ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م وقيل 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات، وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققًا رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى.
لقد ذاق عمر المختار -رحمه الله- مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه المليء بالإيمان وحب الله ورسوله ، حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة.
ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظاهري المدني، وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم، وكان مخلصًا في عمله متفانيًا في أداء ما عليه، ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجَّل عمل يومه إلى غده.
وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعًا، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال، وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية، وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات.
كما أنه أصبح خبير بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج، وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة، ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو، وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.
وصف عمر المختار
كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ، وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.
تلاوة عمر المختار للقرآن الكريم وعبادته
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يوميًّا، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر، (وردك القرآن). وقصة ذلك كما ذكرها محمد الطيب الأشهب، أنه استأذن في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بئر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان، وعندما دخل على المهدي تناول مصحفًا كان بجانبه وناوله للمختار وقال: هل لك شيء آخر تريده؟ فقلت له: يا سيدي، إن الكثيرين من الإخوان يقرءون أورادًا معينة من الأدعية والتضرعات أجزتموهم قراءتها، وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات، فأطلب منكم إجازتي بما ترون. فأجابني بقوله: (يا عمر، وردك القرآن).
فقبّلت يده وخرجت أحمل هذه الهدية العظيمة (المصحف)، ولم أزل بفضل الله أحتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم، وصرت مداومًا على القراءة فيه يوميًّا لأختم السلكة كل سبعة أيام، وسمعت من شيخنا سيدي أحمد الريفي أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئًا (بالفاتحة) إلى (سورة المائدة) ثم إلى (سورة يونس)، ثم إلى (سورة الإسراء) ثم إلى (سورة الشعراء)، ثم إلى (سورة الصافات) ثم إلى (سورة ق) ثم إلى آخر السلكة، ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب.
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الإيمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالأمانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع، وقد تجلى هذا الإيمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وكان يتعبد للمولى بتنفيذ أوامره ويسارع في تنفيذها، وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى، وكان محافظًا على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة. ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف أنني قابلت أحدًا من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.
لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل، واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيرًا، يذكر في مذكراته أنه كان يأكل معه وينام معه في مكان واحد ويقول: “لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين أو ثلاثًا على أكثر تقدير، ويبقى صاحيًا يتلو القرآن الكريم، وغالبًا ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود إلى تلاوة القرآن، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار”.
وأما الأستاذ محمد الطيب الأشهب فقد قال: “وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذه المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته وإلى جانبه، وأهم ما كنت أمقته منه -رحمه الله- وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لا يتركنا أن ننام؛ إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكرًا فيأمرنا بالوضوء، بالرغم مما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر”.
وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الأبيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م وقيل 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات، وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققًا رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى.
لقد ذاق عمر المختار -رحمه الله- مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه المليء بالإيمان وحب الله ورسوله ، حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة.
ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظاهري المدني، وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم، وكان مخلصًا في عمله متفانيًا في أداء ما عليه، ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجَّل عمل يومه إلى غده.
وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعًا، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال، وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية، وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات.
كما أنه أصبح خبير بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج، وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة، ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو، وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.
وصف عمر المختار
كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ، وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.
تلاوة عمر المختار للقرآن الكريم وعبادته
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يوميًّا، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر، (وردك القرآن). وقصة ذلك كما ذكرها محمد الطيب الأشهب، أنه استأذن في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بئر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان، وعندما دخل على المهدي تناول مصحفًا كان بجانبه وناوله للمختار وقال: هل لك شيء آخر تريده؟ فقلت له: يا سيدي، إن الكثيرين من الإخوان يقرءون أورادًا معينة من الأدعية والتضرعات أجزتموهم قراءتها، وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات، فأطلب منكم إجازتي بما ترون. فأجابني بقوله: (يا عمر، وردك القرآن).
فقبّلت يده وخرجت أحمل هذه الهدية العظيمة (المصحف)، ولم أزل بفضل الله أحتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم، وصرت مداومًا على القراءة فيه يوميًّا لأختم السلكة كل سبعة أيام، وسمعت من شيخنا سيدي أحمد الريفي أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئًا (بالفاتحة) إلى (سورة المائدة) ثم إلى (سورة يونس)، ثم إلى (سورة الإسراء) ثم إلى (سورة الشعراء)، ثم إلى (سورة الصافات) ثم إلى (سورة ق) ثم إلى آخر السلكة، ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب.
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الإيمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالأمانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع، وقد تجلى هذا الإيمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وكان يتعبد للمولى بتنفيذ أوامره ويسارع في تنفيذها، وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى، وكان محافظًا على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة. ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف أنني قابلت أحدًا من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.
لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل، واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيرًا، يذكر في مذكراته أنه كان يأكل معه وينام معه في مكان واحد ويقول: “لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين أو ثلاثًا على أكثر تقدير، ويبقى صاحيًا يتلو القرآن الكريم، وغالبًا ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود إلى تلاوة القرآن، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار”.
وأما الأستاذ محمد الطيب الأشهب فقد قال: “وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذه المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته وإلى جانبه، وأهم ما كنت أمقته منه -رحمه الله- وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لا يتركنا أن ننام؛ إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكرًا فيأمرنا بالوضوء، بالرغم مما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر”.
وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الأبيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].
لقد وصى رسول الله أبا ذر بذلك فقال: “عليك بتلاوة القرآن؛ فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء”. وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال: “إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبْ”.
قال الشاعر:
قم في الدجى واتل الكتاب *** ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلـربما تأتي المنية بغتــة *** فتساق مـن فرش إلى الأكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى *** من خشية الرحمن باكيتـان
اعرض عن الدنيا الدنيئة زاهدًا *** فالزهد عند أولى النهى زهدان
زهد عن الدنيا وزهد في الثناء *** طوبى لمن أمسى له الزهدان
إن من اسباب الثبات التي تميز به عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته إدمانه على تلاوة القرآن الكريم، والتعبد به وتنفيذ أحكامه؛ لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة.
لقد كان عمر المختار يتلو القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم، فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد، ولقد صاحبه حاله في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق إلى حبل المشنقة وهو يتلو قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].
شجاعة عمر المختار وكرمه
إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر؛ ففي عام 1311هـ (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان يضم كل من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي أحد أعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة)، وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها.
وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان، قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره، ومن العادة -إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيرًا كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام. واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت، فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان؛ إنها علامة الهوان والمذلة. إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا).
وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: إنني أخجل عندما أعود وأقول إنني تركت بعيرًا إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها. وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر، فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد. فانبرى عمر المختار ببندقيته وكانت من النوع اليوناني، ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل، فكان له ما أراد.
إن هذه الحادثة تدلنا على شجاعة عمر المختار، وقد تناولتها المجالس يومذاك بمنتهى الإعجاب، وقد سأل الاستاذ محمد الطيب الأشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة، فأجاب بقوله: تريدني يا ولدي أن أفتخر بقتل صيد. قال لي ما قاله قديمًا أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسدًا (أتفتخر عليَّ بأنك قتلت حشرة). وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
إن جواب عمر المختار بهذه الآية الكريمة يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم؛ لأنه تعلم أن أهل الإيمان والتوحيد في نظرتهم العميقة لحقيقة الوجود، وتطلعهم إلى الآخرة ينسبون الفضل إلى العزيز الوهاب I، ويتخلصون من حظوظ نفوسهم، فهو الذي مرّ كثيرًا على دعاء نبي الله يوسف : {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
وهو الذي تعلم من سيرة ذي القرنين هذا المعنى الرفيع، والذي لا بد من وجوده في الشخصية القيادية الربانية في قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98]. فعندما بنى السد، ورفع الظلم، وأعان المستضعفين نسب الفضل إلى ربه I.
إن عمر المختاركان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاة الغلبة بعد ما تخلص من الأسد الأسطورة، وأزاح الظلم وقهر التعدي، بل نسب الفضل إلى خالقه؛ ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
إن صفة الشجاعة ظهرت في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد إيطاليا، ويحفظ لنا التاريخ هذه الرسالة التي أرسلها عمر المختار ردًّا على رسالة من الشارف الغرياني الذي أكرهته إيطاليا ليتوسط لها في الصلح مع عمر المختار، وإيقاف الحرب.
قال بعد البسملة والصلاة على رسول الله القائل إن “الجنة تحت ظلال السيوف”، إلى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد محمد إدريس ابن السيد محمد المهدي ابن السيد محمد السنوسي جميعًا، فهو الذي يستطيع قبول البحث معهم أو رفضه، وأنتم لا تجهلون هذا بل وتعرفون إذا شئتم أكثر من هذا، ومكان سيدي إدريس في مصر معروف عندكم، وأما أنا وبقية الإخوان المجاهدين لا نزيد عن كوننا جند من جنوده لا نعصي له أمرًا، ونرجو من الله I أن لا يقدر علينا مخالفته، فنقع فيما لا نريد الوقوع فيه، حفظنا الله وإياكم من الزلل، نحن لا حاجة عندنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن وأعدائنا، وليس لنا من الأمر شيء، إذا ما أمرنا سيدنا وولي نعمتنا – ونفعنا به- بوقف القتال نوقفه، وإذا لم يأمرنا بذلك فنحن واقفون عند ما أمرنا به، ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس المكسرين (هم المجندون من بعض الليبيين)، ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار وبخوا به الزروع النابتة في الأرض، نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون، ونحن لا نريد لكم ما يدفعكم إليه النصارى، وظننا بكم خير، والله يوفقنا ويهدينا وإياكم إلى سبل الرشاد وإلى خدمة المسلمين ورضاء سيدنا ، وسلام الإسلام على من تبع الإسلام.
إعدام شيخ الجهاد عمر المختار في بلادنا الحبيبة
وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931م عند الساعة التاسعة صباحًا نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الاعدام شنقًا في شيخ الجهاد، وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.
ودفعت الخسة بالإيطاليين أن يفعلوا عجبًا في تاريخ الشعوب، وذلك أنهم حرصوا على أن يجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ، فأرغموا أعيان بنغازي، وعددًا كبيرًا من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ، فحضر ما لا يقل عن عشرين ألف نسمة. على حد قول غراسياني في كتاب (برقة الهادئة).
ويقول الدكتور العنيزي: (لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن أستطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور).
ويا لها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشارًا بالشهادة وارتياحًا لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوي لمنع الاهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذ ربما يتحدث إليهم أو يقول كلامًا يسمعونه، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.
وهناك أعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخُطا ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمنزلة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه -ومنهم ليبيون- أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ أذان الصلاة، وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].
لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه، لقد كان يقول: (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة).