ومع ضرورة اعترافنا بحقّ المؤلف وصناع العمل الفني في تقديم ما يشاءون من أفكار ورؤى، إلا أن تزوير الوقائع وخلط الحقائق والانتصار لرواية واحدة في شأن خلافي ملتبس يجعل الراوي، المسلسل في حالتنا هذه، غير نزيه، ويضع على عاتق الآخرين تفنيد ما جاء في المسلسل أو بالأحرى تكذيبه.مسلسل الفلول
بداية، يجب التشديد على أنّ صنّاع المسلسل، مؤلفه ومنتجه وبطله ومخرجه على الأقل، لا ينتمون إلى ثورة يناير 2011، بل إن البطل الرئيسي، عادل إمام، أحد من هاجموا الثورة والثوار، كونه أحد رموز نظام مبارك، وإن ادعى عقب تنحيه عكس ذلك، على غرار ما فعلت الغالبية العظمى من الفنانين والمشاهير.
استغرق المسلسل حلقاته الأولى في توضيح شخصية البطل الرئيسي “الدكتور فوزي جمعة”، وإسباغ الكثير من الأوصاف عليه، فهو أكاديمي يساري مرموق، معارض للنظام، اعتقل مرات عدة، لديه علاقات ملتبسة، بعضها منطقي، وبعضها الأخر ينتمي إلى صناعة الدراما وليس إلى الحياة.
ولا شكّ أنّ مؤلف المسلسل كان موفّقاً في اختيار شخصية بطله، المعارضة للنظام، ليقدّم من خلالها من دون حرج كلّ أكاذيب النظام عن معارضيه، فالحزب اليساري تافه وأعضاؤه مجموعة من الشخصيات الكوميدية، والتيار الديني المعارض انتهازي ولا همّ له إلا المصالح، ضباط الشرطة طيبون، يعلنون الحرص على الصالح العام، بينما الطلاب المعارضون للسلطة فاشلون أو يتميزون بالبذاءة، أو منتمين إلى الإسلام السياسي، وفقا لتوصيفات الشرطة المعتادة أيضاً.
الإخواني اللصّ
لا يذكر المسلسل على لسان أي من أبطاله شيئاً عن فساد الرئيس، وإنما يتهجّم البطل أحياناً على رئيس الوزراء، وفقاً للقاعدة المعروفة: الرئيس خطّ أحمر بينما رئيس الوزراء يتمّ تعيينه لينال الهجوم والاتهامات ويتحمّل الفشل أو التقصير.
لكن تهجم فوزي جمعة في حفل علني على رئيس الوزراء، يلقي به في المعتقل، وهناك يجاور أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين “الدكتور عبد الهادي”، وفي مشهد مفتعل داخل الزنزانة يظهر المسلسل الأستاذ الجامعي الإخواني وهو يسرق بيضة ويخفيها في جيبه، في دلالات تتكرّر لاحقاً لتشويه التيار الإسلامي.
وبينما فوزي جمعة في المعتقل، تندلع الثورة ضّد مبارك، فيخرج من معتقله متوجهاً إلى ميدان التحرير، ليبدأ المسلسل صراحة، وعلى مدار حلقتين كاملتين، في سرد رواية الشرطة المصرية عن “مؤامرة يناير” التي أطاحت رأس النظام.
في قلب الميدان لا يرى الأكاديمي اليساري، أي دور إجرامي للشرطة، فقط شبابا يغنّون ويهتفون ويلوّحون بالأعلام، حتى أن المخرج وائل إحسان لم يهتم كثيرا بإظهار حال المعتصمين، واكتفى بعدد من المشاهد الرائجة، بينما لا أثر لـ”جمعة الغضب” ولا “موقعة الجمل” ولا أحداث قنص عناصر الشرطة للمعتصمين، حتى محاولات البلطجية المدعومين من النظام فض الميدان أو إرهاب من فيه لا أثر لها.
كذا فإن القصة التي لجأ إليها المؤلف لإظهار إنسانية بطله، والخاصة بفتاة وجدت تائهة في الميدان، تم تجاهل الجزء الأهم فيها، علمنا لاحقاً أن والد الفتاة قتل في التظاهرات، فتجاهل صناع المسلسل تماماً كيفية مقتله، حتى لا يتورّطوا في اتهام الشرطة بالقتل.
الشرطة في حماية “الثورة”!
لاحقاً يظهر ضابط كبير، يبدو أنه مدير جهاز مباحث أمن الدولة أو أحد قيادات الجهاز، في مشهد معبّر مع ابنه المراهق الذي يزوره في المكتب، يتهم الابن والده الضابط الكبير بالمسؤولية عن قتل المتظاهرين في الميدان، فيرد الأب بمحاضرة طويلة حول الجهود التي يبذلها رجال الشرطة في حماية المواطنين، نافياً أن تكون الشرطة مسؤولة عن قتل أحد، ثم يتهم مواقع التواصل بتسميم عقول الشباب، في تجاهل واضح لكون القتل المتعمد كان يجري على الهواء عبر شاشات التلفزيون، وأن الكثير من أحداث القتل موثقة بالفيديو.
الضابط نفسه يتحدث عن التنسيق الكامل مع الإخوان المسلمين، ويكرر بثقة أنهم لن يشاركوا في الثورة، وهو أمر مقصود، وإن كان يشي أيضاً بمحاولة التعمية على الخديعة التي تعرّضت لها الشرطة من جانبهم.
يلجأ المؤلف في كثير من المشاهد المصنوعة إلى الرواية الأمنية الرائجة، فالثوار يعذبون المواطنين في الميدان، ولدينا كمثال قصة الشرطي المتقاعد الذي يقوده حظّه إلى الجلوس إلى البطل في مشهد طويل مؤثّر، والذي تمّ الاعتداء عليه من جانب متظاهرين لأن تحقيق شخصيته ينسبه إلى الشرطة، كنموذج لإظهار المعتصمين باعتبارهم بلطجية، دون أدنى إشارة إلى عناصر الشرطة الذين اندسّوا بين المتظاهرين وألحقوا بهم الكثير من الأضرار، ما جعلهم يتحسبون ويكونون ما عرف وقتها بلجان الحراسة والتفتيش، ناهيك عن كون الثورة قامت ضد الشرطة بالأساس، وفي يوم عيد الشرطة تحديداً، ما يجعل الشرطة عدّواً صريحاً.
من هم البلطجية؟
يشوه المسلسل أيضاً ما سمي وقتها “اللجان الشعبية”، وهي مجموعات من المواطنين تولّت تأمين الأحياء والمناطق في ظلّ الانفلات الأمني القائم بعد اختفاء الشرطة يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، وأظهر المسلسل تلك اللجان الشعبية باعتبار المشاركين فيها بلطجية ولصوصا يتعاطون المخدرات ويمارسون قمع الآخرين، والواقع أنّ تلك اللجان الشعبية حمت البلاد من أخطار جمّة، ومنعت استمرار تدهور الوضع الأمني، الذي يرى كثيرون أن انفلاته كان مقصودا لترهيب المواطنين من المشاركة في الثورة أو دفعهم لرفضها أو كراهيتها.
موقف آخر يبدو كوميدياً لكنه يحمل رسالة واضحة، يسأل الدكتور فوزي جمعة سائقه، عن أشخاص يعتدون على شخص بالقرب من خيمتهم، فيرد السائق الشاب بعفوية: يبدو أنه فلول، فيسأل جمعة مستنكراً: وكيف عرفوا أنه فلول؟ فيرد السائق ببلاهة كوميدية: لأن الأمر يظهر على وجوههم. عندها يدبر جمعة للسائق موقفاً مماثلاً، حيث يتّهمه بأنه “فلول”، فيتجمع البعض ويعتدون عليه بقسوة.
وفي الموقف رسالة مفادها عدم استساغة إطلاق وصف الفلول على المختلفين في الرأي، أو أن الوصف كان يستخدم كفزاعة لترهيب الآخرين، والأمر وإن كان له بعض الوجاهة، فإن توظيفه ليس بريئاً، خاصة وأن معظم صناع العمل كان يطلق عليهم هذا الوصف في أعقاب الثورة، حتى أن بطله الأساسي عادل إمام كان يتصدر ما سمي وقتها بـ”القائمة السوداء”.