ظهور جماعة «جند الخلافة» في الجزائر والتي أعلنت عن مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أعاد تسليط الأضواء على الجماعات المسلحة في الجزائر، وهي حركات ظهرت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعرفت مجدها «الدموي» خلال التسعينيات، وصولا إلى «تدويل» العمل المسلح في الجزائر، وذلك في الفترة التي كانت فيه الجماعات المتشددة بدأت تعرف الأفول.
بدأ العمل المسلح في الجزائر في الثمانينيات من خلال حركة مصطفى بويعلي، هذا الأخير كان من مجاهدي ثورة التحرير الجزائرية، وغداة الاستقلال رفض الطريقة التي وضع بها ما كان يسمى «جيش الحدود» يده على السلطة في الجزائر، وازداد رفضه للنظام خلال السنوات الأولى لحكم الرئيس الاسبق أحمد بن بلة، وحين وقع الإنقلاب ضد بن بلة من طرف العقيد هواري بومدين وزير دفاعه في 19 حزيران/يونيو 1965، لم يكن بويعلي من المباركين والمهنئين لمجلس الثورة الذي وضع يده على السلطة.
أصبح مصطفى بويعلي بعدها بسنوات خطيبا في مسجد العاشور في العاصمة، وأصبح يلقي خطبا نارية ضد النظام، والسياسات المتبعة، وبدأت معها مراقبة الشرطة له ولمن يحضرون خطبه، لكن دون أن تصل الأمور حد الصدام، لكن في تشرين الأول/اكتوبر 1981 جاء رجال شرطة بلباس مدني لتوقيف بويعلي، لكنه تمكن من الفرار، وحاول الدخول في السرية، لكن جهات توسطت بينه وبين وزير الداخلية الأسبق الهادي لخذيري من أجل التوصل إلى تسوية، وفعلا وقع ذلك، وتعهد لخذيري بألا يتكرر ما حدث، وأن ما تعرض له بويعلي كان خطأ وفعلا معزولا سيعاقب من كانوا مسؤولين عنه.
بداية التمرد المسلح
ولكن في نيسان/ابريل 1982 وقعت محاولة جديدة لاعتقال بويعلي، ولكنه تمكن مرة أخرى من الفرار، معتبرا أن الاتفاق الذي وقع بينه وبين لخذيري تم خرقه، وقرر الدخول في السرية، وبدأ الاتصالات من أجل تشكيل تنظيم مسلح، حتى وإن كان هو نفسه لم يكن متحمسا في وقت سابق، لاتصالات وقعت معه من أجل هذا الغرض، وخاصة ما كان يعرف بجماعة الـ14 على مستوى حيي بولوغين والسيدة الإفريقية بالعاصمة، ولكن هذه الجماعة تم إلقاء القبض عليها خلال 14 ساعة، فيما ظل بويعلي في حالة فرار، مستعدا لإنشاء تنظيمه المسلح، الذي سمي الحركة الإسلامية المسلحة، الأمر الذي اضطر بويعلي للبقاء مختبئا لمدة تجاوزت السنتين، ثم عاد لربط اتصالات مع جهاديين آخرين للدخول في العمل المسلح. عدد من هؤلاء سيكونون نواة العمل المسلح الذي سينطلق بعد ذلك بسنوات، في تسعينيات القرن الماضي.
وفعلا تم وضع الأسس التنظيمية لحركة بويعلي في أعالي جبال البليدة غربي العاصمة، وبدأت عملية التجنيد، وتبقى العملية الأكبر التي قامت بها جماعة بويعلي هي الهجوم على مدرسة الشرطة في الصومعة في 26 من آب/اغسطس 1986، وتمكنوا من الاستيلاء على 340 قطعة سلاح، وأكثر من 18 ألف قطعة ذخيرة، هذه العملية استنفر لها النظام كل إمكانياته من أجل مطاردة جماعة بويعلي، ولم تدم سوى ستة أشهر، إذ تم إلقاء القبض على أغلبية أفراد التنظيم، فيما بقي مصطفى بويعلي في حالة فرار، إلى غاية 3 كانون الثاني/يناير 1987 إذ نصبت قوات الأمن كمينا لبويعلي وخمسة من رفاقه، ووقع تبادل لإطلاق النار، قتل خلاله آخر أفراد الحركة الإسلامية المسلحة، وعلى رأسهم مصطفى بويعلي.
خيط لم ينقطع
رغم أن الكثيرين اعتقدوا أن العمل المسلح والتطرف باسم الدين انتهى مع مقتل بويعلي، إلا أن ذلك لم يكن صحيحا، بدليل أن عددا من جماعة بويعلي كانوا أول من رفعوا السلاح مجددا في مطلع تسعينيات القرن الماضي، رغم استفادتهم من عفو رئاسي على أعمالهم السابقة، مثل عبد القادر شبوطي، ومنصور ملياني.
وصل النظام الجزائري مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إلى ما يشبه نهاية الصلاحية، خاصة وأن ذلك اقترن بأزمة اقتصادية حادة، كان لابد معها من فتح متنفسات لتفادي الانفجار، ورغم أن انفجارا وقع في الخامس تشرين الأول/اكتوبر 1988، إلا أن هذه الانتفاضة الشعبية ما تزال تطرح الكثير من التساؤلات بشأن عفويتها أو تدبيرها، والأسباب التي كانت وراء تحريكها أو تحركها، الأكيد أنها كانت المبرر الذي جعل النظام يذهب نحو انفتاح سياسي، لكن هذا الانفتاح فتح الباب أمام الإسلاميين للاقتراب من السلطة أكثر من اللازم.
الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تأسست في سنة 1989، نجحت في استقطاب تعاطف شعبي كبير، البعض يقول بأنه ناتج عن إيمان الشعب بها وببرنامجها، والبعض الآخر يرى بأنه نتيجة كفر بالنظام وسياساته المنتهجة منذ الاستقلال، هناك من يقول بأن جبهة الإنقاذ ظهرت وكبرت بتشجيع من النظام أو بعض منه، وأنها خرجت عن السيطرة بعد ذلك، فيما يعتقد فريق آخر أنها تيار جارف فرضته ظروف وعوامل موضوعية.
الأكيد أن جبهة الإنقاذ ضمت تيارات مختلفة بعضها متقارب وبعضها الآخر متنافر، الجميع كان يرفع شعار بناء الدولة الإسلامية، لكن أي دولة إسلامية، هل هي الطبعة التركية للدولة الإسلامية أو الطبعة الأفغانية؟ قيل الكثير عن التطرف داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( المحظورة ) هل هو سابق لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي فازت بالدور الأول منها، أم أنه نتيجة لهذا القرار وللإجراءات التي اتخذت ضد إسلاميي الجبهة مباشرة بعد إلغاء المسار الانتخابي؟ غير أن تيار «الهجرة والتكفير» كان له وجود داخل الجبهة، وصور الأفغان الجزائريين الذين كانوا يقومون باستعراضات عسكرية في الشوارع ما تزال حاضرة في الذاكرة، كما أن أول عملية إرهابية تم القيام بها ضد ثكنة عسكرية بمنطقة قمار بمدينة الوادي كانت سنة 1991 قبل إجراء الدور الأول من الانتخابات الملغاة.
بعد إلغاء الانتخابات وإعلان التمرد بدأت الجماعات المسلحة في الظهور، وتعددت التسميات واختلفت التوجهات، مثل الحركة الإسلامية المسلحة، والجبهة الإسلامية للجهاد المسلح، ولكن أبرز جماعتين هم الجيش الإسلامي للإنقاذ، الذي يعتبر الجناح المسلح للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكذا الجماعة الإسلامية المسلحة التي كان يشار إليها بالأحرف الأولى بالفرنسية « الجيا» والتي كانت من أكثر الجماعات دموية، خاصة وأنها انتقلت من تكفير النظام ورجاله، إلى تكفير الشعب، ووجدت من يمدها بفتاوى من الخارج، تجيز قتل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال بذريعة أن هؤلاء متواطئون مع النظام، ووصلت هذه الجماعة إلى حد تنفيذ عمليات إرهابية في الخارج أو ضد أهداف أجنبية، مثل تفجير مترو الأنفاق بباريس، ثم اختطاف طائرة الخطوط الجوية الفرنسية سنة 1994، فضلا عن اختطاف واغتيال رهبان دير تبحيرين جنوب الجزائر سنة 1996، قبل أن تشرع في تنفيذ مجازر جماعية بشعة لقرى بأكملها. ووقعت أيضا حرب بين الجماعة الإسلامية المسلحة والجيش الإسلامي للإنقاذ، ودخل التنظيمان في حرب تصفية لأفرادهما امتدت لسنوات، لكن السلطات بدأت نهاية التسعينيات تحاول تحييد بعض الجماعات وأفرادها، من خلال الإعلان عن قوانين تضمن لعدد من حملوا السلاح العودة إلى جادة الصواب، وكانت الاتصالات بين جهاز المخابرات والجيش الإسلامي للإنقاذ قد أفضت إلى إعلان هذا التنظيم عن وضع السلاح والنزول من الجبال.
تدويل العمل المسلح
لكن الجماعة الإسلامية المسلحة التي أصبح سجلها ثقيلا بالمجازر، قررت أن تغير التسمية، لتعلن عن تحولها إلى الجماعة السلفية للدعوة والقتال، والتي أسسها حسان حطاب، لكن هذه الجماعة تلقت ضربات موجعة من طرف قوات الأمن، كما أن عددا من أفرادها وضعوا السلاح ونزلوا من الجبال للاستفادة من تدابير العفو، الأمر الذي جعلها تعلن سنة 2007 عن انضمامها إلى القاعدة، معلنة عن تحولها إلى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، بقيادة عبد المالك دروكدال، التنظيم الجديد وقع بالدم هذ التحول من خلال سلسلة من العمليات الانتحارية سنة 2007، والتي استهدفت قصر الحكومة ومقر المجلس الدستوري ومقر الأمم المتحدة للجزائر، وكذا مقر الشرطة الدولية الانتربول، فضلا عن عمليات تفجير وكمائن نصبت لقوات الجيش.
التنظيم الجديد ـ القديم تمركز بشكل كبير في منطقة القبائل بشكل كبير، نظرا لتضاريسها الجبلية والغابية التي تسهل على أفراده الاختباء بها، كما نزح إلى الجنوب نحو منطقة الساحل، التي وجد فيها أرضا خصبة للقيام بعمليات انطلاقا من التراب المالي، مستغلا عدم سيطرة السلطات المركزية في باماكو على الوضع في الشمال، مع تزايد نفوذ حركات التمرد الأزوادية، وكذا تنامي نشاط جماعات الإجرام المنظم وكل أعمال التهريب، من السجائر إلى السلاح، وسهولة التجنيد في منطقة يسيطر عليها الفقر، ويحكمها منطق من يدفع أكثر.
لكن مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وتقويض نشاط تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي في الجزائر، من خلال الضربات النوعية التي وجهتها قوات الأمن والجيش، باستهداف رؤوس التنظيم، اعتمادا على عمل استخباراتي حثيث، أفقد القاعدة قوتها وقدرتها على الفعل، عدا بعض العمليات المعزولة التي كان التنظيم ينفذها بين فترة وأخرى ليبين أنه ما زال قادرا على إحداث الضرر.
مرة أخرى لجأت جماعات من تنظيم القاعدة للبحث عن امتداد دولي آخر، للهروب من تضييق قوات الأمن والجيش، والحصول على مصادر تمويل جديدة، والأهم من ذلك الحصول على عذرية جديدة، والتمكن من تجنيد أفراد جدد، خاصة وأن السياسات المنتهجة في السنوات الأخيرة، خاصة اجتماعيا قللت من حجم الاحتقان الاجتماعي، الذي دفع بالكثير من الشباب إلى أحضان الجماعات الجهادية.
ولاح ظهور وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام كأنه فرصة جديدة للانبعاث من الرماد، وظهرت الجماعة التي تسمي نفسها تنظيم جند الخلافة معلنة ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية ولقائدها أبو بكر البغدادي، والتي وقعت ميلادها العملية الأولى باختطاف واغتيال الرعية الفرنسي هيرفي غوردال، بطريقة تحاكي عميات الاغتيال والإعدام التي نفذها تنظيم الدولة في العراق والشام.
ورغم الجدل الذي أثاره ظهور جماعة تعلن الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن المتتبعين لشؤون الجماعات المسلحة، يرون أن عمر التنظيم الجديد الذي هو عبارة عن انشقاق داخل انشقاق لن يكون طويلا، وأن العمل المسلح في الجزائر فقد الكثير من أسبابه، وخاصة ما يسمى إلغاء المسار الانتخابي سنة 1991، أصبح جزءا من الماضي، والتحديات السياسية المطروحة الآن مختلفة كليا، وأن مطاردة قوات الأمن والجيش لهذه الجماعة ستكلل بالنجاح قريبا، بدليل أن هذه الأخيرة وصلت إلى مخابئها ودمرتها، ولم يتبق إلا مطاردة عناصرها واحدا واحدا.