصور هو: المسألة اليهودية”. وقد ضربت، تخليداً لذكرى هذه الزيارة ميدالية خاصة بطلب من غوبلز شخصياً وكانت تحمل على أحد وجهيها إشارة السويستيكا (أي الصليب المعقوف) وعلى الوجه الآخر نجمة داود. بعد ذلك ببضعة أشهر، عين ميلغنستين في قسم الشؤون اليهودية في وزارة الأمن النازية. وذلك ليقوم بدعم أكثر فعالية لجهود الصهانية المتعلقة بالهجرة. “لقد أصبحت أجهزة الاستخبارات، كما كتب برنا، الجزء الأكثر صهيونية في الحزب النازي. في حين كان النازيون الآخرون يتحدثون عن ضعفها إزاء اليهود. وقد ازداد حماس البارون فان ميلغنستين للقضية الصهيونية بعد زيارته إلى فلسطين. مما دفعه إلى دراسة العبرية وجمع الأشرطة الناطقة بهذه اللغة. وأصبح على رأس الدائرة اليهودية في جهاز الأمن النازي وعندما قام صديقه (اليهودي) كورت توتشلر، الذي رافقه إلى فلسطين، بزيارته في مكتبه الجديد عام (1934)، استقبله وفق الطقوس الفلكلورية التقليدية اليهودية. وكانت على جدران مكتبه خرائط تبين التطور السريع للصهيونية في ألمانيا.”
ومن سخرية القدر أن ميلغنستين هو الذي عين أدولف ايخمن في قسم الشؤون اليهودية في جهاز الأمن. وعندما جرت محاكمة ايخمن في إسرائيل بعد ذلك بسنوات، باعتباره “منظم الحل النهائي”، كان عليه أن يشهد “بأن ميلغنستين كان رجلاً معتدلاً ومنصفاً مخلصاً في جهوده لإيجاد حل عادل للمسألة اليهودية”.
على إثر هذه الرحلة وإثر مناقشات عديدة أعلنت صحيفة الأجهزة السرية (Das Schwarze Korps) رسمياً دعمها للصهيونية. “لم يعد بعيداً الوقت الذي تصبح فيه فلسطين قادرة على استقبال أبنائها الذين فصلوا عنها أكثر من ألف عام وترافقهم تمنياتنا الطيبة وتمنيات الدولة”.
كان هذا التطور في العلاقة، مترافقاً مع تطور تفاقم الحصار الاقتصادي الدولي على ألمانيا، مما ولّد فكرة مقايضة كسر المقاطعة مقابل تفعيل وتنظيم الهجرة إلى فلسطين، هذه الفكرة التي أودت في النهاية إلى ما يعرف باتفاق الهافارا.
البداية كانت فكرة لسام كوهين مدير شركة المستوطنات (هانوتا) في فلسطين، عرضها على قنصل ألمانيا هنريتش وولف، لتحقيق “فائدة مزدوجة” للطرفين. تقضي بأن تقوم الشركة بكسر الحصار الاقتصادي على ألمانيا، مقابل تنظيم هذه الأخيرة لهجرة اليهود إلى فلسطين، لا إلى مكان آخر، بحيث يودع المهاجرون أموالهم في ألمانيا فتشتري بها هانوتا بضائع ومعدات زراعية، ليس فقط للمستوطنات وإنما لإغراق السوق العربي، وتعيد للمستوطن ما أودع مستفيدة هي من الأرباح. وعندما وافقت ألمانيا، أعلنت المنظمة الصهيونية العالمية موافقتها على المبدأ لكنها أسفت لأن الاتفاق عقد مع شركة خاصة. ودار خلاف أنهاه الألمان بأن جمعوا سام كوهين ومساعد له في هانوتا، مع مندوب اتحاد صهاينة ألمانيا، وشخصين قدما من فلسطين هما مدير البنك الانكلو فلسطيني ومدير الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية أرتور روبين، وانتهى الأمر باضطرار كوهين للتنازل وتأسيس وحدة تحت إدارة اليعازر هوفمن وذلك بعد تدخل حاييم أرلوزوروف مبعوث بن غوريون، الذي يؤكد توم سيغيف أنه ذهب للتمهيد للاتفاق وعاد قبل توقيعه ليغتال على يد الصهاينة المراجعين.
وفي يوم 7 آب 1933 تم التوقيع الرسمي على الاتفاق، في وزارة الاقتصاد الألمانية من قبل ممثلي الوكالة اليهودية، وارتور روبين ممثلاً المنظمة الصهيونية العالمية من جهة، ومسؤول كبير في الرايخ الثالث من الجهة الأخرى. وبعد تبادل الرسائل الرسمية بين الطرفين أنشئت لهذا الغرض شركة باسم بالترو في برلين، وأخرى باسم هافارا كومباني في تل أبيب. كما أنشئ خط بحري مباشر بين مينائي هامبورغ وحيفا، بإشراف حاخامية هامبورغ، استطاع أن يؤمن من عام 1933 إلى عام 1939 هجرة ستين ألف يهودي أي 10% من الطائفة (73% كانوا يفضلون أوروبا الشرقية/ حتى عام 1938/) ونقل 140 مليون دولار، وذلك باعتراف الياهو بن اليسار، وفيلسنفيلد الذي كتب يقول: “كان للنشاط الذي حركته الهافارا الأثر الأكبر على تطور البلاد، بل إن عدداً من أهم المصانع والشركات الآن يدين بوجوده لها.”
ويمكن فهم ذلك إذا ما عرفنا أنه كان على كل مهاجر أن يودع مبلغ ألف ليرة سترلينية على الأقل في حساب خاص في برلين (أي ما يساوي دخل أسرة بورجوازية لمدة ثلاث سنوات) كما يسمح له بإرسال بضائع تساوي قيمتها 20 ألف فرنك.
كان التعاون الألماني الصهيوني يستند إلى اتفاق موقع في آب (1933)، باسم اتفاق “هَعْفارا” (الترانسفير)، عقد إثر عدة اجتماعات بين الحكومة الألمانية وحاييم آرلوزوروف الأمين العام للوكالة اليهودية، وهي الفرع الفلسطيني للمنظمة الصهيونية العالمية. وبموجب هذا الاتفاق أنشأت شركتان: Havara Company في تل أبيب وBaltreu في برلين. وكان كل مهاجر يهودي ألماني يودع ألف ليرة استرلينية على الأقل في حساب خاص في ألمانيا (1000)، هي المبلغ الذي يشترطه الانجليز للسماح بالإقامة في فلسطين، وكان يشكل تقريباً دخل أسرة برجوازية ألمانية لمدة ثلاث سنوات. كما يسمح بإرسال بضائع تساوي قيمتها عشرين ألف فرنك وأحياناً أكثر، عن طريق البحر.
هذا المال المودع في برلين كان يستعمل لشراء (بضائع ألمانية، آلات، أدوات، مضخات، مواد بناء، أسمدة… الخ) تنقل إلى فلسطين لتعيد شركة يهودية في تل أبيب بيعها هناك. أما دخل هذه المبيعات فيستعمل لتمويل اليهود الذين يصلون إلى فلسطين. كانت مصلحة ألمانيا في ذلك تتمثل في كون الصهاينة يقومون بخرق الحصار ضد البضائع الألمانية ويقومون بتوزيعها بأنفسهم، كما تتمثل مصلحة هؤلاء في الخروج من العزلة وفي إجبار المهاجرين على الذهاب إلى فلسطين دون سواها.
ناقش المؤتمر الصهيوني المنعقد في آب عام 1933، في براغ، موضوع الهافارا مناقشة طويلة بحضور مندوبين ألمان. رفضت خلالها المنظمة الصهيونية العالمية اقتراحاً بالمساهمة الفعالة في الحصار المفروض على ألمانيا. وأحيل اتفاق الهافارا إلى المؤتمر الصهيوني التالي المنعقد في آب وأيلول (1935) في سويسرا، حيث تمت الموافقة عليه وتصديقه: وفي مؤتمر لوسيرن انتقل نظام الهافارا إلى الرقابة المباشرة للجنة التنفيذية الصهيونية، من ضمن نقل جميع العمليات التي كانت حتى ذلك الحين مناطة بالبنك الانغلو- فلسطيني. وقد سمح للمنظمة الصهيونية العالمية بفتح مراكز تدريب مهني وزراعي للمرشحين للهجرة في ألمانيا. كما نظمت دروس بالعبرية في المدن الكبرى وأصدرت صحيفة صهيونية باسم (Judishe Rundschau) مهمتها إيصال الخطاب الصهيوني إلى الأسر والمنازل. ولم تتوقف الهافارا عن العمل مع إعلان الحرب. والمهم أن ما ظل مجهول حتى الآن هو أن عدة دول أخرى قد قلدت نظام الهافارا، من مثل بولونيا عام 1937 تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وإيطاليا عام (1939).
كانت أعمال الهافارا، في معظمها، عبر شركات تأمين قائمة في ألمانيا وفي فلسطين. فقبل ترك ألمانيا، يودع المهاجر اليهودي أمواله لدى شركة تأمين ألمانية، تقوم بدورها باستعمال هذه الأموال في شراء التجهيزات والبضائع الألمانية وإرسالها إلى فلسطين. ومن ثم يقوم الزبائن الذين نظموا طلبيات هذه البضائع الألمانية في فلسطين، بدفع أثمانها إلى شركة تأمين محلية، تعيد إلى المهاجرين اليهود الواصلين من ألمانيا المبالغ التي دفعوها هناك. كان النظام معقداً وثقيلاً، لكنه مربح بالنسبة لجميع الفرقاء: فالرايخ يتخلص بواسطته من يهوده، ويكسر الحصار الذي فرضته عليه المنظمات اليهودية الأمريكية، ويشغل مصانعه. في حين أن الصهاينة أنفسهم يتمكنون بواسطته من اختيار نخبة اليهود الصهاينة لإرسالهم إلى فلسطين كهدف إلزامي. ذاك أن الصهاينة كانوا قد تصدوا عدة مرات لمنع إمكانيات هجرة يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية عندما لم يكن البلد المقصود هو فلسطين. وبتلك الطريقة تم نقل حوالي مئة وثلاثين مليون دولار، وهو مبلغ ضخم ساعد في التنمية الاقتصادية للدولة العبرية فيما بعد. كما وصل عدد اليهود الذين هاجروا من ألمانيا بي (1933) و(1939)، بفضل نظام الهافارا، إلى 60 ألف يهودي أي حوالي 10% من مجموع يهود ألمانيا. و15% من مجموع يهود فلسطين عام (1939). وكانت هذه الهجرة تتم في ظروف ممتازة. حيث يروي توم سيغيف مثلاً أن المهاجرين اليهود الذين صرفوا من أعمالهم، ظلوا يتقاضون تعويضات البطالة من صندوق مالية الرايخ الثالث حتى وهم موجودون في فلسطين.
لم تكن الوكالة اليهودية المسؤولة عن الهجرة إلى فلسطين والتي يسيطر عليها الصهاينة تهتم بالوضع الصعب الذي يعيشه يهود ألمانيا، بل أن اهتمامها كان ينصب على إمكاناتهم وقدرتهم على العمل… الخ: “أن المادة البشرية القادمة من ألمانيا تصبح أسوأ فأسوأ- تعلن الوكالة اليهودية مستنكرة في عام (1934)- ليس لديهم الرغبة في العمل ولا الكفاءة، وهم بحاجة إلى مساعدة اجتماعية.” كذلك يذكر توم سيغيف أن المنظمة “أرسلت عام (1935) إلى برلين قائمة بأسماء الأشخاص الذين يتوجب ألا يسمح لهم بالذهاب إلى فلسطين”. كما يكشف سيغيف عن أن مسؤول العمل الاجتماعي في الوكالة اليهودية قد طلب عدة مرات أن تعاد بعض هذه “الحالات” من المرضى أو المحتاجين إلى ألمانيا النازية كي لا تصبح عبئاً على (اليوشفيم) أي مجموعة الرواد. كما أن الوكالة اليهودية اشتكت من استقبال عدد كبير من رجال الأعمال الذين لديهم أطفال في حين أنه يجب إعطاء الأفضلية للعازبين. وفي عام (1935) تقرر أن تعطي أذونات الهجرة بحيث “لا يكون هناك أي مجال للشك بأن هؤلاء المهاجرين يمكن أن يشكلوا عبئاً على البلاد (..) وكل من ينصرف إلى التجارة أو إلى أي نشاط آخر لا يتلقى أذن الهجرة بأي حال من الأحوال، إلا إذا كان أحد الصهاينة المتحمسين”.
ومن عام (1933-1935) رفضت المنظمة الصهيونية العالمية ثلثي طلبات الهجرة التي قدمها يهود ألمانيا، مفضلة إعطاء الأولية وبشكل منهجي، للشباب، ويصف بريل كازنيلسون صاحب جريدة دافار الصهيونية العمالية هذا “المعيار المجرم الذي تبنته الصهيونية” بقوله: “لقد كان يهود ألمانيا متقدمين في السن مما لا يسمح لهم بإنجاب أطفال في فلسطين، كما أنهم لم يكونوا يملكون المهن والحرف التي تساعد في إنشاء مراكب صهيونية، إضافة إلى أنهم لا يتحدثون العبرية وليسوا صهاينة. وبدلاً من هؤلاء اليهود المعرضين للإبادة استقدمت المنظمة الصهيونية العالمية ستة آلاف شاب من الذين تلقوا تدريبات محددة في الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا ودول أخرى ليس فيها أي خطر. بل أن الأسوأ من ذلك أن المنظمة الصهيونية العالمية لم تكتف بعدم البحث عن أي مبادرة لإنقاذ يهود ألمانيا، بل أن مسؤوليها قد عارضوا بشكل قاطع جميع الجهود التي كانت ترمي إلى إيجاد ملجأ لليهود الهاربين.”
مما يلتقي مع ما أورده روجيه غارودي عن كتاب بار زوهار: “بن غرويون النبي المسلح” من أن رودولف كاستنر فاوض ايخمن على أن يسهل هذا الأخير هجرة 1684 يهودياً نافعاً إلى إسرائيل مقابل إقناع كاستنر لـ46 ألف يهودي هنغاري بأن نقلهم إلى أشويتز مجرد تغيير لمحل الإقامة.
كما يؤشر إلى الفضيحة التي حصلت أثناء محاكمة ايخمن حيث طالب القاضي بمحاكمة كاستنر لأنه تدخل في نورنبرغ بشهادة كاذبة لإنقاذ أحد محاوريه من النازيين ولأنه أخفى أن تدخله كان باسم الوكالة اليهودية والمجلس اليهودي العالمي.
وفي 14/7/55 كتب الدكتور موشي كارين في هاآرتس مطالباً بتجريم كاستنر لكن يدعوث احرونوث كانت قد أوضحت: “إذا حوكم كاستنر فإن الحكومة كلها ستتعرض للانهيار، نتيجة لما ستكشف عنه هذه المحاكمة. وانتهى الأمر باغتيال كاستنر على سلم قصر العدل. ثم أصدرت المحكمة حكماً ببراءته.
قوانين نورنبرغ
بعد النشاط المتسارع في تطبيق الهافارا، وفي عام 1934 كتب الحاخام جوهاتسيم برينز، الذي أصبح فيما بعد نائباً للمنظمة الصهيونية العالمية محيياً “الثورة الألمانية” قائلاً: “نريد استبدال الاندماج بقانون جديد: الاعتراف بالانتماء إلى العرق اليهودي والأمة اليهودية. إن أمة مبنية على نقاء العرق لا يمكن إلا وأن تكون محترمة ومؤيدة من قبل اليهودي، الذي يعلن انتماءه إلى شعبه الخاص وإذ يعلن أنه كذلك فلا يمكنه بالتالي أن يدين بالولاء والانتماء لدولة. هذه الدولة لا تريد يهوداً إلا أولئك الذين يعلنون انتماءهم إلى أمتهم الخاصة، لا تريد يهوداً مادحين وزاحفين. عليها أن تطلب منا الإيمان والولاء لمصالحنا الخاصة. لأن الذي يمجد أصله ودمه هو وحده الذي يستطيع أن يحترم ويمجد الإرادة القومية للأمم الأخرى.”
هذه الرغبة، لبـّتها في العام التالي 1935، قوانين نورنبرغ، وهي القوانين الثلاثة المعروفة بـ:
قانون علم الرايخ
قانون المواطنة
قانون حماية الدم والشرف الألمانيين.
وأول ما يلاحظ أنه قد حرم على اليهود رفع علم الرايخ، لكنهم كانوا الجماعة الوحيدة التي سمح لها برفع علمها الخاص. كما يلاحظ أن قاسماً مشتركاً جمع بين رؤية هتلر، والألمان، والصهاينة لهذه القوانين.
فحيث نقلت صحيفة الحزب النازي أن الفوهرر التقى مسؤولي الحزب ليوضح لهم أن هذه “القوانين القومية الاشتراكية تمثل الطريقة الوحيدة لإقامة علاقات مقبولة مع اليهود… وتقدم لهم في كل مجالات حياتهم القومية (فولكش) إمكانيات لم تتوفر لهم في أي بلد آخر.”. كما نجد مؤرخاً إسرائيلياً (ديفيد بانكييه) يؤكد على أن الألمان أيدوا هذه القوانين لأنها “تتناغم مع السياسة العنصرية” و”تثبت حدوداً للأنشطة اللاسامية”. وكذلك يؤكد سول فريدلاندر أن اليهود الألمان اعتقدوا أن هذا التشريع الجديد سيرسي بنية معترفاً بها… وتنشئ قاعدة جديدة للعلاقة بين الشعب الألماني واليهود الذين يعيشون في ألمانيا.”
وفي 26 أيلول صدرت (دار شورازكوربس) جريدة الأجهزة السرية لتقول: “إن الاعتراف بالمجموعة اليهودية كجماعة عرقية تقوم على الدم لا على الدين تقود الحكومة الألمانية إلى ضمانة الوحدة العرقية لهذه الجماعة. وتجد الحكومة نفسها على اتفاق تام مع الحركة الكبيرة لهذه الجماعة التي تسمى الصهيونية، التي تعترف بتضامن جميع يهود العالم ورفضها لأي مفهوم اندماج. وعلى هذا الأساس تتخذ ألمانيا المبادرة إلى تدابير ستلعب بكل تأكيد دوراً ذا دلالة في حل المسألة اليهودية في العالم.”
لتأتي ردود فعل الصهاينة الألمان أكثر حماساً فنجد (جودش راندشو) تنشر في اليوم التالي (17 أيلول) افتاحية حماسية جاء فيها: “إن ألمانيا… تستجيب لمطالب المؤتمر الصهيوني العالمي إذ تعلن أن اليهود المقيمين حالياً في ألمانيا هم أقلية قومية. ففي حال الاعتراف باليهود كأقلية قومية يصبح من الممكن من جديد إقامة علاقات طبيعية بين الأمة الألمانية والأمة اليهودية. وتقدم القوانين الجديدة للأقلية اليهودية الفرصة لأن تعيش حياتها الخاصة… باختصار يمكن للشعب اليهودي أن يكون مستقبله الخاص في كل مظاهر حياته القومية… والمشروع الذي يمضي من حالة الطائفة إلى حالة الأمة سيحظى بالتشجيع، كما ستقدم المساهمة لإرساء علاقات فضلى بين الأمتين”.
كذلك تبنت مجلة دايراسرائيليت مجلة الهيود الأرثوذوكس الموقف نفسه وعبرت عن تأييدها المطلق لمنع الزيجات المختلطة. (19 أيلول 1935).
وفي المقابل كانت صحيفة داز شوارسكوبس قد نشرت افتتاحية يوم 15 آذار 1935 جاء فيها: “لم يعد بعيداً الوقت الذي تستطيع فيه فلسطين أن تستقبل أبناءها الذين فصلوا عنها طيلة أكثر من ألف سنة. فلترافقهم تمنياتنا الطيبة، وحسن نية الدولة.” وبعد شهرين كتب هيدريش في الصحيفة نفسها: “يدعو الصهاينة إلى مفهوم عرقي تماماً. ويساعدون عبر الهجرة على بناء دولتهم اليهودية الخاصة، إن تمنياتنا الطيبة وحسن نيتنا الرسمية معهم.”
كذلك عبّر المنظر العرقي الفرد روزنبرغ عن دعمه الكامل للصهيونية، في حوار مع صحيفة L’echo de Paris عد 30 أيار 1935. حيث كان مسؤولو الرايخ ينتظرون من الصهاينة تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. وفي هذا يورد فرانسيس نيقوزيا، ما كتبه هانزل مريدنثال رئيس اتحاد صهاينة ألمانيا: “كان الغستابو يعمل كل ما في وسعه لتشجيع الهجرة، خاصة باتجاه فلسطين. وغالباً ما كنا نتلقى مساعدته عندما كنا نحتاجها لدى حكومات أخرى بهدف تشجيع الهجرة.”
وفي السياق ذاته حمل جورج لاندور، أحد موقعي الهافارا، رسالة من بن غوريون مؤرخة 21 يناير 1935 تحمل تفويض الوكالة اليهودية له لمناقشة قضايا التدريب المهني للمرشحين للهجرة. وكان هناك حتى ذلك التاريخ أربعين مركز تدريب مهني وزراعي تعمل على ذلك. وبأمر من هيدريش وضعت مزارع تحت تصرف الصهاينة ونظمت دروس بالعبرية في عدة مدن.”
وربما يكون لذلك علاقة بالمعايير الانتقائية التي حرصت عليها الوكالة اليهودية في منع أذونات الهجرة بعد أن اشتكت عام 1933 من أن “المادة أو البضاعة البشرية الواردة من ألمانيا تسير من سيء إلى أٍوأ.”
وبعد أن احتجت هنرييتا سزولد التي كانت تدير وحدة العمل الاجتماعي في الوكالة على وجود المرضى والمحتاجين بين المهاجرين. ومن حين لآخر كانت تطالب بإعادة بعض هذه “الحالات” إلى ألمانيا كي لا يصبحوا عالة على اليشوف.” (توم سيغيف)
في الوقت ذاته، أي بداية 1935 عين مندلستين أدولف ايخمن مسؤولاً عن العمل على الصهاينة في حين كلف شرودر بالعمل على اليهود المندمجين. ويؤكد المؤرخ هينز هوهن أن ايخمن لم يكن لاسامياً بل كان في أسرته يهود وكان يعاشر فتاة يهودية، ويدين بموقعه في عالم المال لليهود. وأنه عكف على دراسة الحركة الصهيونية واللغة العبرية بعد تعيينه، وكتب عام 1936 رسالة حول المنظمة الصهيونية العالمية. وكانت الأجهزة السرية ما تزال مقسومة إلى فرعين (S.D) والغستابو، تجمعهما رئاسة هيدريش مما ترك لايخمن هامشاً من حرية التصرف.
أما مندلستين (رئيسه) فكان يعلن تعاطفه العميق مع الصهيونية وازدراءه للاسامية جوليوس سترايشر، وقد “قام- كما يقول توم سيغيف- بنشر الصهيونية لدى الجمهور الألماني، وكان ينقل معلومات لتاتسلار (المسؤول الصهيوني الذي رافقه إلى فلسطين) حتى بعد استقرار هذا الأخير في فلسطين. وعندما ترك مندلستين الجهاز السري (S.D) عام 1936 حل محله ديتر ويزلسنسي الذي لم يكن أقل تعاطفاً مع الصهيونية.
لكن التطور الخطير، الذي يحاول التاريخ الرسمي طمسه هو ما حصل في نهاية 1937 وما أورده توم سيغيف تفصيلاً في كتاب “المليون السابع” حيث قام عضو بارز في الحزب النازي هو أوتو فون بودلشوينغ، صديق مندلستين، والمفاوض السابق في حيفا، بلفت نظر القسم الثاني في الأجهزة إلى الأهمية التي يمكن أن يمثلها التعاون مع الهاغانا عبر يهودي ألماني استقر في فلسطين يدعى ريشرث، وهو على علاقة وثيقة بفوفيل بولكس أحد مسؤولي هذه المنظمة.
هكذا وجهت الدعوة إلى بولكس لزيارة برلين، حيث استقبله ايخمن يوم 16 شباط 1937. وأكد بولكس لمضيفه أن المسؤولين الصهاينة راضون تماماً عن السياسة التي تنتهجها الحكومة الألمانية والتي من شأنها تشجيع الهجرة. ووجه هذا المسؤول الإرهابي الدعوة لايخمن وهاجن لزيارة المستوطنات اليهودية في فلسطين. وعندما قدم ايخمن تقريره بذلك إلى رؤسائه قام فرانك سيكس باطلاع هيدريش عليه يوم 17 حزيران 1937 مقترحاً أعطاء ضمانات لبولكس تتمثل في “الضغط على المؤسسات التنظيمية القومية لليهود الألمان، كي تجبر المهاجرين اليهود على الذهاب حصراً إلى فلسطين وليس إلى أي بلد سواها.”
وفي نهاية أيلول غادر آيخمن وهاجن مرفأ كونستانزا في رومانيا إلى حيفا يحمل الأول بطاقة صحفية منحها له صاحب صحيفة برليز ثاغيبلات اليهودي هانز لاشمان، والآخر، بطاقة طالب. دخلا حيفا عبوراً، وزارا جبل الكرمل ثم ذهبا إلى الاسكندرية فالقاهرة حيث حاولا العودة بإذن من القنصلية البريطانية للاجتماع بوفد الهاغانا، لكن الانكليز رفضوا إعطاءهما التأشيرة. وكان أن جاء بولكس إلى القاهرة وحصل الاجتماع في مقهى غروبي.
التيارات الأخرى داخل الحكم الألماني والعرب:
ولكن، هل كانت جميع التيارات داخل الحكم النازي مؤيدة للصهيونية؟ هل كان التأييد واضحاً لإقامة الدولة؟
إن رجلاً مثل بيلوشوانتي مدير ريفرات دوتشلاند، كان يعتبر أن إنشاء كيان يهودي في فلسطين ولو تحت السيطرة البريطانية، سيكون من شأنه تدعيم قوة المجموعة اليهودية العالمية.
وعندما علم عام 1934 أن مسؤولاً صهيونياً ألمانياً هو سيغفريد شيرن قد ذهب إلى باريس لإقناع جابوتنسكي بتخفيف الحصار اليهودي على ألمانيا، وجه رسالة مفصلة لوزارة الخارجية يحتج فيها على السماح لأوساط يهودية ألمانية بالاتصال بأوساط يهودية عالمية لمناقشة أمور داخلية في الرايخ الثالث لا يجوز أن تناقش مع جهات خارجية، وكانت رسالته تعكس تحفظاً عميقاً إزاء الصهيونية.
كذلك كانت هناك أطراف داخل الأجهزة السرية نفسها تعتبر “أن إعلان دولة يهودية، أو قيام فلسطين تحت حكم يهودي سيخلق عدواً جديداً لألمانيا. خصماً سيكون له تأثير كبير على مستقبل الشرق الأوسط” (تقرير أورده كارل شلونس) وأنه سيكون من شأن هذه الدولة أن تؤمن حماية خاصة للأقليات اليهودية في العالم، مؤمنة بذلك حماية شرعية لنشاط اليهودية العالمية.”
جهة أخرى ثالثة كانت تعارض التقارب مع الصهيونية هي “المنظمة المكلفة بالخارج” في الحزب النازي التي أنشئت عام 1930، وحصّلت وضعاً رسمياً عام 1934، وكان من المؤثرات في موقفها، موقف الجالية الألمانية في فلسطين (غير اليهودية) التي كانت تنظر باستياء إلى قدوم الهجرة اليهودية. وكان أكثر ما يزعج هؤلاء الألمان غير اليهود اضطرارهم للمرور عبر (الهافارا تراست اند ترانسفير أوفيس) لإجراء معاملاتهم مع الوطن الأم. وزاد استياؤهم بعد ثورة 1936، عندما قسم الانكليز البلاد بين العرب واليهود والانكليز، ووجدت المستوطنات الزراعية الألمانية نفسها في مناطق اليهود. في حين كان أصحابها يرفضون أن يكونوا في الدولة العبرية المقبلة.
في هذه الأجواء جاءت محاولات العرب لثني الألمان عن تشجيع الهجرة اليهودية إلى بلادهم. وهنا لا بد من التوقف عند أمر طالما بدا مثيراً للجدل، وطالما استغله الصهاينة ضد العرب عبر شخص الحاج أمين الحسيني.
وهنا لا بد من سوق عدة حقائق: أولها أنه كان لا بد للحاج الحسيني وهو يقود النضال الفلسطيني من الاتصال بكل القوى الكبرى المؤثرة في الوضع الفلسطيني- الصهيوني، وخاصة الهجرة. وأن ألمانيا كانت قبل الحرب واحدة من هذه القوى، مثلها مثل بريطانيا أو فرنسا أو سواها. وثانيها أن هذه الاتصالات قد بدأت فعلياً حول اتفاق الهافارا… أي لوقف التعاون النازي- الصهيوني، ولم يكن الحسيني أول من بدأها.
لقد كانت أهم قوة عربية في حينها هي العراق – عضو الأمم المتحدة – وكان وزير خارجيتها يونس السبعاوي، من خريجي ألمانيا، يتقن الألمانية، وهو من ترجم كفاحي إلى العريبة ولذلك اعتقد أن بإمكانه أن يتدخل بشكل أكثر فعالية. استدعى السبعاوي سفير ألمانيا لدى بغدا وأبلغه احتجاج بلاده على اتفاق الهافارا ورغبتها في وقفها. ورغم أن السفير وعد خيراً إلا أن شيئاً لم يحصل.
بعد ذلك عقد مؤتمر بلودان في سوريا، وضم مئتي مندوب عربي، بحثوا التورات في فلسطين وكان من بين ما تناولوه اتفاق الهافارا.
إثر ذلك قرر الحاج أمين الحسيني التدخل، فبادر إلى استدعاء القنصل الألماني في القدس، ثم أوفد مساعده يونس بحري، وبعده موفد آخر، تتالت الاتصالات، لكن جميع وعود وقف الهافارا لم تنقذ. وحيث كان هناك- كما ذكرنا- تياران داخل الإدارة الألمانية بخصوص إقامة دولة يهودية في فلسطين، فقد شجع التيار المعارض لهذا المشروع الحاج أمين، كما حاول هو أن يراهن على هذا الجانب، في محاولة لا مجال هنا لتناول جميع تطوراتها.
انقلاب غوبلر- ليلة الكريستال
لكن سياسة الهجرة هذه تعرضت لضربة كبيرة، تاريخية، عام 1938، على يد متطرفي الحزب بقيادة غوبلز، مما يمكن أن نطلق عليه: “انقلاب غوبلز” لأن المؤرخ الألماني هينز هوهن يرى في اندلاع العنف ذاك “تمرداً من صفوف الحزب على الدور المهيمن للأجهزة السرية في سياسة الرايخ الثالث اليهودية.” مضيفاً أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن غوبلز، معتمداً على سترايشر لم يستشر لا هيدريش ولا هملر. وأن هتلر نفسه وجد نفسه أمام الأمر الواقع.
لقد استغل غوبلز إقدام يهودي بولوني شاب على اغتيال الملحق الثقافي في باريس، احتجاجاً على إجراءات ترحيل اليهود البولونيين من ألمانيا، ليفجر ليلة 9-10 نوفمبر 1938 التي عرفت باسم ليلة الكريستال حملة عنف رهيبة ضد اليهود.
وجن جنون هملر ورؤسائه فمن أعلن عن رعبه من المجزرة” ومن أعلن أن “ألمانيا قد خسرت معركة أخلاقية” ومن عبر عن استيائه. الخ… وتدخل غورينغ لإعلان غوبلز مسؤولاً، بعمله الأرعن، عن الإساءة إلى سمعة ألمانيا في الخارج. ومن ثم أمر هتلر غوبلز بالتراجع وأوكل مسؤولية المسألة اليهودية إلى غورينغ وحده.
وفي حين فهم الجميع أن هذه العملية هي ضربة موجهة لسياسة الهجرة، حسم هتلر الأمر بأن وجه يوم 24 يناير 1939 الأمر إلى هيدريش باستئناف سياسة الهجرة، وبشكل أكثر منهجية وتنظيماً بعد إنشاء “الإدارة المركزية للهجرة”.
وكان الوضع في فلسطين قد أصبح أصعب منذ 1938، وفي 17 أيار 1939 قررت الإدارة البريطانية منع اليهود من شراء الأراضي، لتقرر في أول أكتوبر وقف الهجرة.
لكن الهجرة من ألمانيا استمرت بشكل سري بفضل تعاون الأجهزة السرية مع الهاغانا، بقيادة الياهو كولومب الذي كان قد أسس منذ 1937 مكتباً للهجرة تحت اسم الموساد (اليابث)، وكانت الأجهزة الألمانية تزيد من دعمها لهذا المكتب كلما زادت السلطات البريطانية ضغطها عليه. وفي صيف 1939 منحت عميل الموساد بينو جينسبورغ الذي كان قد وصل إلى ألمانيا مع عميلين آخرين حق ترحيل اليهود بحراً إلى فلسطين من مينائي هامبورغ وايمدن. فوضع خطة، كانت تقضي بأن يشهد شهر أكتوبر 1939 هجرة عشرة آلاف يهودي إلى فلسطين. لكن الحرب اندلعت.
وقد كتب جبنسبورغ: “لقد كانت مكاتبنا أمام مكاتب الغستابو، وكانوا يعرفون تماماً من نحن، وماذا نفعل، ولم تكن اللامشروعية تبدأ إلا على شواطئ فلسطين.
ربما كان الأمر يقتضي التوقف هنا لولا محطة أخيرة هامة ومثيرة، تعود إلى ما بعد اندلاع الحرب، أي إلى عام 1941 وهي عرض التعاون الجديد المعروف بوثيقة أنقرة.
المعاهدة السرية بين عصابة شتيرن والرايخ الثالث
لا شك أن واحدة من أكثر الحقبات المثيرة للدهشة في التاريخ، ليس فقط في تاريخ الصهيونية المراجعة، بل أيضاً في تاريخ الحرب العالمية الثانية، هي عرض التحالف الذي قدمه المسؤولون الإرهابيون اليهود في عصابة شتيرن للمسؤولين القوميين الاشتراكيين في ألمانيا عام 1941 للقتال ضد الانجليز. وتستند هذه الحكاية، غير القابلة للتصديق، إلى وثائق وشهادات دقيقة جداً. وربما كانت ستبدو مجنونة أو هامشية لو أن اسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل اللاحق والمسؤول العسكري عن فريق شتيرن، لم يكن متورطاً فيها.
“لقد أقنعت التجهيزات العسكرية البائسة للإيطاليين في ليبيا واليونان، جماعة شتيرن، بأن إيطاليا لا تمتلك وسائلها السياسية، على عكس ألمانيا، التي كانت تحصد في سنة 1940 نصراً إثر نصر. هذه الانتصارات أثرت في جماعة شتيرن وجعلتهم يندفعون في مغامرة مجنونة دون مآل: بناء تحالف مع ألمانيا الهتلرية. وحتى شباط 1941، راحت تعمل على تحويل هذا الهدف إلى واقع ملموس مستندة إلى تحليل خاص لوضع اليهودية. فهي ترى أن بريطانيا العظمى هي العدو الحقيقي في حين أن ألمانيا ليست سوى قامع ينتمي إلى سلسلة المضطهدين الذي لاقاهم الشعب اليهودي في تاريخه الطويل. وهنا برز الخطأ الرئيسي لشتيرن: فهم يرون في النازية حركة تسيرها “لاسامية عاقلة” (تلك التي كان جابوتنسكي يسميها “لاسامية الأشياء”)… لذلك لم يكن تفسير إرسال مندوب عن عصابة شتيرن هو نفتاسكي ليفونشيك إلى بيروت عام 1941، باجتماع باوتو فول هينكنغ، مسؤول قسم الشرق في وزارة الخارجية الألمانية، ينحصر في هدف براجماتي بحت: إنشاء جبهة موحدة ضد انجلترا. ذاك أن النص، وبعد أن يعلن “وحدة المصالح بين أهداف النظام الأوروبي الجديد بحسب الرؤية الألمانية وتطلعات القومية الحقيقية للشعب اليهودي”، يذكر فكرتين قويتين: “التعاون بين ألمانيا الجديدة والحركة العبرية القومية الشعبية الوليدة” عبر مساهمة هذه الحركة في الحرب إلى جانب الرايخ. “والحل الإيجابي الجذري لمشكلة اليهود الأوروبيين بترحيلهم المكثف إلى فلسطين وإنشاء دولة اليهود التاريخية على قاعدة قومية شمولية مع ربطها بمعاهدة مع الرايخ الألماني.
جبهة الرايخ- الصهاينة ضد الانجليز
منذ بداية 1941 عرض لوبنتشيك، وهو مبعوث سري من قبل جماعة شتيرن التي كان الانجليز يطلقون عليها اسم عصابة شتيرن بسبب اعتداءاتها الإرهابية المتكررة، هدنة عسكرية بين المنظمة العسكرية القومية (أي الأرغون التي لم يكن شتيرن إلا فصيلاً منشقاً عنها) وألمانيا. ورغم محاولة إسدال ستار الصمت على هذا الاتفاق إلا أنه بات معروفاً تماماً فقد حمل عنوان (نص أنقرة) ونقل إلى برلين في 11 كانون الثاني 1941 ليعثر عليه فيما بعد في أرشيف السفارة الألمانية في تركيا. وهذا نصه الكامل.
“لقد ألح رجال الدولة الرئيسيون في ألمانيا القومية الاشتراكية، دائماً، وفي جميع خطبهم وتصريحاتهم، على أن إرساء نظام جديد في أوروبا لا بد وأن يتضمن شرطاً مسبقاً هو الحل الجذري للقضية اليهودية عن طريق الترحيل. إن ترحيل جماهير يهود أوروبا هو المرحلة الأولى في حل القضية اليهودية. وفي كل الأحوال فإن الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف هي إسكان هذه الجماهير في وطن الشعب اليهودي، أي فلسطين وإقامة دولة يهودية ضمن حدودها التاريخية. إن هدف جميع سنوات النشاط السياسي وصراع الحركة من أجل حرية إسرائيل والتنظيم العسكري القومي في فلسطين هو حل المسألة اليهودية بهذه الطريقة وتحرير الشعب اليهودي إلى الأبد. والمنظمة العسكرية القومية التي تعرف حسن النية الذي أظهرته حكومة الرايخ الألماني وممثليها، إزاء الصهيونية، وإزاء البرنامج الصهيوني تطرح للعمل النقاط التالية:
1-هناك مصالح مشتركة بين النظام الأوروبي الجديد المبني على المفهوم الألماني، وبين التطلعات القومية الحقيقية للشعب اليهودي، كما تدافع عنها المنظمة العسكرية القومية.
2-ثمة تعاون ممكن بين ألمانيا الجديدة وبين جماعة يهودية متجددة وعائدة إلى جذورها.
3-إن إقامة الدولة اليهودية التاريخية على أسس قومية وشمولية، وارتباطها بمعاهدة مع الرايخ الألماني، يساهمان في حفظ وتدعيم الوجود الألماني في الشرق الأوسط.
على قاعدة هذه الاعتبارات، وفي حال اعتراف حكومة الرايخ الألماني بالتطلعات القومية لـ”الحركة، لأجل حرية إسرائيل”، فإن المنظمة العسكرية القومية في فلسطين، تعرض أن تساهم بجزء حيوي من الحرب إلى جانب ألمانيا. ويكن أن يتضمن هذا العرض نشاطاً عسكرياً، اقتصادياً، أو استخبارياً داخل فلسطين. –وبعض التدابير التنظيمية- خارجها. وبالمقابل يتم تدريب يهود أوروبا تدريباً عسكرياً ويتم تنظيمهم في وحدات عسكرية تحت إدارة وقيادة المنظمة العسكرية القومية. وي حال تحقق جبهة موحدة، تأخذ هذه الوحدات نصيبها في عمليات قتالية لاحتلال فلسطين. إن المساهمة غير المباشرة لـ”الحركة لأجل حرية إسرائيل” في النظام الأوروبي الجديد، الذي ما يزال في مرحلة تحضيرية، ستدعم بقوة الأسس الأخلاقية للنظام الأوروبي الجديد في عين الإنسانية جمعاء، إذا ما اقترنت بإمكانية إيجاد حل جذري للمسألة اليهودية في أوروبا على أساس التطلعات القومية للشعب اليهودي. كذلك فإن التعاون مع حركة تحرير إسرائيل سيكون متوافقاً مع خطاب ألقاه مؤخراً المستشار الألماني السيد هتلر، يؤكد فيه دعوته إلى جميع التحالفات التي تهدف إلى عزل انجلترا والانتصار عليها.
تتشكل المنظمة العسكرية القومية من مجموعة من القناصة اليهود في فلسطين ومن الحركة المراجعة (التنظيم الصهيوني الجديد) التي كان للمنظمة العسكرية القومية ارتباط وثيق وشخصي معها عبر شخص جابوتسكي، وحتى وفاته. لكن موقف المنظمة المراجعة في فلسطين المؤيد للانجليز جعل تجديد هذا الاتحاد الشخصي مستحيلاً. وأدى إلى قطيعة كاملة بين الاثنين في خريف هذا العام، وإلى استئناف المنظمة العسكرية القومية لنشاطها بعد هذا الانشقاق.
إن هدف المنظمة العسكرية القومية هو إقامة دولة يهودية ضمن حدودها التاريخية وعلى عكس جميع التيارات الصهيونية، ترفض المنظمة الفكرة القائلة بأن التسلل الاستعماري الاستيطاني هو الوسيلة الوحيدة لدخول البلاد وامتلاكها تدريجياً. كلمة السر لديها هي: القتال والتضحية، كوسيلة وحيدة لتحرير واحتلال فلسطين. ونظراً لطبيعتها العسكرية وموقفها المعادي للانجليز، والذي يجعلها عرضة للقمع الدائم من بل الإدارة الانجليزية، تجد المنظمة العسكرية القومي نفسها مضطرة لممارسة نشاطها السياسي بشكل سري وكذلك، الإعداد العسكري لأعضائها في فلسطين.
لقد تميزت المنظمة التي بدأت أعمالها المسلحة منذ خريف 1936 تميزت بشكل خاص اعتباراً من عام 1939، بعد نشر الكتاب الأبيض الانجليزي، وذلك بتكثيفها لنشاطها الذي تكلل بالنجاح، في إرباك ومقاطعة المحتل الانجليزي. مما جعل جميع وسائل الصحافة في تلك المرحلة، تورد نشاطها، وتشير إلى بث إذاعتها السرية اليومية، وتعلق عليهما.
وقد كان للمنظمة، حتى بداية الحرب، مكاتب سياسية مستقلة في كل من فارسوفيا، باريس، لندن، ونيويورك. وكان مكتب فارسوفيا يهتم بشكل رئيسي بالتنظيم العسكري وتدريب وبناء الشباب القومي الصهيوني. كما كانت تقيم علاقات وثيقة مع الجماهير اليهودية التي كانت تتابع نظامها بحماس، خاصة يهود بولونيا الذين كانوا يساعدونها بكل الوسائل الممكنة. كذلك أصدرت صحيفتين في فارسوفيا.
من جهة أخرى كان مكتب فارسوفيا يقيم علاقات وثيقة مع الحكومة البولونية ومع الدوائر العسكرية التي كانت تراقب بأكبر قدر من الاهتمام والتفهم جهود المنظمة العسكرية القومية. التي قامت عام 1939، بإرسال وحدات سرية من عناصرها من فلسطين إلى بولونيا. حيث كان ضباط بولونيون، يقومون بتدريبهم وبنائهم العسكري في مراكز تدريب خاصة. لكن المفاوضات التي كانت دائرة بين المنظمة والحكومة البولونية لأجل تطوير مساعدتها بشكل ملموس، توقفت مع بداية الحرب. وهكذا فإن المنظمة، وبطبيعة بنيتها ورؤيتها للعالم هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحركات الشمولية الأوروبية. أما شل قدرتها القتالية، فلم يكن ممكناً، في أي لحظة، وذلك بسبب تدابير الدفاع الجذرية، إزاء الإدارة الانجليزية والعرب وإزاء الشيوعيين اليهود.”
للوصول إلى إنجاح هذه الوثيقة قامت جماعة شتيرن بعدة مناورات تقارب، لدى الفرد روزر، مسؤول أجهزة الاستخبارات العسكرية الألمانية، واتو فون هينغ عضو وزارة الخارجية الألمانية والذي كان يعتبر رئيس الأجهزة السرية في دمشق وعليه تم ترتيب لقاء سري مع هذا الأخير في بيروت. “لم يخف ممثل ألمانيا أوتو فون هينغ، عن المبعوث الصهيوني لوبنتشيك، بأن في بلاده تياراً مؤيداً لإقامة دولة عبرية في فلسطين وأن هذا يمثل حلاً عملياً للمسألة اليهودية. وعلى أية حال فقد كان يعتقد بأن هذا التيار قد أصبح ضعيفاً بحيث لم يعد قادراً على أن يؤثر إيجابياً على قرارات الحكومة وأنه، وفي جميع الأحوال، قد فات الأوان على العمل. فقد قررت هيئة الأركان أن تؤمن لنفسها، في صراعها ضد بريطانيا في الشرق الأوسط، مساعدة العرب الذين يعدون بالملايين، وذلك أفضل من مساعدة اليهود الذين لم يكونوا إلا حفنة صغيرة. لكنه، وبالرغم من كل ذلك، وعد بنقل العرض المقترح إلى برلين. دون أن يتلقى لوبنتشيك جواباً أبداً.”
سر خبـّئ لمدة ثلاثين عاماً
في 11 كانون الثاني عام 1941، أرسل هذا العرض إلى السفارة الألمانية في أنقره، حيث وجد بعد الحرب. ولا يعرف ما إذا كانت السلطات الألمانية قد ردت عليه وما هي ماهية الرد. علماً بأن جماعة شتيرن قد أرسلت إلى فون هينغ مبعوثاً آخر هو نافان ياكين مور، مدير جريدة الأرغون وواحد من قادة شتيرن الثلاثة. لكنه اعتقل في سوريا، بعد الهزيمة الفرنسية في تموز 1941 بينما كان يحاول أن يصل إلى تركيا.
لقد حاول البعض التشكيك بصحة وجود هذه الوثيقة، إلى أن قام أحد زعماء شتيرن التاريخيين وهو إسرائيل الداد سناب، بتأكيد وجودها قائلاً بأن رفاقه قد أوضحوا للقوميين الاشتراكيين أن “تماثل المصالح بين نظام جديد في أوروبا مبني على الرؤية الألمانية وبين تطلعات الشعب اليهودي في فلسطين ممثلة بالمقاتلين لأجل حرية إسرائيل (ليحي) هو أمر ممكن”. كذلك فإن صحيفة هآرتز، قد كشفت النقاب عن وجود وثائق سرية أخرى، ومنها رسالة موجهة في كانون الثاني 1941 من السفير فرانز فون بابيل إلى وزارته في ألمانيا حول الاتصالات مع فريق شتيرن، والتقرير الذي قدمه العميل السري وورنر أوتو فون هينغ. كما أن صحيفة حوتام الأسبوعية قد أكدت أخيراً أن هذه الوثيقة حملت توقيعي اسحق شامير وآبراهام شتيرن، وقدمت إلى سفارة ألمانيا عندما كانت جيوش رومل ما تزال في مصر. ويبدو أن اسحق شامير (الذي كان ما يزال يحمل اسمه الحقيقي، اسحق يزرنسكي) والذي أصبح يما بعد وزيراً لخارجية إسرائيل ومن ثم رئيساً لوزرائها، هو أحد الذين حرروا هذا العرض، وذلك بفعل موقعه في منظمة شتيرن.
ولد شامير عام 1915 في روزني، في بيلوروسيا، حيث كان أبوه قد أسس مدرسة لتدريس العبرية، وبسرعة التحق الابن بالنضال في صفوف الحركة المراجعة. وصل إلى فلسطين عام 1935، وفي العام التالي أصبح مدرساً عسكرياً في “خلايا العمل الصهيوني” في منطقة تل أبيب. ليصبح منذ 1940 أحد أقرب المقربين إلى آبراهام شتيرن. أما بخصوص هذه الوثيقة فقد اضطر شامير مؤخراً إلى الاعتراف بأنه كان على علم كامل بمشروع العرض المقدم للرايخ الثالث في عز فترة اضطهاد اليهود في أوروبا، لكنه أكد أنه كان معارضاً لهذا المشروع. غير أن تأكيده لا يقنع أحداً، كونه كان في تلك الفترة واحداً من القادة الرئيسين في المجموعة الإرهابية. وقد عمل باروخ نال، وهو باحث وكان عضواً في مجموعة شتيرن، ثم انفصل عنها، طويلاً على معرفة درجة تورط شامير في هذه المفاوضات وتوصل إلى أنه من المقنع قطعياً أنه كان على علم كامل بذلك. أما المؤرخ ليني برينر فيتحدث كذلك عن “أكذوبة رسمية ناضجة”. بدليل أن شامير كان مكلفاً، ففي خريف 1941، من قبل شتيرن بتنظيم حملة مساعدة وجمع تبرعات لملء صناديق المنظمة والسماح بتنظيم رحلة لمبعوثيها إلى ألمانيا. ويبدو أن سياسة التعاون هذه لم تتوقف فور موت ابراهام شتيرن وتولي اسحق شامير القيادة. بل أن مصادفة تزامن هذا الانتقال مع حدوث منعطف حاسم في الحرب، جعل موضوع انتصار الرايخ الثالث موضع شك أكثر فأكثر، هي التي دفعت شامير إلى عدم لعب ورقة التعاون هذه، بصفته قائداً للمنظمة.
خلال عام 1941 أوقفت الشرطة البريطانية اسحق شامير، وفي 21 شباط 1942 قتل ابراهام شتيرن. في 1 أيلول من العام ذاته هرب شامير من معسكر ميزرا حيث كان معتقلاً، وأطلق الحركة من جديد تحت اسم (ليحي) (المقاتلون من أجل حرية إسرائيل). وبهذه المناسبة وكما هو التقليد في المنظمات الإرهابية، عمد شامير إلى إعدام ثلاثة من أعضاء المنظمة الذين لم يكونوا يتجاوزون العشرين: مسؤول الاستخبارات الذي اتهم بالتعاون مع البيطانيين، وعنصر هرب من القتال، وأفضلُ خبير في الاعتداءات اتهم بأنه بالغ التطرف وخارج عن السيطرة. وعندما أصبح شامير وزيراً للخارجية، أعاد الانجليز إلى الأذهان أنه كان منظم عمليتي اغتيال شهيرتين: اغتيال اللورد من المندوب العام البريطاني في مصر في 6 تشرين الثاني 1944 واغتيال الكونت فولك برنادوت الوسيط الخاص للأمم المتحدة في فلسطين في 17 أيلول 1948 أي بعد أن أصبحت إسرائيل دولة مستقلة.
في عام 1946 اعتقل شامير مرة أخرى، وذلك بعد عملية فندق داود في القدس، نقل إلى أسمره في آريتيريا ومن هناك هرب إلى جيبوتي في كانون الثاني عام 1947. لكنه أعيد إلى السجن إلى أن أطلق سراحه وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان الذي منحه اللجوء السياسي في فرنسا بطلب من المنظمات اليهودية المتطرفة هناك. وفي أيار 1948 ظهر شامير من جديد في الدولة الإسرائيلية الوليدة، حيث تابع تنظيم وتنسيق العمليات الإرهابية. إلى أن تم حل ليحي بأمر من بن غوريون بعد اغتيال الكونت برنادوت في 17 أيلول 1948. ويذكر أن يالين مور الذي كان المندوب الآخر لفريق شتيرن، كما ذكرنا، قد اعتقل بعد عملية الاغتيال المشينة هذه وحكم بثماني سنوات سجن بتهمة ممارسة الإرهاب. ولم يلبث أن صدر بحقه عفو في السنة التالية، إثر انتخابه عضواً في الكنيست. بعد ذلك وضع شامير معارفه في موضوع الإرهاب والخطف في خدمة الموساد، حيث أصبح منذ عام 1955 أحد أهم مساعدي عايزر هاريل رئيس الأجهزة السرية. وفي عام 1965 وهو تاريخ وصوله إلى التقاعد، كان رئيساً لمكاتب الموساد الخاصة بأوروبا. بعد أن تفرغ بضع سنوات لهذا العمل، التحق بحزب حيروت في عام 1970 ليباشر حياة سياسية متسارعة: ينتخب عضواً في الكنيست في كانون الثاني 1973 ثم يصبح رئيساً لها بعد ذلك بسنتين. ثم ناطقاً رسمياً باسمها عام 1977 قبل أن يحل محل موشيه دايان في وزارة الدفاع في آذار 1980..