في 30 سبتمبر 2015 شن الطيران الروسي أولى طلعاته الجوية مستهدفاً مخازن للأسلحة والذخيرة وعربات ومدرعات في حمص وحماة وحلب، مستنداً إلى معلومات تم جمعها وتحديدها من قبل غرفة عمليات يديرها تحالف روسي – إيراني- عراقي – سوري في العاصمة العراقية بغداد.
وجاءت عملية القصف بعد الكشف عن حشود عسكرية روسية تضمنت: تعزيز القاعدة البحرية في طرطوس بغواصة نووية ومجموعة سفن حربية، وتوسيع القاعدة الجوية في اللاذقية، وتزويدها بنحو 48 مقاتلة من طراز (Su-24) و(Su-25) و(Su-30) وبمروحيات قتالية و35 عربة قتال مدرعة مزودة بمدفعية من طراز (BTR-82A/B)، ومدفعية عيار (152 mm)، و6 دبابات من طراز (T-90)، ونحو 800 مقاتل روسي من القوات الخاصة و500 من سلاح البحرية، وعدد غير معروف من المرتزقة الشيعة الذين تم شحنهم من العراق وباكستان وأفغانستان عبر طائرات (Ilyushin IL-76) تمهيداً للزج بهم في هجوم بري مرتقب ضد المعارضة السورية بإسناد جوي روسي.
وعلى الرغم من ادعاء موسكو أن حشدها العسكري يهدف إلى قتال تنظيم الدولة المتطرف، إلا أن العمليات الجوية قد استهدفت مختلف فصائل المعارضة في عدة محافظات، وأكد محللون عسكريون أن دوافع موسكو المعلنة لا تتناسب مع الدفاعات الجوية المتطورة التي نصبها الروس في قاعدة “حميميم”، مثل صواريخ أرض-جو (SA15) و(SA22)، والتي لا يمكن أن تكون موجهة ضد تنظيم الدولة المتطرف الذي لا يملك أية مقاتلات أو منظومات دفاع صاروخي، بل إن الهدف الفعلي من نصب هذه هو إنشاء منطقة عزل جوي (“A2AD” Anti-Access Area-Denial) في المنطقة بالتزامن مع سحب حلف الناتو دفاعاته الصاروخية، ومبادرة واشنطن إلى سحب بطاريات صواريخ باتريوت من منطقة “أضنة” تحت ذريعة تحديث هذه البطاريات، ومن ثم سحب حاملة الطائرات الوحيدة (USS Theodore Roosevelt carrier) تاركة المجال الجوي لمنطقة شرقي المتوسط بأسره للطيران الروسي.
وفي مقابل التراجع العسكري الغربي تحدثت المصادر عن رسو حاملة الطائرات الصينية (Liaoning-CV-16) في ميناء طرطوس، بعد أن عبرت قناة السويس في 22 سبتمبر، حيث تتوجه بكين إلى تعزيز قواتها البحرية بمقاتلات من طراز (J-15 Flying Shark) ومروحيات قتالية مزودة بصواريخ مضادة للغواصات من طراز (Z-18F) و(Z-18J) في منتصف شهر نوفمبر القادم، والتي ستتمركز في القاعدة الجوية الروسية باللاذقية بعد أن تمر بالأجواء الإيرانية والعراقية بالتنسيق مع طهران وبغداد.
وتأتي التعزيزات الصينية بعد استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرئيس الصيني في البيت الأبيض يوم الجمعة 25 سبتمبر 2015، مما يؤكد وجود تفاهمات مسبقة بين العواصم الثالثة (واشنطن، موسكو، بكين) حول الترتيبات العسكرية التي تجري في سوريا بالتنسيق مع إيران. ومن الملفت للانتباه أن يتزامن الحشد الروسي مع حالة إخلاء جوي غربي لمنطقة شرقي المتوسط في ظل تطورين مهمين:
1- الترحيب الأوروبي بالدور الروسي-الإيراني الجديد: ففي أول رد فعل لها على العمليات الجوية الروسية رحبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالتدخل الروسي مؤكدة أنه: “لن يكون من الممكن إنهاء الحرب الأهلية في سورية إلا بمساعدة روسيا التي بدأت أول أمس شن ضربات جوية في البلاد”، وأكدت في كلمة في شرق ألمانيا بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لإعادة توحيد ألمانيا: “هذا صحيح بصورة خاصة في حالة سورية، إذ نعرف جميعا منذ أعوام أنه يمكن أن يكون هناك حل فقط في وجود روسيا وليس من دون وجودها”.
وفي زيارته الأخيرة إلى طهران أكد وزير الخارجية النمساوي سيباستيان كورتس، أن الأزمة السورية: “تحتاج إلى نهج عملي مشترك يتضمن مشاركة الأسد في التصدي لإرهاب تنظيم الدولة”، وأضاف: “في رأيي أن الأولوية لقتال الإرهاب، ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون إشراك قوى مثل روسيا وإيران”، كما صرح وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل جارثيا مارجايو، من طهران كذلك، أن: “حكومة بشار الأسد، سواء رضينا بها أم لا، هي من تمتلك الشرعية الدولية، وهي من تملك مقعداً في الأمم المتحدة”. وتزامن إعلان وزير الخارجية البريطاني أن بلاده مستعدة لبقاء بشار الأسد رئيساً في الفترة الانتقالية، مع تأكيد صحيفة “غارديان” البريطانية (29 سبتمبر 2015) أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد أكد لأول مرة أن بريطانيا مستعدة للقبول ببشار أسد على رأس مرحلة انتقالية في سوريا بهدف التوصل إلى اتفاق مع روسيا وإيران حول الملف السوري.
2- التضييق على المعارضة السورية ووقف الدعم عنها: ففي شهر مارس الماضي قطعت واشنطن الدعم عن أربع فصائل، وخفضت المساعدات التي كانت تقدمها لنحو 12 كتيبة أخرى، ثم بادرت إلى إيقاف الدعم المالي عن 52 فصيلاً في الجبهة الجنوبية في نهاية شهر أغسطس، وأعلنت بعد ذلك عن مراجعتها لبرنامج “تدريب المعارضة المعتدلة” متهمة العناصر التي دربتها بتسليم أسلحة وعتاد أمريكي إلى “جبهة النصرة” في 21 سبتمبر، ثم عمدت إلى تعميق حالة الفراغ عبر إغلاق غرفة التنسيق المشتركة في الأردن “الموك”، في حين نشطت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في التضييق على ممولي الفصائل المعتدلة وإصدار قوائم بأسماء مطلوبين لملاحقتهم أمنياً في دول الجوار.
وعلى الرغم من التصريحات الأمريكية الرافضة لاستهداف المعارضة المعتدلة في 30 سبتمبر 2015، إلا أن الرئيس أوباما كان على علم مسبق بتفاصيل عمليات سلاح الجو الروسي، حيث أكد البيت الأبيض أن بوتين قد: “أوضح الموقف الروسي بصورة كاملة لأوباما”، وذلك في إشارة إلى مراسلات مفصلة أرسلتها موسكو إلى واشنطن في 29 سبتمبر تتضمن تفاصيل العمليات المرتقبة، ونقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول أمريكي قوله إن موسكو أعلمت واشنطن بالضربات قبل شنها، ومن الملفت للانتباه تزامن التصريحات الأمريكية الرافضة للقصف الروسي مع جلسات مفاوضات مكثفة عقدها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونائبته ويندي شيرمان مع الروس والإيرانيين للحديث عن: “سبل التعاون في الشأن السوري”!
الملامح الأولية للخطة الروسية
تتطلب عملية تشخيص مخاطر التدخل الروسي الاعتماد على معلومات دقيقة غير متأثرة بالشحن الإعلامي الغربي المصاحب للحملة، ومن خلال ما رشح من محاضر الاجتماعات التي عقدها المسؤولون الروس في موسكو ونيويورك خلال الأسبوعين الماضيين، يمكن تلخيص أهم معالم الخطة الروسية في سوريا في النقاط التالية:
1- إنشاء منظومة أمنية إقليمية جديدة: تجمع بين موسكو وطهران وبغداد ودمشق، وتنسق عملياتها مع تل أبيب، ففي مقابلة مع موقع (RT) الروسي، بتاريخ 2 أكتوبر 2015، أكد الفريق سيرغي كورالينكو ممثل روسيا الرسمي في “المركز المعلوماتي” ببغداد، أن المهمة الأساسية للمركز تتمثل في: “جمع وتحليل ومعالجة وتبادل المعلومات الجارية حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط في سياق مكافحة ما يسمى “الدولة الإسلامية”، وللقيام بعدها بإيصال هذه المعلومات إلى هيئات الأركان في روسيا والعراق وإيران وسوريا”، كما أكد وجود تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية، وأشار إلى وجود وثيقة تأسيسية تحدد نمط العلاقة بين الدول الأربع مرحباً بانضمام أية دولة أخرى إلى هذه الغرفة، قائلاً: “أود التأكيد على أن هذا المركز المعلوماتي لا يعتبر مخصصاً فقط لأربعة أطراف، وإنما نأمل أن ينضم لعملنا دول أخرى، والتي لها مصلحة في القضاء على داعش، ولذلك نحن مقتنعون بانضمام دول أخرى إلينا وسيصبح عملنا أكثر فاعلية”، وذلك في إشارة واضحة إلى التعاون الوثيق بين المركز المعلوماتي مع رئاسة الأركان الإسرائيلية وإمكانية انضمام تل أبيب إلى ذلك التحالف، حيث تزامن الحشد الروسي في سوريا مع اجتماعات مكثفة بين رئيسي الأركان الروسي والإسرائيلي والاتفاق على إنشاء آلية لتنسيق العمليات بين موسكو وتل أبيب في المجالات: الجوية والبرية والبحرية والفضاء الإلكتروني تحت إدارة نائبي رئيسي أركان البلدين نيكولاي بوغدانوفسكي ويائير جولان، وتنفيذاً لتلك الاتفاقيات، فقد أكدت صحيفة “تايمز أو إسرائيل” أن موسكو قد أشعرت تل أبيب مسبقاً بجميع الأهداف التي كانت ستقصفها يوم الأربعاء 30 سبتمبر، وقبل نحو ساعة من قصف أهداف بحمص اتصلت موسكو مع عدد من الضباط الإسرائيليين منهم مستشار الأمن القومي يوسي كوهين وأخبرتهم بتفاصيل العملية الجوية قبل شنها.
2- توجيه ضربات ترجيحية لتعزيز وضع النظام في المناطق التي فقدها
في اجتماع عقد المقر الرئاسي في أوغاريوفو بالقرب من العاصمة الروسية يوم الإثنين 21 سبتمبر 2015، حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طمأنة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والوفد الأمني والعسكري المرافق له بأن سلاح الجو الروسي لن يقوم بأية عمليات جنوب سوريا، وأن موسكو ستنسق مواقفها مع تل أبيب، ولن تسمح لحزب الله بنقل أية أسلحة جنوب غربي سوريا، وأكد بوتين للوفد الإسرائيلي أن العمليات العسكرية الروسية ستهدف إلى:
– حماية النظام السوري وتعزيز قدراته القتالية
– دعم إيران للقيام بدور إيجابي في المنطقة بعد الاتفاق النووي
– مواجهة قوى التطرف متمثلة في تنظيم “داعش” وجبهة النصرة.
وبعد تحقيق هذه الأهداف أوضح بوتين أن قواته ستشرف على تنفيذ خطة انتقالية تتضمن: وقف إطلاق النار، وتأسيس حكم انتقالي يضم أطرافاً من السلطة والمعارضة، والإشراف على انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية يختار فيها الشعب السوري من يمثله ويحكمه.
ولتحقيق هذه الخطة أكد بوتين للوفد الإسرائيلي على ضرورة تمكين الحكم في دمشق من إدارة المرحلة الانتقالية، مشيراً إلى أن القوات الروسية لا تنوي التمدد إلى دمشق، بل سيقتصر وجودها في اللاذقية حيث ستعمل على حماية الأقلية العلوية ومنع المعارضة من التقدم نحو جبال الأنصارية أو المناطق الساحلية.
وسربت مصادر مقربة من الموساد تفاصيل أخرى حول اللقاء تتعلق بمداخلات رئيس الأركان الإسرائيلي وقائد الأمن الفيدرالي الروسي، لمنع وقوع أي تضارب في الأهداف حيث ستركز الخطة الروسية على تمكين النظام من استعادة المناطق التي فقدها في الأشهر الماضية، وذلك من خلال توفير غطاء جوي للمرتزقة الإيرانيين في معارك تهدف إلى توطيد سيطرة النظام في دمشق والقلمون وحمص وريف حماة والريف الغربي لمدينة جسر الشغور.
وأشار المصدر إلى أن تفاصيل العمليات البرية قد تم وضعها في سلسلة زيارات متبادلة اجتمع فيها مساعد وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، مع حسين أمير عبد اللهيان في طهران، ولقاءات قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني مع الضباط الروس بموسكو، حيث يتوقع أن تنضم ميلشيات شيعية قريباً إلى قوات الأسد و”حزب الله”، لشن هجوم بري بإسناد جوي روسي.
3- التمهيد لعملية تحول سياسي تحت إشراف النظام بالتزامن مع الحشد العسكري بذلت الدبلوماسية الروسية جهوداً حثيثة للتسويق لخطة تحول سياسي حيث تحدث بوتين عن إمكانية تشكيل حكومة سورية موسعة تضم أطرافاً من المعارضة “المعتدلة” وتكليفها بترتيب انتخابات بلدية ونيابية ورئاسية بالتتابع، وتأكيده على أن: “الرئيس السوري بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة ولاقتسام السلطة مع معارضة بناءة”.
وقال الرئيس الروسي على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك بأقصى شرق البلاد “نريد فعلاً إيجاد نوع من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف”، وأضاف بوتين نحن نعمل مع شركائنا في سوريا، وبشكل عام هناك تفاهم بأن توحيد الجهود في محاربة الإرهاب يجب أن يسير بالتوازي مع نوع من العملية السياسية في سوريا نفسها. وأضاف بوتين إن “الرئيس السوري يتفق مع هذا وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وإجراء اتصالات مع ما يسمى المعارضة الصحية وإشراكهم في الحكومة”.
وينسجم الطرح الروسي مع مبادرة أطلقها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للبدء بحوار وطني سوري لا يقوم على أساس “جنيف 1” أو “جنيف 2″، بل ينطلق من مبدأ (6+1) ويشمل دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى إيران، ويقوم على أساس وقف جميع العمليات العسكرية ودعم الفصائل والميلشيات المقاتلة.
وينطلق ظريف من نجاح مفاوضات الملف النووي كنقطة ارتكاز بالإضافة إلى الضربات الترجيحية الروسية وتراخي مواقف بعض الدول الإقليمية والدولية فيما يتعلق برحيل بشار الأسد واعتقادهم بإمكانية توليه القيادة في مرحلة انتقالية للبلاد.
4- ملء الفراغ الإستراتيجي الذي تركته أمريكا في المنطقة
تؤكد مصادر أمنية غربية بأن العملية الروسية قد جاءت كضربات استباقية تهدف إلى إفشال مخططات بعض القوى الإقليمية لفرض مناطق عازلة شمال وجنوب غربي البلاد، وهذا ما يفسر تكديس منظومات الدفاع الصاروخية المتطورة وسعيها لإنشاء منطقة عزل جوي (“A2AD” Anti-Access Area-Denial)، وتحذير قوى التحالف من خرق المجال الجوي السوري دون التنسيق مع موسكو.
وتأتي هذه العمليات ضمن خطة طويلة الأمد تهدف من خلالها موسكو إلى مد شبكاتها الصاروخية في المنطقة الممتدة ما بين طهران وبيروت مروراً ببغداد ودمشق، والسيطرة على أجواء المنطقة من خلال إنشاء شبكة دفاع جوي مع هذه الدول.
وفي مقابل سعي واشنطن إلى استدراج موسكو لعمل عسكري في سوريا، يبذل الروس جهوداً حثيثة لتأسيس وجود بحري دائم في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط، حيث تمكن هذه السياسة موسكو من صياغة تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة والدخول بقوة في أسواق السلاح والطاقة.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد أشارت إلى أن خطاب أوباما في الأمم المتحدة، يوم الإثنين 28 سبتمبر 2015، يتضمن اعترافاً محزناً بالفشل، حيث حمل خطاب أوباما رسالتين: تتضمن الأولى إدراك الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي أنه “لا يمكن فرض الاستقرار على أرض أجنبية”، وتؤكد الثانية على أن الإدارة الأمريكية: “مستعدة للعمل مع أي دولة، بما في ذلك روسيا وإيران، لحل الصراع في سوريا”.
5- إنعاش سوق الصناعات العسكرية الروسية: تروج موسكو لنفسها في الآونة الأخيرة على أنها لاعب دولي يمكن الاعتماد عليه في احتواء إيران وحملها على الالتزام بالاتفاق النووي، ومنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيميائية، والمساهمة الفاعلة في محاربة الإرهاب، ومنع انسياب الأزمة السورية خارج الحدود، والترويج لتقنيات الطاقة السلمية في الشرق الأوسط.
ومن خلال هذه الحزمة من المعطيات يعمل الكرملين على إنعاش الاقتصاد الروسي عبر استعادة مجاله في سوق السلاح الذي كانت تعتمد عليه الجمهوريات العربية المتداعية.
فقد أكد نائب رئيس شركة “روس أوتوم نيكولاي سباسكي” الروسية أثناء لقاءه مع السفير الإيراني في موسكو أن شركته تعمل على بناء منشأتين نوويتين جديدتين جنوب إيران، وفي شهر فبراير الماضي وقع فلاديمير بوتين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عقداً يقضي بقيام روسيا ببناء مفاعلات نووية في مصر، كما تتفاوض موسكو مع السعودية والإمارات والكويت والأردن على صفقات لتطوير الطاقة النووية، وكان أكبرها في 19 يونيو 2015 ، حيث التزمت موسكو بإنشاء 16 مفاعلاً نووياً للسعودية، كما تعمل وزارة الدفاع الروسية على إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية في مجال تطوير سلاح البحرية ونظم الدفاع الجوية وتقنيات الطائرات بدون طيار، فضلاً عن العربات المدرعة وأنظمة الإشارة، وتتطلب مثل هذه الالتزامات العسكرية طويلة الأمد صياغة تحالفات أمنية وطيدة، ووجوداً فعلياً في المياه الدافئة شرقي البحر الأبيض المتوسط.
محدودية التدخل الروسي والفرص الكامنة
من خلال المحاولة التي بذلها الباحث أعلاه لتحديد النطاق النوعي والمكاني للعمليات الروسية-الإيرانية المرتقبة، لا بد من التأكيد على أن التوجهات الروسية تندرج ضمن خطة بشار أسد العسكرية بتقليص سيطرة قواته على “سوريا المفيدة” المتمثلة في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس، وعلى أن محدودية التحرك الروسي تندرج في هذا الإطار، إذ إن 48 مقاتلة و6 دبابات و35 عربة مدرعة متمركزة في قاعدتي: “حميميم” الجوية و”طرطوس” البحرية، لا يمكن أن تنفذ عملية “احتلال” أو “اجتياح” للقطر السوري، خاصة وأن قوام القوات الخاصة وسلاح البحرية التي تم حشدها لا يتجاوز 1776 جندياً روسياً يعمل أغلبهم في مجال تقنيات الرصد والدفاع الجوي.
كما أن الضغوط الاقتصادية على موسكو تمنعها من شن حملة اجتياح بري واسع النطاق خارج البلاد، إذ إن عملية ضمّ شبه جزيرة القرم قد فاقمت من الضغوط الاقتصادية على روسيا التي باتت تعاني من: العزلة الدولية، وهبوط أسعار النفط، وتراجع قيمة الروبل، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية إلى حد 30 في المائة.
ويجدر التنبيه إلى أن الدعم الروسي الأخير للنظام السوري ليس الأول ولا الأكبر من نوعه، فقد حصلت دمشق في السنوات الماضية على منظومات دفاع جوي متطورة، ومروحيات قتالية، وقامت موسكو بتطوير وتحديث أسراب طائرات “ميغ” و”سوخوي” منذ عام 2012، كما استلم جيش النظام في السنوات الأربعة الماضية كميات كبيرة من العربات المدرعة والمدفعية الثقيلة والدبابات المتطورة والذخيرة من مختلف الأعيرة، وكانت الاستخبارات الروسية تزود رئاسة الأركان في دمشق بأماكن تواجد المعارضة وسبل استهدافها، دون أن يغير ذلك من ترجح الميزان العسكري لصالح المعارضة أو يساعد على منع نظام بشار المتفكك من الانهيار.
وتشير مصادر أمنية مطلعة إلى أن التدخل الروسي الأخير قد جاء عقب معلومات مؤكدة بأن النظام السوري على وشك السقوط، حيث تقلصت سيطرته على البلاد إلى نحو 18 بالمائة، في حين استنفذ جيشه 93 بالمائة من مخزونه من الصواريخ، ولم يعد قادراً على استعادة سيطرته أو إرجاع أي منطقة فقدها في الأشهر الماضية، ودفعت هذه الهزائم بشار نحو التفكير باستخدام مخزونه من الأسلحة الكيميائية المتبقية لحماية العاصمة من الثوار الذي أحرزوا تقدماً ملحوظاً في الأسابيع القليلة الماضية.
ولا يتوقع أن تسفر عمليات شحن المزيد من قطعان المرتزقة الشيعة إلى الأراضي السورية بتغيير فعلي، إذ إن التقارير العسكرية تؤكد فشل سياسة الحشد الطائفي التي يقوم بها قاسم سليماني بسبب قصر فترة تدريب هذه القوات على ستة أسابيع في مخيمات، وعجز هؤلاء المقاتلين عن المواجهة، وتشير المصادر إلى أن المبادرة الإيرانية-الروسية الأخيرة تأتي كمحاولة لوقف الاستنزاف المالي الذي تعاني منه طهران بعد أن أنفقت نحو 40 مليار دولار لإنقاذ نظام بشار، وتوجهها للتركيز على تحسين وضعها الاقتصادي عقب الاتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الغربية، إضافة إلى إدراك الحكم في طهران أن قدرتها على دعم بشار لا بد وأن تنضب في ظل الخسائر الكبيرة التي يعاني منها نظامه.
وتأتي أنباء حشد إيران للمزيد من المرتزقة على خلفية إنهاك “حزب الله” وتكبده نحو 1800 قتيل و3000 جريح منذ تدخله في سوريا، واضطراره لعقد الهدن مع المعارضة حتى يتمكن من استعادة معنويات قواته المنهارة، مما يؤكد على أن العمليات المرتقبة ستكون محدودة بإطار زمني لا يتعدى شهرين، وستنحصر في إطار القيام بضربات ترجيحية تحاول استعادة توازن النظام في المناطق التي فقدها في المعارك الأخيرة، وستشنها قوات منهكة سبق وأن انكسرت في معارك سابقة مع المعارضة.
وفي ظل هذه المعطيات، يؤكد المسؤولون الروس على أن الهدف من العملية العسكرية يقتصر على: ترجيح كفة النظام، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار، والبدء في مفاوضات المرحلة الانتقالية، وذلك في ظل إدراك الكرملين أنه من غير الواقعي محاولة القضاء على عشرات آلاف المقاتلين الذين يتمتعون بأفضلية القتال على أرضهم، ويستفيدون من تحول الإستراتيجية العسكرية لجيش النظام إلى “الدفاع” وفقدانه عنصر المبادرة، وضعف الكفاءة القتالية للميلشيات التابعة لإيران، وذلك في مقابل توحد فصائل المعارضة واعتمادها تكتيكات قتالية متطورة، وتحقيقها اختراقات غير مسبوقة في حروب المدن من خلال المواكبة ما بين العمليات النوعية ضد التحصينات الخارجية، وتوظيف القصف الصاروخي عالي الدقة لاستهداف نقاط الأمن الداخلية.
نتائج وتوصيات
وللتعامل مع مخاطر الحشد الروسي وعملياته المرتقبة يتعين على المعارضة أن تبادر إلى اتخاذ الإجراءات التالية:
أ- تبني سياسة “الكمون الإستراتيجي”: والذي يتمثل في امتصاص الضربات المبدئية، واستيعاب عنصر المفاجأة من خلال رصد التحركات واستقراء نمط العمليات المعادية، وتجنب استدراجها في مواجهات غير متكافئة في هذه ا لفترة الحاسمة.
ب- تنفيذ إستراتيجية “إعادة التموضع”: لتشتيت إحداثيات غرفة العمليات المشتركة ببغداد، وذلك من خلال عدة صيغ أبرزها: “الانتشار الكيفي”، وتجنب التجمعات، وشن حرب العصابات، وتنفيذ العمليات الخاصة، والمبادرة إلى “إعادة التشكيل”.
ج- إنشاء “غرفة عمليات سورية مشتركة”: حيث تمثل عملية إغلاق غرفة العمليات المشتركة في الأردن “الموك” فرصة سانحة لإنشاء غرفة عمليات سورية تعزز مفاهيم الأمن الوطني، وتمنح فصائل المعارضة ما تحتاجه من شخصية اعتبارية في المعادلة الإقليمية، وذلك من خلال تبني إستراتيجيات “إدارة الأزمة”، واتباع وسائل احترافية لتبادل المعلومات، ورسم الخطط، وتقدير الموارد المطلوبة، وتوظيف مصادر القوة الكامنة بمختلف أبعادها، ووضع ذلك في إطار قالب تطبيقي يستوعب التحولات الإقليمية والدولية وآليات توظيفها في إفشال خطة التدخل الخارجي.
د- إعداد خطة للمحافظة على “المكتسبات الإستراتيجية”: عبر تحديد الأولويات، وتنفيذ عمليات الإخلاء، وتنسيق خطط الكر والفر، وإعادة التشكل في إطار المحافظة على البؤر الإستراتيجية التي اكتسبتها المعارضة، ومن ثم التوسع في مناطق “الخاصرة الرخوة” التي لا تصل إليها ميلشيات المرتزقة ولا تطالها عمليات القصف الجوي.
هـ- التركيز على العمليات النوعية والضربات الموضعية في المناطق الآمنة للنظام: وذلك من خلال شن عمليات نوعية تطال النظام في مقراته الآمنة وتستثمر مشاعر السخط في صفوف خزانه البشري الذي يتنامى سخطه من قيادة بشار، وخاصة في قلب العاصمة ومحيطها، فضلاً عن محاولة نقل المواجهات إلى مناطق متفرقة في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
و- إعادة صياغة التحالفات الإقليمية: حيث يحاول تحالف (موسكو-طهران-بغداد-دمشق) توظيف “فراغ المجال” الغربي -عسكرياً وأمنياً- لفرض عزلة على بعض القوى الإقليمية وعلى رأسها الرياض وأنقرة، ولا شك في أن الاستفادة من هذه القوى كداعم يتجه نحو التحلل من بعض القيود والالتزامات الدولية، والتعامل معه كظهير دبلوماسي يتحدث بقوة في الأروقة الدولية، دون التقليل من قدرة الكوادر السورية التي أنتجتها الأزمة على رفد الساحة بأطروحات جديدة في مقابل ترهل الدبلوماسية الدولية، والدفع نحو مبادرة تقوم على التخطيط السليم والتشكيل البنيوي المتوافق مع متطلبات المرحلة.
ز- الإعداد لخطة تحول سياسي تحظى بإجماع وطني: تنطلق من منظور وطني وترتكز على مفاهيم الاحترافية والانضباط وتعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للشعب السوري، وتفهم المتطلبات الأمنية لدول الجوار، والأخذ بزمام المبادرة للتقدم بمبادرة وطنية جامعة على أنقاض الدكتاتورية المتهاوية.
* عمران للدراسات الاستراتيجية