مقدمـة
يتناول هذا الموضوع العلاقات المغربية السودانية*١*عبر المنطقة الغربية من
الصحراء الكبرى في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي). وتقوم الدراسة أولا بإبراز دور العامل الجغرافي و امتداد حدود المغرب الجنوبية على تأصيل العلاقات المغربية السودانية ، ثم تتناول بداية تلك العلاقات ، واهتمام المسلمين المبكر بمسالكها الأمر الذي أدى إلى إرسال حملة السوس الأقصى والسودان ، وتوغلها في الصحراء وفي مملكة غانة وإضعافها لنفوذ غانة في الصحراء ، وتَهيُّؤ الأوضاع لقيام الحلف اللمتوني الأول – قبل قيام المرابطين بثلاثة قرون – بقيادة قبيلة أنبية.
ثم يتعرض البحث لقيام دولة أنبية واتخاذها أودغست – التي كانت عاصمة لمملكة غانة – عاصمة لها بعد أن اضطرت مملكة غانة إلى التقهقر جنوبا. وتتوقف الدراسة عند قيام دولة أنبية وتوحيدها للمنطقة الواقعة بين نهر السنغال جنوبا وسواحل البحر المتوسط المغربية شمالا. وقد اعتمدت الدراسة على النصوص القليلة المبعثرة هنا وهناك في المصادر العربية مثل مؤلفات الفزاري وابن عبد الحكم وابن الفقيه وابن حوقل والبكري وابن خلدون .
*السوس الأقصى والصحراء الغربية قبل القرن 2 هـ*
أرى أنه من الأفضل بدايةً : التعريف – باختصار – بمدى امتداد حدود المغرب
الجنوبية في مفهوم المسلين الأوائل، فقد جعل الجغرافيون العرب حد المغرب
الجنوبي بصورة عامة المفاوز الفاصلة بين بلاد السودان والمغرب.*٢*]وقد ورد في المصادر العربيةما يوضح امتداد تلك المفاوز فقد جعل اليعقوبي منطقة أودغست وكل مضارب لمتونة ضمن حدود المغرب[3]، بينما جعلها ابن خلدون ” مجالات صنهاجة ومتقلبهم إلى أرض السودان”[4]ومن المعروف أن مواطن صنهاجة تمتد حتى المناطق المطلة على نهر السنغال.
أما ابن حوقل والدمشقي فقد جعلا ما بين أودغست وتادمكة – الواقعة شمالي
انحناءة نهر النيجر – ضمن بلاد المغرب.[5]و يضيف ابن حوقل أن امتداد المغرب جنوبا يشمل أرض غانة وأوليل معدن الملح على مصب نهر السنغال.[6]و بناءاً على هذا التصور فإن حدود المغرب الأقصىكما عرفها الجغرافيون العرب امتدت من نهر السنغال جنوبا حتى سواحل البحر المتوسط المغربية شمالاً.
وقد تمتعت هذه المنطقة بمميزات جغرافية جعلتها رائدة في مجال العلاقات عبر
الصحراء. فسلسلة جبال الأطلس تتخذ من تونس اتجاها جنوبيا غربيا فتتوغل في
الجنوب عندما تصل السوس الأقصى، فحد جبال الأطلس الجنوبي في تونس خط عرض 35 شمالا تقريبا بينما حدها الجنوبي في السوس الأقصى خط عرض 25 تقريبا. وقد أدى ذلك إلى جعل المسافة بين المغرب الأقصى وبلاد السودان أقصر منها في أي منطقة أخرى عبر الصحراء الكبرى.
أما المنطقة الصحراوية بين السوس الأقصى ونهر السنغال فقد قامت فيها أماكن
استقرار متعددة حيث كان المناخ أكثر رطوبة في القرون السابقة لانتشار الإسلام ، وحتى بعد سيادة عصر الجفاف في الصحراء الكبرى كانت لا تزال بعض المناطق في الصحراء الغربية تتمتع بقدر مناسب من مصادر المياه. أدت هذه العوامل إلى الاستقرار البشري المتواصل في أماكن متعددة على طول المنطقة الصحراوية الواقعة بين السوس الأقصى وحوض نهر السنغال منذ قرون كثيرة قبل انتشار الإسلام.
ومن جانب فإن منطقة السوس الأقصى عاشت استقراراً نسبيا مقارنة مع باقي
المناطق الأخرى في المغرب التي تعرضت – في القرون القليلة السابقة لانتشار
الإسلام – للكثير من المشاكل والاضصرابات مثل الصراع الروماني اليهودي ومشاكل الخلافات المذهبية المسيحية ، ثم الصراع الروماني والبيزنطي ضد القبائل المحلية بالإضافة إلى أن منطقة السوس الأقصى لم تدخل تحت السيطرة البيزنطية.
[7]ويبدو أن مراكز ومدن المغرب الأقصى قد طورت نظمها السياسية والاجتماعية للقيام بدورها في تنظيم العلاقات التجارية عبر الصحراء. إلا أن المصادر العربية لم تمدنا بمعلومات عن نشاط منطقة السوس التجاري قبل انتشار الإسلام.
ويتضح مما ورد في المصادر العربية أن منطقه السوس الأقصى كانت آهلة بالسكان وقد أشارت تلك المصادر إلى الأنهار والأودية المطلة على المنطقة الصحراوية ، فمن جبل دَرَن – نهاية سلسلة الأطلس الغربية- ينبع نهرا نفيس ودرعة ووادي أغمات وإلى الجنوب من ذلك يقع وادي السوس. وقد أشار البكري إلى مدينتين في منطقة السوس الأقصى إبان الفتوح الإسلامية إحداهما مدينة إِيجلَى التي تقع على وادي السوس آخر مواطن العمران على حدود الصحراء فذكر أنها: ” قاعدة بلد السوس …. وهي مدينة على نهر كبير كثيرة الثمر وقصب السكر ومنها يحمل السكر إلى جميع بلاد المغرب ، وعلى هذا الوادي أسواق كثيرة إلى البحر المحيط.”[8]
وفي مكان آخر ذكر البكري أن مدينة إِيجلَى: ” مدينة كبيرة سهلية بقربها نهر كبير جارٍ من القبلة إلى الجوف عليه بساتين
كثيرة متصلة… وهي كثيرة الفواكه والخير وربما بيع حِمل التمر بها بدون كِراء
الدابة من البستان إلى السوق … وقنطار السكر يبتاع بمثقالين وأقل ، ويعمل بها
النحاس المسبوك يتجهز به إلى بلاد الشرك وبها مسجد جامع وأسواق وفنادق، افتتحها عقبة بن نافع وأخرج منها سبيا لم يُر مثله حسنا وتماما.”[9]
وتبدو مدينة إِيجلَى عاصمة السوس الأقصى في عصر البكري مدينة كبيرة آهلة
بالسكان غنية في مواردها الزراعية والصناعية والتجارية ، ويمتد العمران منها
إلى البحر المحيط حيث ميناء ماست الذي تصل إليه بعض التجاريات من البحر كما أشار إلى ذلك اليعقوبي.[10]
ورغم أن وصف البكري جاء بعد نحو أربعة قرون من دخول عقبة بن نافع للمدينة إلا أنه قد يساعد على محاولة تصور أوضاع المدينة إبان الفتح الإسلامي في أول العقد السابع من القرن الهجري الأول خاصة وأن البكري ذكر أن عقبة خرج من إِيجلَى ” بسبي لم ير مثله حسنا وتماما.”
والمدينة الثانية التي ورد ذكرها إبان الفتح الإسلامي هي مدينة نفّيس على نهر
يعرف باسمها شمال وادي السوس. قال عنها البكري: ” كثيرة الأنهار والثمار ليس في ذلك الوادي موضع أطيب منه ولا أجمل منظرا ، وهي قديمة أولية غزاها عقبة بن نافع وحاصر بها الروم ونصارى البربر وكانوا قد اجتمعوا بها لحصانتها وسعتها فلزمهم حتى افتتحها وبنى بها مسجدا هو باق إلى اليوم ، وأصابوا فيها غنائم كثيرة وذلك سنة 62 وهي اليوم آهلة عامرة بها جامع وحمام وأسواق جامعة.”[11]
فنفّيس كانت في عام 62هـ/681م مدينة كبيرة ومحصنة آهلة بالسكان . ويبدوا أن
البربر والروم المنهزمين من جيش عقبة في الشمال قد تقهقروا وتحصنوا بها
فحاصرها عقبة وفتحها. وقد أشار ابن الفقيه إلى مدينة “طرقلة” ذكر أنها مدينة
السوس الأقصى[12]، بينما ذكر المقدسي (ت 390هـ/999م) أن قصبة السويس الأقصى هي مدينة طرفانة[13] ولم أجد ذكر لهاتين المدينتين في المصادر التي تحدثت عن منطقة السوس الأقصى مثل ابن حوقل والبكري والإدريس وغيرهم ، وربما يكون الاسمان لمدينة واحدة وحدث بعض التصحيف في كتابة الاسم.
وربما كانت هذه المدينة أحد المراكز التجارية على وادي السوس أو قريبة منه لأن ابن الفقيه ذكر أنه “ليس وراء طرقلة إنس”[14] مما يوحي أنها كانت على أطراف السوس الأقصى المطل على الصحراء ، كما ذكر أن الطريق يخرج منها إلى غانة.[15]
وربما كانت هنالك بعض المدن والمراكز الأخرى التي لم ترد الإشارة إليها في
المصادر المتوفرة لدينا. فعلى سبيل المثال يمكن افتراض قيام مراكز على وادي
درعة الذي اشتهر بعلاقاته مع بلاد السودان بعد انتشار الإسلام. فقد ذكر الزهري
– الذي نقل عن الفزاري نحو منتصف القرن الثاني الهجري – أن تاقَرْسِت كانت
حاضرة وادي درعة وهي اليوم خراب.[16]
أعتقد أنه من خلال هذه النصوص المقتضبة من الممكن افتراض أن منطقة السوس الأقصى نحو نهاية القرن السابع الميلادي كانت كثيرة المدن وآهلة بالسكان ، فقد ورد في المصادر العربية التي تناولت حملة عقبة بن نافع للسوس ما يؤكد ذلك. ذكر الرقيق القيرواني أن سكان السوس ” تلقوه في عدد لا يحصى ، فلقيهم فقاتلهم قتالاً شديداً ما سمع أهل المغرب بمثله فقتل منهم خلقا عظيما”[17] وأورد ابن عزاري المراكشي أنه ” اجتمع إليه البربر في أمم لا تحصى ولا تكاثر بالحصى”[18] ولعل السبب الرئيس في ازدهار مراكز السوس الأقصى هو نشاطها التجاري وعلاقاتها مع مملكة غانة على حدودها الجنوبية.
كانت المنطقة الغربية من الصحراء الكبرى المطلة على المحيط الأطلسي عند انتشار الإسلام في المغرب تحت نفوذ مملكة غانة التي قال عنها ابن خلدون: ” ولما فتحت إفريقيِّة المغرب ، ودخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم
[السودان] أعظم من ملوك غانة ، كانوا مجاورون للبحر المحيط من ناحية الغرب ، وكانوا أعظم أمة ولهم أضخم ملك.”[19]
فمملكة غانة إبان دخول المسلمين المغرب كانت مملكة عظيمة ذات ملك ضخم– كما عبر ابن خلدون – وكانت عاصمتها مدينة أودغست التي قال عنها البكري ” كانت منزل ملك السودان المسمى بغانة قبل أن تدخل العرب غانة.”[20]ويعزى تطور قوة مملكة غانة وازدياد نفوذها قبل القرن الثامن الميلادي إلى نشاطها التجاري عبر الصحراء.[21]
ويشير موقع العاصمة في قلب الصحراء إلى امتداد نفوذ مملكة غانة في الصحراء شمالا وجنوبا من أجل الإشراف على طرق التجارة بين السوس الأقصى وحوض نهر السنغال مما يرجح أن نفوذها كان يمتد شمالا حتى الأطراف الجنوبية للسوس الأقصى.[22]وقد ذكر الزهري أن حدود بـلاد جنـاوة – التي تضم غانة – تمتد شمالا حتى السوس الأقصى.[23] وحفظت الروايات المحلية توسع مملكة غانة في المناطق الشمالية قبل القرن الثامن الميلادي حيث ذكر كعت أن ملوك غانة الأوائل كانوا “سلاطين المغرب كله بلا استثناء.”[24]
كان الصنهاجيون والسوننك أكبر المجموعات السكانية في مملكة غانة ، وكان
العنصران قد تداخلا في مناطق استقرارهما إلا أن مواطن استقرار السوننك الأساس كانت في جنوبي مملكة غانة بينما كانت مواطن استيطان الصنهاجيون الأساس في شماليها.
يمثل السوننك الفرع الشمالي للشعوب التي تتحدث لغة الماندي ، وكان موطنهم
الأصلي منطقتي الحوض وأوكار في الحدود الجنوبية لدولة موريتانيا الحالية. مارس السوننك أنشطة متعددة لإنتاج الغذاء ، فقد مارس سكان المنطقة الجنوبية منهم الزراعة وصيد السمك واشتغل سكان الجزء الشمالي برعي الماشية والصيد كما ساهموا في تعدين الملح الحجري في الصحراء فانتشروا حتى تغازة شمالا.[25] كما اشتغل السوننك كذلك بالتجارة مع سكان حوض نهر السنغال وأعالي حوض نهر النيجر ، وقد وُجد ما يدل على ارتباط السوننك بالمغرب. فقد وصلت سلع شمالي الصحراء إلى مناطق نهري السنغال والنيجر عبر مستوطنات السوننك قبل قيام مملكة غانة نحو منتصف الألف الأول الميلادي أو في النصف الثاني منه.[26] ويبدو أن مملكة غانة قد اتخذت أكثر من عاصمة واحدة في المناطق الجنوبية الشرقية لدولة موريتانيا الحالية ، إلا أن عاصمتها إبان انتشار الإسلام في المغرب كانت أودغست. [27]
أما القبائل الصنهاجية فهم صنهاجة الجنوب الذين قال عنهم ابن خلدون: “هم الملثمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب ، أبعدوا في
المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أولها … فصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا”[28] وبطون صنهاجة كثيرة ذكر ابن خلدون أنهم نحوا من سبعين بطنا أشهرهم شرطة وهسكورة ومسوفة وجدالة ولمتونة. موطن شرطة بين درعة وسجلماسة وموطن هسكورة شرقي درعة ومسوفة مجاورة لدرعة تسيطر على ملح تغازة وجدالة في أقصى الجزء الجنوبي الغربي شمال نهر السنغال.[29] أما بطون لمتونة فينتشرون في الجزء الغربي من الصحراء الواقعة بين بلاد السوس وبلاد السودان ، مراحلهم فيها ” مسيرة شهرين في مثلها” [30] وكان مركزهم الرئيس منذ الفترة السابقة لانتشار الإسلام جبل لمتونة على بعد سبعة أيام جنوبي مدينة نول[31]وهو “جبل منيع كثير الماء والكلأ في طوله مسافة ستة أيام وفي عرضه مسافة يوم.”[32]
ورغم أن المصادر العربية لم توضح أماكن انتشار بطون قبيلة لمتونة في الصحراء قبل القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ألا أنه يبدو معقولا أنهم كانوا يسيطرون على أطراف الصحراء الواقعة جنوبي السوس الأقصى وكانوا بمثابة حلقة الوصل بين السوننك في الجنوب والمغرب في الشمال.[33]
*حمـلة السودان*
بدأت أوضاع المسلمين في الاستقرار في المغرب منذ نهاية القرن الأول الهجري(أول القرن الثامن الميلادي) وبدأ الإسلام ينتشر سريعا بين القبائل المحلية كما أشار إلى ذلك ابن عبد الحكم أثناء حديثه عن ولاية إسماعيل بن عبيد الله المغرب التي بدأت عام 100هـ/817م حيث قال: ” لم يبق في ولايته يومئذ أحد إلا أسلم”[34] و قد أشار ابن خلدون إلى أن بطون لمتونة أسلمت “بعد فتح الأندلس.”[35] وأدى إسلام هذه المناطق إلى استقرار الأوضاع فيها.
شهد هذا الاستقرار اتجاه سياسة حكام المغرب نحو استثمار مرافق التجارة وأولوا
عنايتهم الخاصة بمنطقة السوس الأقصى مفتاح الطريق إلى بلاد السودان واهتموا
بتأمين وتوفير بعض الخدمات على طرق التجارة.
وأول إشارة صريحة إلى علاقات المغرب مع المنطقة الواقعة جنوبي السوس الأقصى هي الحملة التي أرسلها والي المغرب عبد الله بن الحبحاب عام 116هـ/734م والتي عرفت في المصادر العربية بحملة السودان. تولى قيادة هذه الحملة عبد الرحمن بن حبيب حسب رواية ابن خياط والبلاذري[36]أو والده حبيب بن أبي عبيدة حسب رواية ابن عبد الحكم والرقيق القيرواني ومن نقل منهما مثل ابن عذارى المراكشي والناصري.[37]
وقد ارتبط اسم عبد الرحمن بن حبيب بأحداث الحملة في السوس الأقصى و الصحراء ، فقد ذكر البكري أن عبد الرحمن بن حبيب دخل مدينة نول التي تقع في أقصى الطرف الجنوبي للسوس الأقصى وأشار إلى آباره التي أنشأها في الصحراء.[38] فربما رجح ذلك رواية ابن خياط والبلاذري. وقد تولى عبد الرحمن بن حبيب حكم المغرب عام 127 وحتى 137هـ (744-754م) وكان عندئذ مشغولا بالمشاكل التي عاشتها المنطقة في نهاية الحكم الأموي وبداية العصر العباسي بالإضافة إلى المشاكل الأخرى التي أودت بحياته[39] فمن غير المتوقع أن يكون قاد حملة أخرى إلى الصحراء ، بالإضافة إلى أن المصادر العربية لم تذكر حملة أخرى خرجت إلى تلك المنطقة.
جاءت أخبار هذه الحملة في المصادر العربية مختصرة جدا تتلخص في وصولها السوس الأقصى ودخولها أرض السودان وعودتها بالسبي والذهب، قال ابن عبد الحكم “وغزا عبيد الله حبيب بن أبي عبيدة الفهري السوس وأرض السودان فظفر بهم ظفراً لم يُر مثله وأصاب ما شاء من ذهب ، وكان فيما أصاب جاريتان من جنس تسميه البربر أجان. [40]
أما الرقيق القيرواني فقد ذكر أن “حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع جاء غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان ولم يقابله أحد إلا ظهر عليه ، وأصاب من الذهب والفضة والسبي أمراً عظيماً … وسبى من قبيل من قبائل البربر يقال لهم مسوفة في طريق السودان.”[41]
ولم تشر تلك المصادر إلى أسباب خروج الحملة وليس من المحتمل أن يكون سبب الحملة الرد على اعتداء من مملكة غانة على حدود السوس الأقصى الجنوبية أو تعقب القبائل المحلية لأنها كانت قد أسلمت قبل ذلك الوقت. كما يستبعد أن يكون سبب الحملة التوسع في الصحراء جنوبا لأن العرب يعلمون أن إخضاع المناطق الصحراوية النائية لحكم مركزي أمر ليس من السهل تحقيقه. فقد فشل الرومان في تحقيق هذا الهدف في المنطقة الوسطى من الصحراء الكبرى وأخيرا لجأوا إلى التعاون مع دولة الجرمانت.
ويبدوا معقولا أن يكون سبب الحملة هو تأمين طرق التجارة فقد أشار البكري إلى أن قبيلتي لمطة وجزولة وبعض قبائل السودان يهددون قوافل التجارة بين السوس الأقصى وأودغست.[42]وقد يكون من بين أسباب الحملة الاستطلاع عن موارد الذهب إلى جانب السبي والغنائم الذين ركزت عليهما المصادر كنتائج للحملة.
ذكر البكري أن عبد الرحمن بن حبيب أنشأ ثلاث آبار على طريق تامدلت أودغست[43] ، ومدينة تامدلت أسسها الأدارسة في وقت لاحق لدخول عقبة السوس الأقصى على بعد ست مراحل من مدينة إِيجلَى.[44] البئر الأولى على بعد مرحلة واحدة من تامدلت ، والبئر الثانية على بعد 15 مرحلة من تامدلت، والثالثة على بعد 18 مرحلة من تامدلت.
ومن البئر الثالثة توجد مياه على بعد ثلاثة مراحل ثم بعد أربع مراحل توجد بئر
وانزميرن التي يقول عنها البكري: ” وبهذا الماء يجتمع جميع طرق السودان ، وهو موضع مخوف تغير فيه لمطة وجزولة على الرفاق ويتخذونه مرصدا لهم لعلمهم بإفضاء الطرق إليه وحاجة الناس إليه.”[45]ومن المعقول جدا أن تكون الحملة قد وصلت إلى هذا المكان من أجل تأمين سلامة الطريق. وأغلب الظن أن ذلك قد تم عن طريق القوة لأن البكري ذكر أن “ببلاد غانة قوم يسمون بالهنيهن من ذرية الجيش الذي كان بنو أمية قد أنفذوه إلى غانة في صدر الإسلام، … وبسلَى أيضا قوم منهم يعرفون بالفامان.[46]”
ومن الممكن افترض أن الحملة وصلت إلى بئر وانزاميرن التي تبعد 16 مرحلة من أودغست عاصمة مملكة غانة ، وقد يؤيد هذا الافتراض ما ذكره الناصري من أن حبيب “انتهى إلى السوس الأقصى وقاتل مسوفة ثم تخطاهم جنوبا إلى تخوم السودان.[47]وقد حدد ابن خلدون أن مواطن مسوفة جنوب وادي درعة وأنهم يسيطرون على تغازة المشهورة بإنتاج الملح.[48] فهل تخطت الحملة بئر وانزاميرن جنوبا ؟ وهل اشتبكت الحملة في حرب مع قوات مملكة غانة ؟
أغلب الظن أن الحملة لم تتخط بئر وانزميرن جنوبا ولم تشتبك في قتال مع جنود
مملكة غانة، لأن أول موضع ماء بعد وانزميرن على بعد خمسة أيام في مواطن بني وارث من صنهاجة ، ثم على مسيرة يومين آخرين يوجد ماء عليه أيضا قبيلة صنهاجية كما ذكر البكري ، وأضاف أنه على بعد أربعة أيام من هذا الموضع جبل أزجونان علية قبائل سودان يقطعون الطريق على القوافل ثم بعد أربع مراحل أخرى على أرض لصنهاجة كثيرة المياه تصل أودغست عاصمة مملكة غانة.[49]
ويبدوا أن مملكة غانة لم يكن لها سيادة مركزية على المناطق الصحراوية ، وكانت قبائل صنهاجه المنتشرة في المنطقة حتى حدود أودغست تتمتع بسيادتها المحلية.
ولذلك فمن المرجح أن الحملة قد دخلت في قتال مع بعض القبائل المحلية مثل لمطة وجزولة اللتان تهددان سلامة القوافل. وتركت بعض الجنود لمراقبة الطريق وربما لتأمينه من قبائل السودان جنوبا. فتكون الحملة بذلك قد حققت أهدافها ورجعت من بئر وانزميرن.
وإذا افترضنا أن الحملة قد تخطت بئر وانزميرن جنوبا فإن هدفها إما أن يكون جبل أزجونان الذي يبعد مسافة 11 يوما من وانزميرن حيث يغير فيه السودان على قوافل التجارة ، أو أن يكون هدف الحملة عاصمة مملكة غانة. ومن المقبول جدا أن الحملة لم تدخل عاصمة مملكة غانة ، لأنها لو كانت فعلت ذلك لتواترت الأخبار عن هذا الحدث الكبير بحكم أهمية مملكة غانة وكونها أكبر ممالك السودان وأكثرها ثراءاً، لأن حدثا مثل هذا ينبغي أن تسجل أخباره.
فهل نفترض أن هدف الحملة كان جبل أزجونان على بعد أربعة أيام فقط من عاصمة مملكة غانة من المستبعد أن تكون الحملة قد وصلت إلي أطراف حدود عاصمة غانة ثم ترجع دون دخول حرب معها أو على الأقل إجراء مفاوضات وعقد اتفاق أو تعاهد وهو –أيضا – ما لا يمكن تجاهل أخباره لو كان قد تم فعلا. ولما كانت الأخبار التي تواترت عن الحملة – في المصادر العربية – هي فقط التوغل في أرض السودان والعودة بالغنائم فليس من المحتمل أن يكون قد حدث بينها وبين مملكة غانة أي احتكاك مباشر.
غير أن هناك رواية ذكرها ابن الفقيه – أثناء حديثه عن نيل مصر – عن أبي الخطاب (ت نحو 145 هـ/762 م) جاء فيها: “قال المشترَى بن الأسود غزوت بلاد أنبية عشرين غزاة من السوس الأقصى ، فرأيت النيل بينه وبين البحر الأجاج كثيب رمل يخرج النيل من تحته.”[50]
ولما كانت حملة عام 116 هـ/ 734م – بقيادة عبد الرحمن بن حبيب أو والده – هي الحملة الوحيدة التي أشارت المصادر إلي دخولها السوس الأقصى والصحراء الغربية “أو السودان” في ذلك الوقت فإن المشترى بن الأسود ربما كان أحد قادة عبد الرحمن بن حبيب في الصحراء.
ومشكلة هذه الرواية أنها لم ترد في المصادر الأخرى التي تحدثت عن حملة السوس الأقصى والسودان ، حتى ابن الفقيه لم يذكرها مرتبطة بحملة السودان بل ذكرها أثناء حديثه عن نيل مصر لأن المشتري أشار إلى النيل. ورواية المشتري عن النيل – الذي قصد به نهر السنغال- كما وردت في النص صورة خيالية جعلت النيل يصب في البحر من تحت كثبان رمل،[51] مما يوحي بأن المشتري لم ير نهر السنغال وإنما سمع عن كثبان الرمال التي تعترض مجراه ربما بالقرب من المحيط.
ولذلك فالشك يحيط بهذه الرواية، ومن ناحية أخرى فلو كان المشترى وصل نهر
السنغال فإن الحملة تكون قد دخلت أودغست عاصمة غانة، وتخطتها جنوبا إلى نهر السنغال الذي يبعد نحو 12 مرحلة أودغست.[52] ولا أعتقد أن مثل هذه الأحداث – لو كانت قد وقعت بالفعل – تسقط عن التدوين في المصادر العربية.
*دولـة أنبيـة*
ترتبت على هذه الحملة نتائج مهمة أدت الى تحول كبير في تاريخ المنطقة
الصحراوية الواقعة بين السوس الأقصى شمالا والمنطقة الواقعة بين نهري السنغال والنيحر جنوبا. فقد أدت الحملة الى إضعاف سلطة مملكة غانا على المناطق الشمالية ، وتحللت القبائل الصنهاجية من نفوذ مملكة غانا لأن حدودها – كما يرى البعض –امتدت شمالا حتى المناطق القريبة من السوس الأقصى. [53]
وتمكنت قبائل صنهاجة من فرض سيطرتها على نهايات الطرق في الشمال ، والإشراف على هذه المناطق يتطلب من هذه القبائل التعاون فيما بينها من ناحية و التنسيق مع مملكة غانا التي تخرج منها الطرق من ناحية أخرى ، ولما كانت مملكة غانا في مرحلة ضعف فقد أُتيحت الفرصة أمام القبائل الصنهاجية للاتحاد، فظهر بذلك الحلف الصنهاجي بقيادة قبيلة أنبية مؤسسة بذلك دولتها في الجزء الغربي من الصحراء الكبرى.
وردت الإشارة الأولى لدولة أنبية في كتاب الفزاري الذي قدمه إلى الخليفة
المنصور (159هـ /775م) ووصل إلينا ما ذكره الفزاري عن أنبية عن طريق البكري [54] و المسعودي[55] حيث وردت مساحة دولة أنبية إلى جانب مساحات الممالك الأخرى. وبلغت مساحة دولة أنبية كما قدرها الفزاري 2500 X 600 فرسخ، وإلى جانبها مملكة غانا التي قدر الفزاري مساحتها ب 1000 X 600 فرسخ.
وقد وردت الكثير من الإشارات – في مصادر القرن الثالث العربية – عن بلاد أنبية وقبيلة أنبية، دون الإشارة إلى دولتها كما ورد عند ابن الفقيه وابن عبد الحكم واليعقوبي. ويبدو أن أقدم إشارة بهذا الصدد هي ما ورد في نص المشتري بن الأسود (أعلاه والذي يفترض اشتراكه في حملة السودان عام 116هـ حيث ذكر أنه غزا ” بلاد أنبية عشرين غزوة من السوس الأقصى، فرأيت النيل [ نهر السنغال] بينه وبين البحر الأجاج [المحيط الأطلسي] كثيب من رمل.”
وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر الذي ألفه في النصف الأول من القرن
الثالث الهجر أن “أهل السوس بطن من البربر يقال لهم أنبية.”[56] وأورد اليعقوبي في كتابه البلدان الذي ألفه في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري أنه من خرج من سجلماسة “يريد أرض السودان يسير في مفاوز و صحراء مقدار خمسين مرحلة ، ثم يلقاه قوم يقال لهم أنبية من صنهاجة في صحراء ليس لهم قرار شأنهم كلهم أن يتلثموا بعمائم …. ثم يسير إلى بلد يقال لها غسْط”.[57] أما ابن الفقيه الذي ألف كتابه في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري فقد ذكر أن “بلاد أنبية من السوس الأقصى على مسيرة سبعين ليلة في براري ومفاوز وأهلها وأهل لمطة أصحاب الدرق”[58].
لم يوضح كل من ابن عبد الحكم و ابن الفقيه إلى أي مجموعة قبلية تنتمي أنبية
بينما وضح ذلك اليعقوبي فذكر أنهم من صنهاجة. و ذكر ابن الفقيه أن موطنهم من السوس الأقصى جنوبا مع قبيلة لمطة. وتقع مناطق لمطة جنوب السوس الأقصى و مدينتهم المشهورة نول تقع على المحيط جنوب وادي السوس.
وهذه المنطقة الواقعة جنوب السوس الأقصى و المتوغلة في الصحراء جنوبا هي منطقة قبيلة لمتونه الصنهاجية المشهورة وبها منزلهم الكبير جبل لمتونة. يقول الإدريسى أن موطن لمتونة و لمطة “الصحارى المجاورة للبحر المظلم وبها قبائلهم إلى الآن” وانهم “إخوان لأب واحد وأم واحدة.[59] فهل أنبية بطن من لمتونة؟
ذكر ابن خلدون أثناء حديثه عن صنهاجة “أن للمتونة فيهم بطوناً كثيرة … وكان
موطنهم في الصحراء … ولم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس ، وكانت الرئاسة فيهم للمتونة واستوسق لهم ملك ضخم منذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل.”[60]
وإشارة ابن خلدون واضحة إلى أن بطون لمتونة هي التي أقامت دولة أنبية في عصر عبد الرحمن الداخل حاكم الأندلس ، وذكر أن الرئاسة في قبائل صنهاجة كانت للمتونة. ولما كانت قبيلة أنبية إحدى قبائل صنهاجة وتعيش في نفس مواطنها كما ورد عند ابن عبد الحكم واليعقوبي ، فلماذا لم يذكر ابن خلدون رئاستها للحلف الصنهاجي بل وضعه تحت قيادة لمتونة؟
في الواقع أنني لم أعثر على ذكر لقبيلة أنبية في غير المصادر التي أشرت إليها
وهي الفزاري الذي نقل عنه البكري والمسعودي وعند ابن عبد الحكم و اليعقوبي
وابن الفقيه. فابن حوقل الذي زار منطقة السوس الأقصى ذكر أنه أعد ما وقع إليه
“من أسماء قبائل صنهاجة وبطونها وأفخاذها وعصبيتهم” فأورد أسماء 19 قبيلة ذكر أنهم من قبائل صنهاجة الخُلص و 26 قبيلة ذكر أنهم من قبائل صنهاجة غير الخُلص لم يرد اسم قبيلة أنبية بين هذه القبائل.[61] أما ابن خلدون فأورد أن مؤرخي البربر ذكروا أن بطون صنهاجة تنتهي إلى 70 بطنا[62] أورد أسماء بعضها ولم ترد بينهم قبيلة أنبية.
لماذا لم يرد ذكر لقبيلة أنبية في مؤلفات ما بعد القرن الثالث الهجري؟ يبدوا أن
قبيلة أنبية كانت قوية وتولت قيادة لمتونة حتى بداية القرن الثالث الهجري ثم
ذهبت القيادة إلى فرع آخر من لمتونة. أما في القرن الثاني الهجري الثامن
الميلادي فقد تولت قبيلة أنبية الزعامة و أقامت دولتها.
تشير المصادر إلى الحلف الصنهاجي بـ “الملك الصنهاجي” وأن هذا الملك كان بقيادة قبيلة صنهاجة. ويلاحظ أن هذا الملك قد انتقل من بطن إلى بطن آخر من بطون لمتونة. فقد كانت رئاسة لمتونة قبل منتصف القرن الخامس الهجري في بطن ورتنطق (أو ورتانطق) ثم انتقلت إلى كندالة بزعامة يحيى بن إبراهيم ، ثم عادت بعده ورتنطق.[63] وفي كل هذه الحالات لم ترد الإشارة – في المصادر العربية – إلى الرئاسة أو الملك تحت اسم البطن الذي تولته ، بل أشارت إليه تحت اسم لمتونة.
فزعامة دولة المرابطين – مثلاً – كانت في بطن ورتنطق لكن الإشارة إلى الزعامة
في المصادر العربية أتت للمتونة وعرفت الدولة باسمها.
والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو الإشارة إلى قيادة أبنبية حيث وردت الإشارة في المصادر العربية المبكرة باسمها ، فعرفت الدولة اللمتونية بدولة
أنبية ، وأشارت إليها المصادر المتأخرة بالملك اللمتوني. فمتى قادت أنبية الحلف
الصنهاجي وأسست دولتها؟
المادة التي وردت عن الحلف اللمتوني – بما في ذلك دولة أنبية – قبل قيام
المرابطين قليلة جدا جاء معظمها في تاريخ ابن خلدون ، فقد تعرض للأخبار الحلف اللمتوني في القرنين الثاني و الرابع الهجريين ونقل عن ابن أبى زرع أخبار الحلف في القرنين الثالث و الرابع. وأورد كل من ابن حوقل و البكري و مؤلف كتاب مفاخر البربر وابن الخطيب وابن ابي دينار أخبار الحلف اللمتوني في القرنين الرابع و الخامس*.*
ذكر ابن خلدون أثناء حديثه عن صنهاجة و بطون لمتونة أن الرئاسة كانت للمتونة.
اقرأ أيضا
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.
أليس لجنرالات حكم الجزائر من يُصحِّيهم
إنه إعصارٌ اندلع هُبوبًا على الرُّقعة العربية من هذا العالم، له جذورٌ في “اتفاقيات سايكس بيكو”، ولكنه اشتدَّ مع بداية عشرينات هذا القرن وازداد حدة في غزة، ضد القضية الفلسطينية بتاريخها وجغرافيتها، إلى أن حلَّت عيْنُ الإعصار على سوريا، لتدمير كل مُقوِّمات كيانها. وهو ما تُمارسُه إسرائيل علانية وبكثافة، وسبْق إصرار، نسْفًا للأدوات السيادية العسكرية السورية.