تقديم
الصراع الدائر على القدس حاليًا لم يكن حدثًا طارئًا معزولاً عن استراتيجية صهيونية اعتمدت سياسة المراحل المتدرّجة وصولاً الى هدفها المركزي في تحقيق يهودية الدولة العبرية ليس على أرض فلسطين و حسب, و إنَّما على المجال الجيوسياسي للمشرق العربي الذي يجمع بين مفاصل بحرية أربعة: من الفرات شرقًا إلى النيل غربًا و من البحر المتوسط شمالاً إلى البحر الأحمر جنوبًا, أي من العراق إلى مصر, و من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام.
ولمّا كانت الصهيونية من حيث هي أيديولوجية استعمارية استيطانية قد تلازمت في نموها ومراحل تطورها مع نموّ مصالح الرأسماليات الغربية وتطوُّرها, فإنَّ المكاسب التي حقَّقتها الصهيونية على طريق إنجاز مشروعها التوراتي التهويدي للقدس وفلسطين وبالتالي لسائر المجال الحيوي للمشرق العربي، هي مكاسب توافرت بفعل الدعم المتواصل لرأسماليات المركز الغربي, والتي تمثَّلت بالثنائية الأنكلو – فرنسية حتى الحرب العالمية الثانية, وبالولايات المتحدة الأميركية التي تبوَّأت سدّة الهرم الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية.
واذا كانت الإدارة البوشية (2000 – 2008) قد أوجدت, من خلال حروبها الاستباقية التي أفضت إلى احتلال العراق (2003)، وإلى حضور عسكري مكثّف ومباشر في الخليج العربي, المناخات الملائمة للمشروع الصهيوني في تحقيقه إنجازات جديدة, فإنَّ الادارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما, والتي جاءت ترفع شعار الدبلوماسية المرنة تجاه التعامل مع قضايا الشرق الأوسط ومنها قضية الصراع العربي – الصهيوني, لم تمثِّل خروجًا عن المسارات السياسية للإدارات الأميركية السابقة, وبالتالي, فإنَّ اعتمادها الدبلوماسية والانفتاح السياسي ليس إلاَّ من باب إعادة ترتيب الأولويات في سياسة أميركا الخارجية, والسعي للحصول على مكاسب أميركية – صهيونية من خلال تكتيكات جديدة قد يتبادر إلى الأذهان أنها متغيِّرات نوعية في السياسة الأميركية ولكنها, في الواقع, ليست سوى تكتيكات مرحلية ظرفية موظّفة في خدمة جملة من الثوابت الاستراتيجية التي يتقاطع عندها المشروعان الرأسمالي الأميركي من جهة, والصهيوني التهويدي في القدس و فلسطين وسائر المشرق العربي من جهة أخرى.
إنّ المعركة التي تدور اليوم حول المسجد الأقصى ليست من جرّاء احتكاك بين مواطن مقدسي فلسطيني مدافع عن أرضه و مقدّساته, وآخر مستوطن صهيوني حملته نزعة الاغتصاب والاستيطان من أماكن بعيدة من العالم, و إنما هي معركة بين تاريخين وجغرافيتين وهويتين مختلفتين تمامًا: بين تاريخ و جغرافيا وهوية لمواطن الاصالة العربية الفلسطينية, و آخر صهيوني دخيل من شذّاذ الآفاق أتى إلى القدس وفلسطين وراح يعمل على إلغاء السمات الحضارية المتميّزة للمدينة المقدسة جاهدًا, من خلال الحفريات في بيت المقدس, أن يقدّم للعالم تاريخًا مزيَّفًا بهدف إعادة تشكيل المدينة بانتاجها يهودية خالصة بعد محو هويتها التاريخية العربية وعروبتها بثنائيتها المسيحية والإسلامية.
وإذا كانت فلسطين قد تحوَّلت، منذ مطالع القرن العشرين، لا سيَّما مع النكبة التي عرفتها في كيانها الجغرافي الاجتماعي – السياسي على أثر الهزيمة التي مُني بها النظام الإقليمي العربي من خلال إفلاسه في منع قيام “الدولة الإسرائيلية” العام 1948، إذا كانت تحوَّلت إلى قضية قومية مركزية تقدَّمت سائر قضايا العرب الأخرى، فإنّ مدينة القدس باتت القضية الأكثر بعدًا في مدلولاتها الصراعية الدينية والأيديولوجية والثقافية والحضارية، وفي تحوُّلها إلى ساحة الاشتباك المركزي بين مشروعين إثنين: مشروع أمبريالي صهيوني – أميركي تقوم استراتيجيته على إلغاء الهوية التاريخية للقدس ولسائر المدن العربية من جهة، وآخر نهضوي عربي تحرري يسعى إلى إستعادة دور المدن – المفاصل كالقدس وبيروت ودمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة وبغداد ومكة وفاس وسواها من جهة أخرى.
في الوقت الذي أجمعت الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام على قدسية القدس كمخزون قيمي ديني تاريخي، إلا أنّ المدينة شهدت مبكرًا وما زالت تشهد حتى الآن صراعات تتجاوز الأبعاد السياسية والدينية أو القومية إلى صراعات أكثر عمقًا وبعدًا من حيث الدلالات الوظيفية للمدينة المقدّسة، دلالات ترتبط بدورها كمدينة ذات مخزون ثقافي عربي – إسلامي تقوم وظيفتها على نشر الرسالة العربية – الإسلامية في العالم أي وظيفتها الإنسانية العالمية، وبين وظيفتها التهويدية المدفوعة بنـزعة تلمودية تقوم على إلغاء الهوية والأرض والذاكرة عند سكانها الأصليين، وإحلال آخرين استيطانيين غرباء مكانهم تأخذ المدينة إلى وظيفة تلمودية مسيطرة تنسجم مع نظرية “شعب الله المختار” لتبرير أيديولوجية التفوق اليهودي وتقاطعاتها مع أيديولوجية الرأسمالية الجديدة في عصر العولمة، أي عصر التنميط الأحادي للعالم اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وتحويله إلى تابع زبائني تنحصر مهمته في خدمة الأقوى الرأسمالي المسيطر والمستأثر بحكم الشعوب والأمم وبثرواتها الطبيعية والإقتصادية والبشرية. من هنا، فإنّ الصراع على القدس لم يكن في الماضي، ولن يكون في الحاضر والمستقبل، صراعًا دينيًا كما يطفو على سطح الأزمة بين العرب والصهاينة، وإنما هو صراع على الأرض والإنسان والهوية، صراع بين أيديولوجية الإجتثاث الصهيونية من جهة، وأيديولوجية الأنسنة العربية المخزونة بقيم التسامح والمساواة والعدالة من جهة أخرى.
يأتي الصراع الجيوسياسي على القدس حاليًا في مقدَّم أنواع الصراعات السياسية والدينية والإقتصادية والثقافية الأخرى وأشكالها. والمقصود بالصراع الجيوسياسي هو ذلك الذي يتركَّز على الإمساك بجغرافية المكان لما لها من أهمية جيوسياسية تضمن التفوُّق والغلبة للقوى المستأثرة بالمكان نفسه والمتحكِّمة بتوظيفاته البعيدة.
كان موقع فلسطين الجغرافي، وموقع القدس فيها، من أهمّ الأسباب لنشوب الصراعات التاريخية بشأنها. فقد شكّل المشرق العربي، وفلسطين جزء منه، وما يزال يشكل حتى اليوم، موقعًا جيو – استراتيجيًا وحضاريًا متميزًا. فهو موقع الاتصال بين حوض البحر المتوسط وامتداداته الأوروبية من جهة، ومنطقة الخليج العربي امتدادًا إلى جنوب شرق آسيا وجنوب الاتحاد السوفياتي السابق (الاتحاد الروسي اليوم) من جهة أخرى. فالمربّع الحيوي الذي يجمع بين مكة المكرّمة (الحجاز) والقاهرة (مصر) وبغداد (العراق) و دمشق (الشّام)، شهد، منذ فجر التاريخ، تمازجًا حضاريًا بين الحضارات المحلية من فرعونية وكنعانية وفينيقية وأمورية وسومرية وبابلية من جهة، والحضارات الوافدة من فارسية وإغريقية ورومانية من جهة أخرى.
كان موقع فلسطين من المربع الحيوي المشار إليه، نقطة الاستهداف المركزي المبكر للحركة الصهيونية التي وُلدت من رحم الرأسماليات الغربية الأوروبية في صعودها الخطي الذي بدأت تشهده مع مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي تمثَّل بجملة من التطورات النوعية على مستوى الإقتصاد الصناعي – النقدي ومتطلباته في المراكمات الرأسمالية المستمرة سواء في السيطرة على أسواق لتصريف الفائض الإنتاجي في مستعمرات تابعة لها أم في توفير احتياجاتها الصناعية من المواد الخام المتوافرة في أراضي تلك المستعمرات.
من هنا، فإن الإسترجاعية التاريخية أي العودة إلى أرض “الميعاد” التي حملت لواءها الصهيونية المنتجة رأسماليًا أوروبيًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وأمبرياليًا أميركيًا بعد تلك الحرب، ليست سوى إسقاطًا أيديولوجيًا لتبرير النـزوع الصهيوني نحو إجتثاث سكان القدس وفلسطين واقتلاعهم كهوية وذاكرة تاريخية، من أجل الإمساك بمركزية المجال الجيواستراتيجي للقدس وفلسطين تمهيدًا للإنطلاق نحو الإمساك بكل المربع العربي الذي يجمع بين أرض شبه الجزيرة العربية ومصر والعراق و الشام، وهو المربَّع الذي ينسجم مع مقولة الصهيونية التلمودية في إقامة “إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل”.
تحاول هذه الدراسة أن تحلِّل الأبعاد الجيواستراتيجية للسياسة الصهيونية تجاه تهويد مدينة القدس، وذلك بالتوقُّف عند أنماط التهويد الجغرافي (الأرض) والديموغرافي (الإنسان) والتاريخي الحضاري (الهوية والثقافة).
أما المنهج الذي تعتمده الدراسة فهو منهج التاريخ الإجتماعي لما هو منهج دينامي حراكي تطوري يقوم على تفحص أسباب الظاهرة في طور التكوين والتشكل، مرورًا برصد حركة الظاهرة في الواقع، أي أشكال نموها وتطورها مكانيًا وزمانيًا وصولاً إلى إستنتاج الدلالات التي تتركها في هذا الواقع حاضرًا ومستقبلاً.
القدس في استراتيجية التهويد الصهيوني
استراتيجية التهويد هي عملية اقتلاع الشعب الفلسطيني ليس من أرضه وحسب، وإنما فصله كليًّا عن تاريخه ومحو ذاكرته الثقافية التي نسجها عبر قرون طويلة من الزمن. وإذا كانت الجغرافية (الأرض) قد شكّلت المسرح الحياتي للجماعة العربية الفلسطينية، وإذا كان التاريخ أيضًا قد شكَّل ذاكرة هذه الجماعة وهويتها الحضارية، فإنّ التهويد الصهيوني جاء ليكون قطعًا فاصلاً بين الجغرافيا والتاريخ أي بين الأرض وإنسانها، وبالتالي تصدير هذا الإنسان إلى الفراغ ورميه في المجهول. على قاعدة هذه الغائية الصهيونية المرسومة في استراتيجية التهويد، تحدَّدت طبيعة الصراع العربي – الصهيوني على القدس وفلسطين، بحيث لم يكن في حقيقته صراعًا دينيًا أو اجتماعيًا أو حضاريًا أو تنازعًا حدوديًا أو اقتصاديًا، وإنما كان وما زال، صراعًا بين الإلغاء والبقاء، بين مستوطن صهيوني اغتصابي من جهة، ومواطن عربي فلسطيني متشبِّث بأرضه ومدافع عن هويته ووجوده من جهة أخرى(1).
إرتكزت استراتيجية التهويد الصهيوني إلى مسارين متلازمين من حيث الأهداف والنتائج: الأول، ظرفي سياسي ويتمثَّل بالأسرلة أي إضفاء الطابع الإسرائيلي على فلسطين المحتلة إداريًا وديموغرافيًا وسياسيًا، والثاني، استراتيجي أيديولوجي ويتمثل بالتهويد أي إقامة المجتمع والدولة اليهوديين كترجمة توراتية لتحقيق نبوءات دينية مزعومة تدور حول مقولتي “الأرض الموعودة” و”شعب الله المختار”(2).
هاتان المقولتان لم تتحوَّلا إلى مصدر للتثقيف الأيديولوجي لدى حاخامي الكنيس اليهودي وحسب، بل وُظِّفتا على نطاق واسع في الخطاب السياسي العلماني للزعماء العلمانيين والملاحدة الذين لا يؤمنون بالدين، لكنهم رأوا في الأدلجة الدينية لقضية الصهيونية “أنّ مفاهيم (الشعب المختار) والأرض الموعودة لو أُلغيت، لانهار أساس الصهيونية”(3).
تجلَّى التوظيف السياسي للمقولتين المذكورتين في التصريحات والخطب الحربية لغير مسؤول قيادي في الكيان الصهيوني منذ قيامه العام 1948. فقد وصف رئيس الوزراء “ليفي أشكول” احتلال إسرائيل للقدس الشرقية في حرب 1967 “بالعودة” إلى المدينة التوراتية التي ظلَّت، بحسب رأيه، في الانتظار ألفي سنة متشوِّقة إلى عودة اليهود إليها. أما وزير الدفاع “موشيه دايان” وهو العلماني متحدي المؤسسة الدينية اليهودية فكان أكثر دلالة في تصريحه لحظة وصوله إلى حائط البراق في القدس القديمة، أي القدس الشرقية، بعد احتلالها العام 1967، حيث قال: “لقد عدنا إلى أقدس مواقعنا، ولن نتركه مرة ثانية”. والأمر نفسه عبّر عنه رئيس الحاخامين في جيش الدفاع الإسرائيلي الجنرال غورين، ألذي أصرّ على تأدية الصلاة في ساحات الحرم القدسي الشريف في 16 آب/أغسطس 1967 غير مكترث بالفتوى الدينية الصادرة عن الحاخامية العليا في إسرائيل، بل راح يشدِّد على المطالبة ببناء كنيس يهودي في الحرم نفسه. هذا، وكان الحاخام نسيم قد أصدر فتوى أعلن فيها قدسية سور الحرم من جهاته الأربع مشيرًا بذلك إلى قدسيته اليهودية(4).
لقد تلازمت الأيديولوجيا والسياسة في المراحل كلها التي قطعها المشروع الصهيوني منذ ولادته المبكرة في نهايات القرن التاسع عشر وحتى إنجازه قيام “الدولة الإسرائيلية” العام 1948، والتي هي حجر الزاوية في قيام الدولة اليهودية على كامل المساحة الفاصلة بين النيل والفرات. من هنا كانت الأسرلة بمنزلة المرحلة التمهيدية لبلوغ اليهودية الخالصة. وبمقدار ما كانت الأسرلة في خدمة اليهودية التوراتية بمقدار ما كانت أيضًا اليهودية التوراتية كأيديولوجية دينية في خدمة الأسرلة كاجتماع سياسي في إطار الدولة الإسرائيلية التي ظهرت العام 1948، والتي أبقت جغرافيتها السياسية مفتوحة وقابلة للتوسع عبر مراحل، بحيث كان الرابط دائمًا بين المرحلة والحرب، وهذا ما يظهر جليًا من خلال سلسلة الحروب التي لجأت إليها إسرائيل والتي بلغت ست حروب بين 1968 و2006 عدا عن الاجتياحات والأعمال الحربية اليومية التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وضد الشعب اللبناني في الجنوب والبقاع، وكذلك مخيمات اللاجئين المنتشرة في غير منطقة لبنانية.
القدس بين الأسرلة والتهويد
إذا كانت الاستراتيجية الصهيونية قد جعلت من فلسطين كلها هدفًا ثابتًا في إضفاء الطابع الإسرائيلي – اليهودي المهيمن على مختلف مناحي الحياة، والأرض، والثقافة، والمؤسسات الدينية وسواها، فإنّ منزلة القدس – “قلب العقيدة” في الأيديولوجية الصهيونية – ظلَّت تمثل خصوصية متقدِّمة على غيرها من الخصوصيات الأخرى في المشروع الصهيوني باعتبار المدينة المقدّسة مركز الانطلاق نحو أي مشروع استراتيجي يتجاوز مساحة فلسطين إلى مساحة المشروع التلمودي – التوراتي الهادف إلى تحقيق “إسرائيل الكبرى” من الفرات إلى النيل.
تركّز الاهتمام الصهيوني على أسرلة القدس وتهويدها منذ أن سيطرت إسرائيل على القسم الغربي من القدس في إبان حرب 1948. فقد أحدثت سلطات الاحتلال تغييرًا جذريًا على صعيد جغرافية هذا القسم المحتل من المدينة وديموغرافيته.
تجلَّت عملية الأسرلة والتهويد لهذا القسم على أكثر من مستوى كان أبرزها ثلاثة:
الأول، على المستوى الإداري ظهر إسم “أورشليم”(5) في مسعى تهويدي واضح للمدينة من خلال اللجوء إلى استعادة إسمها التوراتي كما ورد في العهد القديم. وبذلك باتت القدس الغربية جزءًا من التنظيم الهيكلي الإسرائيلي إداريًا ومؤسساتيًا وتربويًا وعمرانيًا.
الثاني، التهويد العقاري بهدف إضفاء الطابع اليهودي على جغرافية المدينة، وذلك من خلال أساليب متعدِّدة من الإستيلاء والمصادرة وإكراه أصحاب الملكيات من العرب على بيع أراضيهم. وبعد أن كانت الملكيات العربية بعد حرب 1948 مباشرة تشكل حوالى 34% من إجمالي الأراضي المملوكة من الشطر الغربي من القدس مقابل 30% فقط لصالح الملاّك اليهود(6)، لم تلبث سلطات الاحتلال أنْ نجحت في إنجاز التهويد الكامل للأراضي محوّلة المواطنين العرب إلى لاجئي شتات خارج ديارهم وأراضيهم محقِّقة بذلك التهويد الجغرافي للشطر الغربي من المدينة والذي بلغت مساحته 16261دونمًا العام 1948 أي ما يشكل حوالى 84% من إجمالي مساحة القدس الكلية آنذاك(7). إلا أنّ هذه المساحة لم تلبث أن سجلت إرتفاعًا مستمرًا حتى وصلت إلى 52600 دونم العام 1993 أي بزيادة تضاعفت 3.2 مرات(8) عما كانت عليه العام 1948.
الثالث، التهويد السكاني أي الوصول إلى مجتمع مقدسي (القدس الغربية) يكون يهوديًا خالصًا. وتحقيقًا لهذه الغاية، إعتمدت السلطات الإسرائيلية سياسة تقوم على اتجاهين متعاكسين: تعزيز العنصر اليهودي كوجود إجتماعي اقتصادي وسياسي في هذا الجزء من المدينة مقابل الطرد الإكراهي للعنصر العربي الفلسطيني إلى الخارج. على قاعدة الجذب والطرد في السياسة المشار إليها أخذ المؤشر السكاني لليهود يسجل صعودًا خطيًا بحيث ارتفع العدد من 99400 يهودي قبيل حرب 1948 إلى 166300 العام 1961(9) وإلى 195 ألفًا العام 1967 وصولاً إلى 330 ألفًا العام 1997(10) أي بنسبة زيادة بلغت 240% خلال نصف قرن أي 50 سنة مضت على الاحتلال.
الأسرلة المكثّفة للقدس (Israelisation) بعد حرب 1967
سرعان ما كشفت إسرائيل عن الأهداف الحقيقية من حربها الثالثة مع البلاد العربية (5 – 11 حزيران/يونيو) 1967، والتي عرفت بحرب الأيام الستة، حيث تمكَّنت القوات العسكرية الإسرائيلية من إلحاق الهزيمة بثلاث دول عربية هي: مصر، الأردن وسوريا، وتمكَّنت، بالتالي، من احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية، والجولان السورية، والضفة الغربية التي كانت تابعة للإدارة الأردنية ومنها القدس الشرقية العربية، إضافة إلى قطاع غزة الذي كان تابعًا للإدارة المصرية.
لجأت إسرائيل إلى تنفيذ سلسلة من إجراءات الضم كانت أكثر تركيزًا حول الشطر الشرقي من القدس والذي كان شطرًا عربيًا خالصًا وخاليًا من أي وجود يهودي قبل الحرب المذكورة. كان الهدف المركزي لإسرائيل من ضم الشطر العربي من القدس يكمن “في إعادة توحيد القدس تحت لواء إسرائيل وجعلها من ثم عاصمة أبدية لها (Interncapital). ولفرض سيطرتها على كامل المدينة قامت سلطات الاحتلال بتنفيذ مشروع الأسرلة (Israelisation) الشامل للمدينة استجابة لمشروع إسرائيل السياسي والأيديولوجي المتمثل في إسرائيل الكبرى”(11).
طالت عملية الأسرلة الشاملة سائر مكوّنات المدينة المقدّسة بحيث جاءت لتحدث انقلابًا جذريًا في واقع تلك المكوّنات يلغي خصوصياتها العربية الإسلامية التاريخية، ويثبِّت خصوصيات يهودية بديلة عنها. من هنا كان التلازم بين الأسرلة والتهويد بمنزلة التلازم بين الإنجاز والنتيجة في عملية تكاملية تصب في النهاية في خدمة المشروع الصهيوني في إقامة الدولة اليهودية التوراتية.
أما مستويات الأسرلة والتهويد فكانت عديدة أبرزها ستة أساسية:
الأول، تهويد السلطة (الحكم والإدارة)
كانت الخطوة التأسيسية في مباشرة المخطط التهويدي الشامل للقدس العربية قد تمثَّلت بالإمساك بمفاصل السلطة في المدينة، لذلك لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى سلسلة من الإجراءات الإدارية أوكلت مهمة تنفيذها إلى السلطات العسكرية التي أسقطت المدينة في قبضتها بعد يومين فقط على بدء عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967. أبرز هذه الإجراءات كانت:
1- تنصيب حاكم عسكري إسرائيلي على المدينة تحوَّل إلى مرجعية للسلطة تولَّت شؤون الأمن والإدارة والقضاء فيها. وكان الأمر العسكري الأول لحاكم القدس قد قضى بإعلان المدينة منطقة عسكرية خاضعة لأحكام جيش الدفاع الإسرائيلي.
2- في 8 حزيران/يونيو، أي في اليوم التالي لاحتلال القدس، كان الحاخام شلومو غورين – حاخام جيش الدفاع الإسرائيلي آنذاك – يتوسط مجموعة من أبناء الجيش بالقرب من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف أو حائط البراق (حائط المبكى)، إذ راح يقيم شعائر الصلاة اليهودية معلنًا تحقيق حلم الأجيال اليهودية “فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية” (12). كان هذا التصريح هو الأول الذي يعلن القدس عاصمة سياسية للدولة الإسرائيلية، الأمر الذي يفسِّر مدى الاهتمام الإسرائيلي بالإسراع بعملية التهويد السياسي – الإداري للمدينة.
3- في 27 حزيران/يونيو، أي بعد مرور أقل من ثلاثة أسابيع على احتلال القدس العربية، أجاز الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) لوزير الداخلية، صلاحية توسيع حدود أي مدينة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وإخضاع الجزء المضاف للتشريعات الإسرائيلية وليس للتشريعات التي كانت سائدة قبل الاحتلال. ففي اليوم التالي، أي 28 حزيران/يونيو كانت الترجمة التنفيذية لقرار الكنيست حيث صدر عن وزير الداخلية القراران التاليان: الأول، ويقضي بقيام القدس الموحَّدة أي بضم شطري القدس الغربي المحتل العام 1948، والشرقي العربي المحتل العام 1967، الثاني، التوسيع الإداري للنطاق البلدي للقطاع اليهودي من المدينة بحيث يشمل القدس القديمة وضواحيها، أي القطاع العربي الذي يقع ما بين المطار وقرية قلنديا شمالاً وحدود الهدنة غربًا، وقرى صور باهر وبيت صفافا جنوبًا، وقرى الطور والعيسوية وعناتا والرام شرقًا(13).
4- في 29 حزيران/يونيو أبلغت الشرطة العسكرية روحي الخطيب، أمين القدس العربية (رئيس البلدية)، وأعضاء المجلس البلدي عن حلّ البلدية وإلحاق موظفيها وعمالها ببلدية القدس الغربية اليهودية(14). كان قرار التوحيد البلدي للقدس بشطريها من أهم الخطوات التهويدية للسلطة لأنه جاء ليطال تهويد السلطة القاعدية المتمثلة بالسلطة البلدية المحلية، والتي تعتبر الركيزة التهويدية لسائر مستويات السلطة في الهرم الإداري والسياسي العام.
5- في 29 حزيران/يونيو أمرت سلطات الاحتلال العسكري برفع جميع الحواجز التي كانت تفصل بين قطاعي القدس، وبدأ التنقل والانتقال داخل المدينة من دون الحاجة إلى تصاريح رسمية(15).
6- إصدار الحكومة الإسرائيلية “أمر القانون والنظام الرقم (1) لسنة 1967″، وأخضعت بموجبه تنظيم القدس للقوانين والنظم الإدارية الإسرائيلية(16).
7- تركيز المؤسسات السياسية والإدارية الإسرائيلية في القدس العربية. فقد تم نقل عدد من الوزارات والدوائر الرسمية إليها، ومنها محكمة العدل العليا – وزارة العدل – مقر رئاسة الشرطة – مكاتب الهستدروت – وزارة الإسكان – مكاتب المؤتمر الصهيوني – مقر رئاسة الوزراء.
8- في 30 تموز/يوليو 1980، وبعد ثلاثة عشر عامًا على احتلال القطاع الشرقي من القدس، أصدرت الحكومة الإسرائيلية “القانون الأساسي للقدس الموحَّدة” الذي أكّد على أنّ المدينة بشطريها الغربي والشرقي هي عاصمة موحَّدة لإسرائيل ومقرًا لرئاسة الدولة والحكومة والكنيست والمحكمة العليا(17).
لم يكن قرار 30 تموز/يونيو 1980 بإعلان القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل إلا تدليلاً على هدف مركزي استراتيجي للحركة الصهيونية في سعيها إلى طمس الجغرافية السياسية لمدينة القدس العربية ولتاريخها السياسي، الذي هو جزء متكامل مع التاريخ السياسي لفلسطين ولسائر المنطقة العربية المجاورة.
هذا، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد طلبت من غير دولة عالمية بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة. وقد نفَّذ بعض الدول المرتبطة بالدوائر الإمبريالية الأميركية والصهيونية هذا الطلب على الرغم من المواقف المعارضة، لا سيما من جانب الأمم المتحدة ومن جانب منظمات عالمية عديدة رأت في الطلب الإسرائيلي خروجًا على نصوص القانون الدولي.
9- تهويد القضاء بنقل مقر محكمة الإستئناف العربية من القدس إلى رام الله، وفك ارتباط القضاء النظامي في مدينة القدس عن الضفة الغربية، وإلحاق مواطني القدس بالمحكمة الشرعية في مدينة يافا المحتلة منذ العام 1948، وتطبيق القوانين الإسرائيلية الجزائية والضريبية على المقدسيين العرب وإخضاعهم للقضاء الإسرائيلي من دون غيره(18).
10- العام 2001 أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون أمرًا إداريًا يقضي بإغلاق عشر مؤسسات من بينها بيت المشرق، الغرف التجارية وجمعية الدراسات العربية بمراكزها كافة ومركز أبحاث الأراضي، ومركز الخرائط، الأمر الذي أدّى إلى إفراغ مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني داخل القدس وساعد على رحيلها عن المدينة وقد فاق عددها المئة مؤسسة.
الثاني: التهويد الجغرافي (تهويد الأرض)
شكَّلت مسألة الإمساك بالأرض نقطة الإرتكاز في المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة “الوطن القومي اليهودي” و”الدولة اليهودية” انطلاقًا من فلسطين. فالأرض والاستيطان باتا الشرطين المعيارين الحاسمين ليس فحسب في الترجمة التنفيذية للمشروع المشار إليه، وإنما في تأمين استمراره وبالتالي، في تحويله إلى واقع مادي مفروض على المنطقة العربية كواقع دخيل ووافد إليها من الخارج.
أدى الاحتلال العسكري وظيفة مزدوجة: الأولى حربية في دفع الجيوش العربية إلى التراجع والهزيمة في حربي 1948 و1967، والثانية إستئثارية في السيطرة على الأراضي العربية المحتلة وتصرفه كمرجعية للسلطة التي راحت تتحكَّم في إدارة تلك الأراضي وفقًا لحاجات الاحتلال ومستلزمات مشروعه الاستراتيجي في إقامة الوطن القومي والدولة اليهوديين.
مع خضوع الضفة الغربية والقدس الشرقية إحدى مدنها الرئيسة، للإحتلال الإسرائيلي المباشر بعد حرب حزيران/يونيو 1967، أصدرت سلطات الحكم العسكري أكثر من ألف من الأوامر العسكرية طالت مختلف جوانب الوضع في المناطق المحتلة وفي مقدمها مسألة الأراضي وحقوق الملكية وكيفية التصرف بها(19).
كان الأمر العسكري الرقم (58) لسنة 1967، “بشأن الأموال المتروكة – الممتلكات الخصوصية”، أول أمر تستخدمه سلطات الاحتلال للإستيلاء على أجزاء كبيرة من الأرض في الضفة الغربية. عرّف هذا الأمر الأراضي المتروكة بأنها تلك التي تعود إلى مالك قانوني، أو متصرِّف حسب الأصول، كان قد غادر الضفة الغربية قبل تاريخ السابع من حزيران/يونيو 1967، أو خلاله أو بعده. فقد نصّ الأمر على تعيين “مسؤول” يتولَّى التصرف بهذه الأراضي إلى حين عودة صاحبها الأصلي. أما المسؤول فأعطاه الأمر “صلاحيات واسعة، واعتبره شخصية قضائية ويجوز له أن يرتبط بعقود، أن يتصرف بأموال، أن يديرها، أو يؤجرها لمدة طويلة أو قصيرة، أن يشتري منقولات أو يبيعها”(20). وبذلك أتاح الأمر للمسؤول أن يتصرَّف في الأملاك التي باتت في حوزته بحرية تماثل حرية الملكية المطلقة، ووصل به الإمتياز أنه في حال عودة أصحاب الأراضي المغادرين لم يستطع هؤلاء استرداد أملاكهم وفي أحسن الحالات لا يعرض عليهم سوى تعويض شكلي(21).
وفي حين أجاز الأمر العسكري الرقم (59) لسنة 1967 التصرُّف في الأراضي المصنَّفة أملاكًا حكومية، ألغى الأمر العسكري الرقم (291) لسنة 1969 الإجراءات السابقة الخاصة بتسوية الخلافات بشأن الأراضي عن طريق محاكم التسوية التي كانت تقرِّر ملكية الأراضي، بصورة نهائية، وتسجيلها في دائرة تسجيل الأراضي. كما أصدر الحاكم العسكري أوامر عديدة أخرى تتيح الإستيلاء على الأراضي المحتلَّة بصورة غير مباشرة، تمهيدًا لإقامة المستعمرات عليها. فالمادتان 2 و70 من “الأمر بشأن تعليمات الأمن” لسنة 1967 منحتا القائد العسكري سلطة إعلان “مساحات مغلقة” ومنع دخولها أو الخروج منها من دون تصريح. والعام 1979 أصدر حاكم الضفة الغربية العسكري الأمر الرقم (811)، الذي مدّد بموجبه فترة وكالة شراء الأراضي، غير القابلة للنقض، من خمسة أعوام إلى عشرة فإلى خمسة عشر عامًا. وفي 16 أيلول/سبتمبر 1979، وافقت الحكومة الإسرائيلية، من دون أي معارضة، على مشروع قرار يسمح للأفراد والشركات الإسرائيليين بشراء الأراضي في المناطق المحتلة(22).
في الحقبة الليكودية (1977-1984) تسارعت وتيرة الإستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد أعلن الليكود على الملأ أن “من حق الشعب اليهودي الإستيطان في يهودا والسامرة”، واعتبر أن “حاجات الأمن القومي، بمعناه الواسع”(23)، هي التي تكمن وراء الاستيلاء على الأراضي، وأنه من “حق” الحكومة الإسرائيلية أن تتصرَّف في إدارة الأراضي وفقًا لمتطلبات الأمن الاحتلالي العسكري والاستيطاني والاقتصادي وما إلى ذلك. هذا, وكانت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة قد اطلقت العنان لعدد من الشركات العقارية الوهمية للاستيلاء على الأراضي العربية في القدس. كما انشئت وحدة خاصة تسمّى وحدة “أيعوم”التي كانت خاضعة لما يسمّى إدارة أراضي إسرائيل. أدَّت الشركات الوهمية ووحدة “أيعوم” الدور الابرز في الاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي القدس العربية باساليب شتّى جمعت بين الإكراه و المصادرة.
كانت الترجمة العملية للأوامر العسكرية قد تمثَّلت بتعدُّد آليات الاستيلاء على الأراضي. أبرز هذه الآليات كانت(24):
1- الأراضي الحكومية، أي الأراضي التي كانت في عهدة الحكومة الأردنية قبل الاحتلال، اعتُبِرت في أعقاب الاحتلال مباشرة من ملكيات الدولة الإسرائيلية.
2- الأراضي المتروكة، أي أراضي اللاجئين الذين فرّوا هلعًا من منظمات الإرهاب الصهيوني.
3- الاستحواذ الإجباري على الأرض وفقًا لتشريعات القانون الإسرائيلي للعام 1967 والقانون الأردني بعد تعديله العام 1980.
4- الشراء من الملاّك العرب لصالح الأفراد والشركات الإسرائيلية.
5- المصادرة لأغراض عسكرية.
6- الإغلاق لأغراض عسكرية.
تشير الإحصاءات إلى أن 41% من أراضي الضفة الغربية تم الإستيلاء عليها بحلول العام 1984، وإذا ضُمَّت إليها المناطق الإضافية التي فُرضت عليها قيود الإستخدام والدخول إليها، يكون المجموع 52%(25). وهناك تقديرات بأن 8.8% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة تمّ الاستيلاء عليها بين كانون الثاني/يناير 1988 وحزيران/يونيو 1991. وفي شهر واحد فقط (كانون الثاني/يناير 1995) تم الاستيلاء على 1.5%(26). وثمة تقديرات إجمالية تشير إلى أنّ نحو 60% من الضفة الغربية جرى الاستيلاء عليها بحلول منتصف العام 1991، مع مساحة إضافية كبيرة عرضة لقيود الاستخدام والوصول إليها تكاد تصل إلى نزع كامل للملكية من أصحابها من المواطنين العرب الفلسطينيين(27). ففي شهادة أدلى بها عضو الكونغرس الأميركي “جون بريانت” في تموز/يوليو 1991، جاء فيها أن “إسرائيل استولت على 200.000 إيكر من الأرض في الضفة الغربية بين أول زيارة قام بها بيكر (وزير الخارجية) لإسرائيل في آذار/مارس وزيارته الثانية في نيسان/ابريل(28)، أي في غضون شهر واحد فقط بعد الحرب التي شنَّتها الولايات المتحدة على العراق تحت إسم “عاصفة الصحراء”، وقد اعتُبر الرضى الأميركي على الإستيلاء المشار إليه بمنزلة مكافأة أميركية لإسرائيل وتعويضًا لها عن الصواريخ العراقية التي أُطلقت باتجاهها خلال الحرب المذكورة.
القدس أمام أساليب الاستيلاء على الأرض
كانت القدس الشرقية ومحيطها الجغرافي المجاور أكثر المناطق المحتلة التي ركّز فيها الاحتلال إجراءاته في الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي استجابة لمتطلبات الاستيطان الذي راح يتكثَّف في القدس وحولها من حيث التوسع في خارطة المستعمرات الاستيطانية من جهة، أم من حيث الأحجام المرتفعة في أعداد المستوطنين بهدف تأمين غلبة ديموغرافية واضحة للسكان اليهود مقابل العرب الفلسطينيين من جهة أخرى.
كان القانون الإسرائيلي النافذ بعد حرب حزيران/يونيو 1967 مباشرة، الأسلوب الأكثر اعتمادًا “بشأن الاستيلاء قسرًا على الأرض للمقاصد العامة”، وهذا يعني من الناحية الفعلية غرض الاحتفاظ بها “احتفاظًا دائمًا في ملكية الدولة اليهودية: وبذلك يمكن استخدامها لغرضٍ عام أو خاص، لكن لا يجوز أن يشغلها غير اليهود”(29).
بدأت إسرائيل بمصادرة الأراضي داخل القدس العربية منذ الساعات الأولى لاحتلالها العام 1967. أما الأحياء والمناطق التي طالتها المصادرة فهي(30):
– منطقة الحي اليهودي في القدس القديمة (البلدة القديمة) وهو كان مقطونًا من العرب ولم يكن فيه أي أثر لوجود يهودي.
– حي المغاربة، منطقة جبل سكوبس، أراضي قرية بيت صفافا، وشرفات، وبيت جالا، أراضي منطقة النبي يعقوب، أراضي منطقة الشيخ جراح، أراضي منطقة شعفاط، أراضي قرية صور باهر وأراضي منطقة قلنديا.
– زيادة المساحات المصادرة في منطقة بيت جالا، والنبي يعقوب، وعناتا، والعيزرية، والنبي صموئيل.
– إصدار تشريعات وقوانين إسرائيلية قضت بمنع البناء في مساحات واسعة شملت مختلف مناطق المدينة. كما أعلنوا عن مناطق أخرى كمساحات خضراء غير قابلة للبناء عليها.
تعكس المؤشرات الرقمية، على الرغم من قلتها بسبب سياسة الإخفاء والتكتُّم المعتمدة من قبل السلطات الإسرائيلية، المدى الذي بلغته عملية التهويد الجغرافي للقدس العربية وللمناطق المحيطة بها. فقد بلغت المساحات المصادرة من المدينة منذ احتلالها العام 1967 أكثر من 56000 دونم من أصل 63000 دونم(31) هي مساحة القدس العربية حسب الحدود البلدية قبل تنفيذ مخطط التوسعة بعد توحيد شطري المدينة وصولاً إلى “القدس الكبرى”. دفعت البلدة القديمة في القدس ضريبة الاستيلاء من أرضها التاريخية، فمن مجموع 40 دونمًا مملوكًا لليهود قبل العام 1948 قامت سلطات الاحتلال بعد حرب 1967 بمصادرة نحو 250 دونمًا تمثل حوالى 26% من إجمالي المساحة الكلية للبلدة، يضاف إليها 30 دونمًا من الأحياء الإسلامية الملاصقة للمسجد الأقصى(32). وبذلك لم يبقَ من مساحة القدس الشرقية سوى 7000 دونم، وهي مساحة غير كافية للبناء أو التوسع في البناء، لا سيما وأنّ قسمًا كبيرًا منها مخصَّص كمساحات خضراء وحدائق ومرافق عامة أخرى. وقد وضع هذا الواقع الفلسطينيين أمام مأزق سكني وإسكاني عبّرت عنه الكثافات السكانية العالية في الغرفة الواحدة(33).
أما الأراضي التي خضعت لقانون “الاستحواذ الإجباري” الذي تأثَّرت به القدس العربية من دون غيرها، فزادت مساحتها عن ألفي هكتار أي ما يعادل 20000 دونم، في حين سجَّلت المساحات المصادرة من المدينة ومحيطها أكثر من 97864 دونمًا حتى منتصف العام 1979(34).
لقد أحدثت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلالها للقطاع الشرقي من القدس، أي القدس العربية، في إبان عدوان حزيران/يونيو 1967، تغييرًا عميقًا في الواقع الجغرافي للمدينة. تمثَّل هذا التغيير في تزايد الأحجام المساحية التي عرفتها المدينة، والتي ارتفعت من 3091 دونمًا العام 1949 إلى 6500 دونم العام 1967 ثم توسَّعت لتصل إلى 70400 دونم العام 1993(35)، ولتؤلف مع القدس الغربية (القطاع اليهودي المحتل العام 1948) “القدس الكبرى” وفقًا لمخطط هيكلي أقرته بلدية القدس (اليهودية) والذي ترافق مع إعلان ضم القطاع الشرقي إلى “السيادة الإسرائيلية” في 30 تموز/يوليو 1980، حيث قضى المخطط الجديد بإضافة 50كلم2 إلى المدينة الموحدة من أراضي الضفة الغربية المحتلة.
إلا أنّ هذه التوسعة للمجال الجغرافي للقدس لم تكن لتستجيب لحاجات التطور الطبيعي لسكان المدينة، وإنما أتت استجابة لحاجات الاستيطان الصهيوني في استقباله لمستوطنين وافدين من الخارج مقابل دفع العرب من سكان المدينة إلى المغادرة والتحوُّل إلى لاجئي مخيَّمات معزولة عن أرضها وتاريخها. كل ذلك كان يتم وما يزال في ضوء استراتيجية صهيونية تقوم على تهويد القدس من خلال إضفاء الطابع اليهودي كبديل إلغائي لطابع المدينة العربي الإسلامي الذي عرفته لأكثر من أربعة عشر قرنًا متواصلة.
الثالث: التهويد الديموغرافي (تهويد الإنسان)
السلطة والأرض والجماعة البشرية ثلاثة مرتكزات أساسية في استراتيجية الصهيونية لإقامة الدولة اليهودية البديلة في فلسطين(37). فإذا كانت الحروب قد مثَّلت الخيار الحاسم لدى الصهيونية في الاستيلاء على الأرض وإقامة سلطة الاحتلال عليها، فإنّ الاستيطان الصهيوني كان وما زال بمنزلة الحلقة المركزية في تكامل حلقات التهويد في القدس وسائر فلسطين.
لعلّ أول صيغة محدَّدة لاستراتيجية الاستيطان الصهيوني هي تلك التي بلورتها “الهاغاناه” العام 1943، والتي جاء فيها، “ليس الاستيطان هدفًا بحد ذاته فحسب، إنه أيضًا وسيلة الاستيلاء السياسي على البلد (فلسطين). ولذلك يجب السعي، في آن، من أجل إقامة المستعمرات العبرية سواء وسط مراكز البلد السياسية والاقتصادية أو بالقرب منها أو حولها، أو في تلك النقاط التي يمكن استخدامها مواقع طوبوغرافية مشرفة أو مواقع رئيسة من ناحية السيطرة العسكرية على البلد والقدرة على الدفاع الفعّال، وإن كانت أهميتها الاقتصادية قليلة”(38).
الاستيطان ليس، فحسب، هو مجرد إقامة يهود غرباء وافدين من الخارج على أرض فلسطين، وإنما كان يتحول تدريجًا إلى بديل إلغائي سكاني وثقافي وتاريخي لأهل الأرض الأصليين أي للعرب الفلسطينيين، وطردهم إلى الخارج، وتحويلهم إلى لاجئي شتات من دون هوية وطنية أو ذاكرة تاريخية. لذلك، فإن قيام “دولة إسرائيل” كترجمة عملية لمشروع صهيوني وضعت خطوطه الأولية في الغرب الرأسمالي في أواخر القرن التاسع عشر، لم يتم في سياق “تطور إجتماعي سياسي طويل لجماعة محلية مستقرة تاريخيًا في مدن فلسطين وقراها، راحت تعي بالتدريج نفسها كأمة إزاء “باب عال” يسيطر عليها وإزاء أهلين عرب يعيشون في جوارها. فباستثناء الجماعة الفلسطينية اليهودية التاريخية الصغيرة (والناطقة بالعربية أصلاً)، فإنّ “ألييشوف” الذي نما في ظل الانتداب البريطاني، وكوّن في ما بعد دولة إسرائيل، كان في الأساس جماعة من المهاجرين الوافدين من أوروبا. وعلى هذا، فإن إسرائيل مَدينة بوجودها لظاهرة خارجية بالنسبة إلى المنطقة، وهذه الظاهرة هي، بالتأكيد، الصهيونية”(39).
تزامنت موجات الاستيطان إلى فلسطين مع الدعوات المبكِّرة للحركة الصهيونية المدعومة من الرأسماليات الغربية. بدأت تلك الدعوات مع مطالع الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وتواصلت في ظل الإنتداب البريطاني بحيث شكّلت الخلايا النائمة في فلسطين سرعان ما ظهرت على شكل فرق مسلحة ومنظمات إرهابية أدَّت الدور الأكبر في احتلال القسم الأكبر من فلسطين بعد تمكُّنها من طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني في حرب 1948، وبما يزيد عن 250 ألفًا في حرب 1967(40). ولم يتوقَّف الرحيل القسري للفلسطينيين على أوقات الحروب، وإنما استمر أسلوبًا ثابتًا في استراتيجية صهيونية تقوم على أساس إتجاهين من الهجرة متعاكسين تمامًا: اتجاه الهجرة الإكراهية للمواطنين الفلسطينيين من ناحية، واتجاه الهجرة الاستيطانية لمستوطنين يهود وافدين من الخارج إلى فلسطين من ناحية أخرى.
شكَّلت القدس نقطة الإرتكاز في استراتيجية الاستيطان الصهيونية. فقد كانت الأدلجة الدينية في أساس الدعوات المبكرة للصهيونية في شحن النفوس لدى بسطاء اليهود في الغرب الأوروبي وتجنيدهم في تنشيط الهجرة نحو القدس وفلسطين منذ أواسط القرن التاسع عشر. فالعام 1849، أي قبيل قرن كامل على قيام إسرائيل، نجح الداعية الصهيوني “مونتفيوري” في الحصول على فرمان سلطاني عثماني، من السطان عبد المجيد، سمح بموجبه لليهود بشراء الأراضي في القدس وضواحيها. والعام 1855 تمكَّن “مونتفيوري” بدعم حكومي بريطاني، من شراء أول قطعة أرض في القدس أقام عليها أول حي سكني يهودي في فلسطين وفي القدس بالذات، عرف في ما بعد باسم “حي مونتفيوري”(41).
على أثر الحرب الإسرائيلية – العربية الأولى 1948، تمكَّنت القوات الإسرائيلية من احتلال 84% من المساحة الكليَّة لمدينة القدس، إذ لم يبق منها سوى 16% فقط هي مساحة البلدة القديمة أي القدس الشرقية التي خضعت للحكم الأردني. ترتَّب على احتلال الشطر الغربي من المدينة تهجير أكثر من 60 ألف عربي من سكانها(42)، الأمر الذي أحدث اختلالاً خطيرًا في التوزع الديموغرافي بحيث بات على الشكل الآتي(43): 84.2% يهود مقابل 2.9% عرب فلسطينيين والباقي حوالى 13% من جنسيات أجنبية مختلفة. هذا الحضور اليهودي الوازن في القدس الغربية ترافق مع إحداث تغيرات نوعية طالت الطبيعة الديموغرافية والعمرانية لهذا الشطر من المدينة في آنٍ معًا. فقد نجم عن الإحتلال “فقدان أحياء عربية كاملة، وتهجير سكان القدس الفلسطينيين، وإحلال المهاجرين اليهود محلهم، وإقامة أحياء سكنية يهودية جديدة، وهدم القرى التابعة للمدينة”(44).
يتضح من الجدول أن نسبة التهويد كانت في الشطر الغربي من المدينة 100% مقابل صفر % في الشطر الشرقي الذي غلب عليه الطابع العربي نسبة 100%. إلا أن السياسات الإسرائيلية الاستيطانية عملت على قلب المعادلة السكانية بهدف تركيز أغلبية يهودية في القسم الشرقي من المدينة.
بدأت عمليات التهويد التدريجي للقدس العربية مع الأيام الأولى لاحتلالها في حرب حزيران/يونيو 1967. ففي الأسبوع الأول للاحتلال قامت السلطات العسكرية الإسرائيلية بهدم “حي المغاربة” وإجلاء سكانه، وكذلك إجلاء قسم كبير من سكان “حي الشرف”، وعزل أحياء عربية كاملة عن القدس بسبب الحواجز الإدارية التي أقامتها الحدود الجديدة للبلدية. أدت هذه الإجراءات الفورية إلى مصادرة نحو 20% من مساحة البلدة القديمة، وطرد أكثر من 7500 فلسطيني خارج أسوارها، ومصادرة 630 عقارًا، وهدم 135 عقارًا آخر. هذا، وجاءت الحدود الإدارية لبلدية المدينة لتقذف بآلاف عديدة من عرب القدس مسلمين ومسيحيين إلى خارج النطاق البلدي المعين في المخطط الإداري الجديد. تركت هذه الإجراءات نتائجها المباشرة على اختلال التوزع الديموغرافي في القدس بحيث أصبح بواقع 3 إلى 1 لمصلحة اليهود(46).
لقد تحوَّل القطاع الشرقي من القدس منذ احتلاله العام 1967 وحتى اليوم إلى مسرح لحركة استيطانية تهويدية تلازم فيها التهويد الديموغرافي مع التهويد العسكري – الجغرافي أي التلازم بين تهويد الأرض والإنسان معًا.
حتى العام 1981 أنشأت إسرائيل في القدس العربية ما مجموعه 486 وحدة سكنية بعدد سكان إجمالي 1800 نسمة. إضافة إلى بناء سوق تجارية على النمط الإسرائيلي – الغربي، وكنيس للصلاة، الأمر الذي يعكس الترابط بين البعدين الإقتصادي والأيديولوجي الديني في الثقافة الصهيونية. والجدير بالذكر أنّ المنشآت المشار إليها أقيمت ليس في أماكن خالية في المدينة، وإنما على أنقاض أربعة أحياء عربية هي: حي الشرف، حي الباشورة، حي المغاربة وباب السلسلة(47).
في مطلع العام 1990 أيّد رئيس الحكومة الإسرائيلية خطة استيطانية تقضي بنقل 100 ألف مهاجر من الذين يتوقَّع وصولهم من الإتحاد السوفياتي السابق خلال ثلاثة أعوام متتالية، للإقامة في القدس. فقد أكّد “يتسحاق شمير” في أثناء لقائه رئيس بلدية المدينة “تيدي كوليك” “أن جلب 100 ألف يهودي إلى القدس هو مهمة عظيمة، ويجب الاضطلاع بها، وأنّ ديوان رئيس الحكومة هو بمنزلة إحدى الوزارات التي ستساهم في أعمال البناء في القدس”(48).
كشفت المعلومات الاستيطانية على قلَّتها، أنّ عدد المهاجرين الجدد الذين استوطنوا القدس بين شهري كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو 1990، بلغ 5375 مهاجرًا أي أكثر من 7% من مجموع المهاجرين اليهود الذين قدِموا للإقامة في الأراضي المحتلة خلال فترة لا تزيد عن ستة أشهر. كما أفادت معلومات الاستيطان أيضًا أنّ معظم المستوطنين الجدد قطن الأحياء الجديدة ذات الطابع اليهودي الخالص، إذ استوطن العدد الأكبر منهم في غيلو (557 مهاجرًا)، راموت (541)، نفيه يعقوب (452)، وكذلك في كريات يوفال وكريات مناحيم(49).
في 14 تشرين الأول/أكتوبر 1990 اتخذ المجلس الوزاري المصغر لشؤون الهجرة في إسرائيل، قرارًا يقضي ببناء 5000 وحدة سكنية في القدس الشرقية في السنة، بدلاً من 2000 وحدة فقط كمعدل بناء في السنوات السابقة(50). فإذا كان لهذا القرار القاضي بتسريع وتيرة الاستيطان في القدس من دلالة، فإنما يدل على ثبات السياسة الإسرائيلية تجاه المدينة ليس من منظور سياسي باعتبار القدس “عاصمة إسرائيل الأبدية” وحسب، ولكن من منظور استراتيجي تهويدي أيضًا تتحوَّل معه القدس إلى مدينة يهودية أرضًا وإنسانًا وفضاءً وعمرانًا.
في الأراضي المحتلة عمومًا وفي القدس خصوصًا تسارعًا غير مسبوق لجهة التوسع في الوحدات السكنية من جهة، وكثافة الهجرة اليهودية الوافدة إلى فلسطين من جهة أخرى. أما الظروف المساعدة على تنشيط الحركة الإستيطانية خلال الفترة المشار إليها فأبرزها ثلاثة:
الأول، إقليمي – دولي ويتمثَّل بتداعيات حرب الخليج “حرب عاصفة الصحراء” التي تحالفت فيها أكثر من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة على العراق (كانون الثاني/يناير – آذار/مارس 1991). تحت ستار هذه الحرب والضجيج الإعلامي الذي رافقها، وجدت إسرائيل فرصتها المؤاتية في انشغال العالم بتلك الحرب فراحت تعمل على تسريع وتيرة الاستيطان اليهودي في القدس التي فاق عدد مستوطنيها الجدد آنذاك عدد مستوطني الأراضي المحتلة كافة.
الثاني، مالي أميركي وتمثل بتقديم الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات مالية إضافية تعويضًا لها عن الخسائر التي منيت بها بسبب أزمة الخليج، وبخاصة تلك الخسائر الناجمة عن الصواريخ العراقية التي أطلقها العراق على تل أبيب تحديدًا. فقد تلقت إسرائيل قبيل نهاية العام 1992 منحة عسكرية أميركية مقدارها 4.6 مليار دولار(52).
الثالث، يهودي سوفياتي، عبّرت عنه الهجرة اليهودية الكثيفة من الاتحاد السوفياتي بسبب مظاهر الانحلال والتفكك التي كانت بادية في نظامه الإشتراكي خلال النصف الثاني من الثمانينيات من القرن العشرين وصولاً إلى إعلان سقوطه مطلع العام 1991. وهذا، يعزّز الإعتقاد بأن ثمة دورًا خفيًا لعناصر صهيونيين داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه راحوا يعملون على تسريع انهياره للفوز بتهجير اليهود السوفيات وجذبهم نحو فلسطين المحتلة كمستوطنين جدد. فخلال العامين 1990 – 1991 كان أكثر من 300 ألف يهودي سوفياتي قد دخلوا فلسطين، الأمر الذي أدى إلى إيجاد أزمة سكانية وإسكانية تلازمت مع زيادة هائلة في عدد المستوطنات في الضفة الغربية وبخاصة داخل مدينة القدس وفي محيطها المجاور(53).
أسهمت العوامل الثلاثة المستجدة في تنشيط القطاع الإسكاني الإسرائيلي الذي راح يسجِّل خلال عقد التسعينيات أي العقد الأخير من القرن العشرين، قفزات سريعة، بحيث وصلت حصة الاستثمار فيه إلى أكثر من 62% من حجم الاستثمار الكلي، ومثَّلت حصته أكثر من 13.5% من إجمالي الناتج القومي الإسرائيلي(54). جاءت تطورات هذا القطاع لتخدم البرنامج الاستيطاني في الأراضي المحتلة وخصوصًا في القدس. فقد عرف الشطر الشرقي من المدينة حركة استيطانية ملفتة دلّت عليها الزيادات الملحوظة في أعداد الوحدات السكنية من جهة، وكثافة موجات الهجرة اليهودية الوافدة من جهة أخرى. حتى العام 1993 بلغت المساحات المبنيَّة للمستوطنات اليهودية المقامة داخل القدس الشرقية 18769 دونمًا، أقيمت عليها 43449 وحدة سكنية يقطنها حوالى 153840 مستوطنًا يهوديًا(55)، ارتفع عددهم العام 1995 إلى 161806 مستوطنين(56) أي بزيادة 7966 مستوطنًا خلال سنتين فقط، ما يعني قرابة 4000 في السنة الواحدة، ومعها يكون معدل النمو السنوي للإستيطان حوالى 3%، وهو معدل غير ثابت وقابل دائمًا للإرتفاع المفاجئ بحسب حجم الموجات الاستيطانية الوافدة من الخارج. فالعام 1992 انشئت مستعمرة جنعات ماتوس على مساحة 63 إيكرًا من أراضي الكنيسة الأرثوذكسية، ولم تلبث الحكومة الإسرائيلية أن وضعت مخططًا لتوسعتها لتصل إلى 245 إيكرًا طاقتها الإستيعابية 3600 وحدة سكنية جديدة على حساب أراضي بيت صفافا. والعام 1994 أقيمت مستعمرة ريخس شفعاط على 500 إيكر، وكانت عبارة عن أراضي خضر تمت مصادرتها العام 1970 من أراضي بيت حنينا وقرية شعفاط. يقيم في هذه المستعمرة 8000 يهودي وتشتمل على 2165 وحدة سكنية. أما مستعمرة هارحوما (جبل أبو غنيم) فقد تم تنفيذها بين العامين 1996 و1997، وتصل مساحتها إلى 1224 دونمًا هي بمعظمها أراضٍ خضراء تحتوي على أكثر من 60 ألف شجرة صنوبر. وضعت الحكومة الإسرائيلية مخططًا تنفيذيًا لإقامتها بحيث تكون قادرة معه على استيعاب أكثر من 30 ألف يهودي(57).
الأحزمة الاستيطانية
كانت عمليات الاستيطان الأكثر وقعًا في المدينة تلك التي تمثَّلت في إقامة أحزمة استيطانية كان الهدف منها تطويق المدينة ومحاصرتها في الداخل من جهة، وعزلها عن الخارج أي المحيط العربي المجاور في الضفة الغربية من جهة أخرى. فالأحزمة الاستيطانية هي عبارة عن تجمعات سكنية يهودية أحاطت القدس العربية على شكل أطواق دائرية بجدران من القلاع الاسمنتية الصمّاء التي شوّهت الطابع الحضاري التاريخي للمدينة.
أما عدد الأحزمة فكان ثلاثة، وهذه صورة تفصيلية عنها:
الحزام الأول: عشرة أحياء داخل القدس الشرقية
هو عبارة عن عشرة تجمعات أو أحياء سكنية يهودية، بلغت مساحتها المبنية حوالى 69636 دونمًا بإجمالي عدد مستوطنين مقيمين فيها 52810 مستوطنين، وهذه الأحياء هي على الشكل الآتي(58):
1- الحي اليهودي: أقيم داخل البلدة القديمة العام 1968 على مساحة مصادرة بلغت 116 دونمًا. عدد وحداته السكنية 468 وحدة تستوعب 1800 مستوطن.
2- حي رامات أشكول: أقيم العام 1968 على أرض صودرت من المواطنين العرب زادت مساحتها عن 600 دونم. يقع الحي في منطقة الشيخ جرّاح شمال غرب القدس ويضم 20200 وحدة سكنية بحجم كتلة سكانية استيطانية حوالى 7500 نسمة.
3- حي معلومات دفنا: هو امتداد لحي رامات أشكول، أقيم أيضًا العام 1968 على أراضٍ في الشيخ جرّاح تعود ملكيتها لعدد من الأسر العربية ووقف أمينة الخالدي وعارف العارف. تقدر مساحة الحي بحوالى 270 دونمًا أقيمت عليها 2400 وحدة سكنية بلغ عدد مستوطنيها 4500 نسمة.
4- حي سانهدريا: وهو امتداد آخر لحي رامات أشكول، أقيم العام 1973 على أراضٍ عربية مصادرة. إستوعب حوالى 1000 وحدة سكنية بعدد مستوطنين وصل إلى 3200 نسمة.
5- حي جبعات همفتار: امتداد لرامات أشكول من الناحية الشمالية الغربية، أقيم في منطقة “تل الذخيرة” على أراضٍ عربية مصادرة ومستملكة، وتم فيه إنشاء 500 وحدة سكنية يُقدر عدد سكانها بنحو 1500 نسمة.
6- حي النبي يعقوب: هو عبارة عن نواة لمستعمرة استيطانية، أقيم العام 1973 على الطريق الذي يربط القدس بمدينة رام الله، وعلى أراضٍ عربية تقع إلى الشمال الشرقي من بيت حنينا. بلغت مساحة الأراضي المصادرة لإقامته حوالى 30 ألف دونم، أنشئت عليها، حتى العام 1981، أكثر من 4000 وحدة سكنية زاد عدد مستوطنيها عن 12000 نسمة. ولم يلبث الحي أن استوعب إقامة 1000 وحدة سكنية إضافية وصلت قدرتها الإستيعابية إلى 17000 نسمة.
7- حي التلة الفرنسية: عُرِف أيضًا بحي “شابيرا”. بدأ العمل به العام 1969 شرق جبل المشرف (سكوبس) على طريق القدس – رام الله. بلغت مساحة الأراضي العربية التي صودرت لإقامته أكثر من 15 ألف دونم تعود ملكيتها لمواطنين عرب وللدولة الأردنية ولدير اللاتين. أنشئ في هذا الحي 5000 وحدة سكنية يزيد عدد مستوطنيها على 12500 مستوطن.
8- حي تل بيوت الشرقية: أقيم العام 1972 على أراضي جبل المكبّر وصورباهر إلى الجنوب من مدينة القدس. بلغت مساحة الأراضي العربية المصادرة لإقامته نحو 20 ألف دونم. أقيمت وحداته السكنية على مرحلتين: الأولى حتى العام 1981، عددها 2342 وحدة بعدد مستوطنين 7820 مستوطنًا. الثانية بين العامين 1981 و2000 وحداتها السكنية أكثر من 5000 وحدة تستوعب أكثر من 15 ألف مستوطن.
9- حي تل عناتوت: يقع شمال شرق القدس على أراضي قريتي عناتا وشعفاط العربيتين. أقيم العام 1974 على مساحة مصادرة من الأراضي بلغت 3650 دونمًا، وحداته السكنية 500 وحدة يقيم فيها نحو 2000 يهودي.
10- حي الجامعة العبرية: كانت بداية إقامته العام 1969 على جبل المشرف (سكوبس) بهدف توسيع الجامعة العبرية القديمة ومشفاها. وقد أقيم فيه سكن للأساتذة والطلاب ومكاتب جديدة وقاعة للمحاضرات ومشفى للجامعة. يستوعب هذا الحي حوالى 31500 طالبًا وموظفًا جامعيًا يقيمون في 109 وحدات سكنية شُيِّدت على مساحات من لأرضي العربية المصادرة.
الحزام الثاني: 15 مستوطنة أو مستعمرة في محيط القدس الشرقية
وهو عبارة عن طوق من 15 مستعمرة أقيمت حول مدينة القدس في نطاق المرحلة الأولى من مشروع القدس الكبرى. والمقصود بالقدس الكبرى القدس الموحَّدة بعد ضمّ الشطرين الشرقي والغربي.
في آذار/مارس 1971 كشف “ميرون بنفنستي” – نائب رئيس بلدية القدس – عن مشروع “القدس الكبرى” وهو يقضي بتوسيع حدود بلدية القدس لتشمل المناطق الممتدة من مدينة رام الله شمالاً إلى بيت لحم جنوبًا. وقد أطلق على هذا المشروع إسم “مشروع الأب”، وهو يمثل الحزام الإستيطاني الثاني حول مدينة القدس بعد أن كان الحزام الأول قد تمثَّل بالأحياء العشرة التي أقيمت ضمن نطاق “أمانة القدس” للعام 1967. والحزام الثاني هو عبارة عن 15 مستعمرة تحيط بالمدينة على شكل طوق استيطاني من جميع الجهات(59). تبلغ المساحات المبنية لهذه المستعمرات أكثر من 195 دونمًا، عدد الوحدات السكنية فيها 5266 وحدة استوعبت نحو 31600 مستوطنًا(60).
الحزام الثالث: 15 مستوطنة أو مستعمرة إضافية في محيط القدس الشرقية
في 30 أيلول/سبتمبر 1975 أعلنت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على خريطة القدس الكبرى أو الموسّعة، التي تمتد فيها حدود بلدية المدينة ما بين الخان الأحمر شرقًا، واللطرون غربًا، ودير ديوان وبيتين شمالاً، وضواحي مدينة الخليل (مستعمرة كريات أربع) جنوبًا. ويقضي هذا التوسع بضمّ 9 مدن و60 قرية عربية وما يقارب 30% من المساحة الكلية للضفة الغربية. شكّل هذا المشروع التوسيع النهائي لحدود القدس الكبرى، وكانت ترجمته العملية إقامة 15 مستعمرة جديدة تشكل الحزام الثالث.