بعد انتخابات تشريعية لم تنجح في لفت انتباه 65 بالمائة من المواطنين، وألقى خلالها ما يقارب المليوني مشارك في صناديقها “بأكياس الشاي والحليب” بدل أوراق التصويت الخاصة بالأحزاب المتنافسة، تكرست الصورة أكثر بتشكيل حكومة لا تحمل وعدا بأي جديد، معلنة استمرار “الجمود” عنوانا للواقع السياسي في هذا البلد الذي اختارت سلطته مراكمة المشاكل وتأجيلها، بديلا لمواجهتها ومحاولة تدارك ما يمكن تداركه من تبعاتها الكارثية.
وبالعودة إلى الانتخابات الأخيرة، فهي لم تكن محاطة سوى برهانين: الأول، اتضاح معالم حسم معسكر الرئاسة لممثله ما بعد الرئيس العاجز عبد العزيز بوتفليقة، والثاني، معرفة إمكانية إحداث تغيير في بنية السلطة التنفيذية عبر إدماج “المعارضة” المنخرطة في لعبة السلطة القائمة.
بخصوص الأول، فقد باء سعي أحمد أويحيى، الذي ينظر إليه على أنه “الممثل الرسمي للنفوذ الفرنسي في الجزائر” بالفشل، ولم تفرز الانتخابات توافقا على تبوء حزبه، التجمع الوطني الديمقراطي المركز الأول، وهو ما يعني عدم اتفاق أجنحة السلطة المتنافسة على تسليم راية خلافة بوتفليقة لمدير ديوانه. حيث وإن تم تقليص حصة “حزب الرئيس” جبهة التحرير الوطني، فإنها لم تفقد صدارتها، مما أهلها، والطرف الذي يمثلها داخل معسكر الرئاسة، للاستمرار في قيادة التجربة الحكومية، والمجلس النيابي، في تقاسم وشراكة طبعا مع الإخوة الأعداء في التجمع. تحالف يمليه تقاطع مصالح المعسكرين مع النفوذ الأجنبي في البلاد، وكذا امتلاك كل منهما لأوراق قوة لا يستطيع الآخر الاستغناء عنها. فالجبهة التي تتغلغل في دواليب الإدارة المحلية عبر الولاة والبلديات، تواجه بامتلاك التجمع لورقة القطاع الخاص والتغلغل المقابل في مختلف دواليب الاقتصاد ومؤسساته العامة والخاصة.
أما بالنسبة للأحزاب الإسلامية والجهوية التي لم تختر مقاطعة الانتخابات، بناء على وعود أو أوهام تلقتها بتنظيم “انتخابات نزيهة” تضمن لها مشاركة وازنة في تسيير الشأن التنفيذي، أفاقت على صدمة كانت معلومة للجميع بأنها لم تحصل سوى على فتات، بالكاد يكفي لتوزير أمنائها العامين. ولا يمكن فهم سلوك المتنفذين داخل حلقة اتخاذ القرار سوى كاستخفاف بما تمثله هذه الأحزاب داخل الشارع الجزائري، وأن لها قراءتها الخاصة للأزمة تجعلها لا تستشعر ضرورة لتوسيع دائرة المشاركين عن الجبهة والتجمع، أو أن مشاركة الإسلاميين هي مجرد وجهة نظر لدى أحد جناحي معسكر الرئاسة، وأن الجناح الرافض كانت له الكلمة الفصل.
أما الحكومة الجديدة القديمة، فتصدق عليها نفس القراءة. فالرئيس الثمانيني الذي وضع أحد مجايليه (السعيد بو حجة) رئيسا للغرفة السفلى في البرلمان، بعد أن ثبّت آخر يصغرهم بثلاثة أعوام (عبد القادر بن صالح) على رأس الغرفة العليا للبرلمان، أراد استكمال العقد بتعيين وزير أول في الثانية والسبعين (عبد المجيد تبون)، سعيا إلى تشبيب الفريق ربما!!
جمود يتضح في التشكيلة الحكومية التي لم تشهد تغييرا يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن استبدال بعض الوزراء التكنوقراط بآخرين تغييرا، أو راهنا على أي تغيير في السياسة الخارجية الجزائرية بسبب استبدال رمطان لعمامرة بعبد القادر مساهل!!
إن التغيرات الحاصلة داخل الجزائر (إذا جازت تسميتها بالتغييرات)، تدلل على أن الجمود الذي يطال رأس السلطة، واختلاف الأجنحة داخله، يبقى البلد في حالة “إنتقالية” إلى أجل يحدده الله وحده، الذي يعلم يقينا متى سيعلن عن شغور منصب الرئاسة بوفاة الرئيس العاجز. وأن كل أمل أو وهم يخص إمكانية مشاهدة أي تغيير يطال السياسات الداخلية أو الخارجية الجزائرية هو مجرد وهم، تكذبه التطورات اليومية في هذا البلد المحوري. ولأن الطبيعة لا تقبل الجمود طويلا، فإن هذا الجمود يفتح مستقبل البلاد برمتها على المجهول، في ظل رأي عام ساخط، وأزمة اقتصادية طاحنة، وفساد يستشري على كل المستويات، ومؤسسة عسكرية عزلت نفسها عن هذه المعركة واكتفت بمراقبة تطور الاوضاع.