أمضى الفرنسيون جزءا من ليلة الأربعاء وظلوا إلى ساعة متأخرة مشدودين إلى أطوار النقاش التلفزيوني الحاسم حيث تواجه المرشحان النهائيان لمنصب رئاسة الجمهورية.
وكما توقع الملاحظون اتسمت المواجهة بين “إيمانويل ماكرون” مرشح الوسط المستقل وبين نجمة الجبهة الوطنية “مارين لوبين” بالحدة والتوتر، وكادت المبارزة الديموقراطية أن تخرج عن قواعدها المرسومة بالتوافق،خاصة في اللحظات الحرجة حينما وجهت مرشحة اليمين المتطرف مدفعيتها نحو منافسها “ماكرون” الذي سرعان ما انتبه إلى الفخ الذي نصبته له،إذ أرادت جره إلى مربع ساحة المعركة الذي حددته، من خلال إغراقها النقاش في سيل من الكلمات والانتقادات المتشابهة المنتقاة من نبع قاموس الجبهة الوطنية الذي ألفه والدها “جان ماري لوبين” منذ تأسيسه حزب الجبهة الوطنية بداية سبعينيات القرن الماضي، وظهر جليا أنها متمسكة به وفية له، مبنى معنى، لا يسمح أفقها الفكري بتجاوزه.
واجمع الملاحظون باستثناء أنصار اليمين المتطرف في اعقاب النقاش أن “لوبين ” كانت ضعيفة إلى حد كبير لدرجة تساؤل كثيرين كيف يمكن لمرشحة بذلك المستوى من الضحالة الفكرية قيادة دولة في حجم فرنسا القوة الصناعية الخامسة في العالم ، العضو في النادي النووي ومجلس الأمن الدولي، عدا التاريخ الفكري المجيد.
وفضحت “مارين لوبين” جهلها بدفاعها السطحي عن أفكار اليمين المتطرف وبدا للمشاهدين في لحظات مفصلية أنها ستغير وجه فرنسا نحو الأسوأ والمجهول إن هي فازت في اقتراع السابع من مايو المقبل.
وعلى بسيل المثال أعلنت “لوبين” أنها ستغلق كإجراء عاجل يوم الثامن من مايو، كل حدود بلادها لتشرع على الفور في شن حملة مطاردة ضارية للأجانب وخاصة المسلمين، الذين تشتبه في تبنيهم للفكر الجهادي، بناء على معلومات مسجلة عنهم في سجلات الشرطة السرية والاستخبارات الفرنسية كإجراء وقائي؛ دون أن تستثني دور العبادة والمساجد التي تعتبرها” مارين لوبين” أوكارا للتطرف. بدت حقيقة أنها مرشحة الرعب…
وأمام شعبوية جارفة ميزت خطاب”لوبين” طول مدة النقاش، لم يكن من السهل على “ماكرون “إعادتها إلى جادة الصواب والحوار الموضوعي بالتركيز على عرض البرامج العملية والمقارنة فيما بينها وتبيان تبعاتها وكلفتها المالية والسياسية أن طبقها أحد المرشحين المتنافسين،بل استمر التراشق بالعبارات النارية وهبطت المناظرة عموما إلى مستوى متدن فلم يكن من الضروري ان تستغرق ساعتين ونصف من الزمن الممل.
وغابت عن النقاش اغلب القضايا الحيوية التي تهم الفرنسيين؛ فإما أنها غيبت بالعمد أو أن الصحافيين اللذين ادارا الحوار عدلا عن إثارتها لكي لا تزداد النار اشتعالا ن بل إن دورهما كان باهتا في إذكاء النقاش وتوجيهه الوجهة الصحيحة ويبدو أنهما انضبطا لرتيبات مسبقة حددها المتنافسان
وبالتالي فإن مواضيع السياسة الخارجية ودور فرنسا في الفضاء الدولي وقضايا الدفاع والوجود العسكري خارج الحدود ثم الأمن النووي والبيئة وحتى الصحة وأوضاع المستعمرات الفرنسية في المحيطين الأطلسي والهندي حيث انتفضت الساكنة فيها محتجة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.كل تلك الملفات كانت باهتة الحضور
ومن جهته حاول المرشح ماكرون ،طمأنة الفرنسيين، دون أن يفصح بالكامل عن تفاصيل برنامجه، لكنه رسم عموما ، صورة متفائلة عقلانية للمستقبل دون إخفاء التلميح بضرورة اللجوء إلى تضحيات ستترتب عن الإصلاحات التي يعتزم تنفيذها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية، أدلى بإضاءات عن بعضها مثل تقليص عدد أعضاء الجمعية الوطنية واعتماد جزئي لنمط الاقتراع النسبي بما يضمن تمثيلية شرائح المجتمع الفرنسي كما شدد على أهمية استمرار بلاده قوية فاعلة في اتحاد أوروبي ناجع وقادر على حماية مصالح القارة في مواجهة عولمة شرسة.
والحقيقة أن مزية الحوار الاساسية، تجسدت في أنه عرى تماما ضعف مرشحة “الجبهة الوطنية” اظهرها متشنجة توزع الاتهامات يمينا ويسارا،ولم ترق في لحظة من اللحظات بفكرها إلى مستوى محترم، وإنما سجنت نفسها طول الوقت في قفص الخطاب التحريضي الذي استعملته اثناء الحملة الانتخابية ولم تفرق بين مقتضيات الحملة ونقاش تلفزيوني مفصلي،يحتم عليها الظهور بأفضل ما عندها من أفكار وبرامج وعرضها بكيفية هادئة مقنعة دون تهريج أو تجريح مجاني لمنافسها، ولانها تعلم أنها خاسرة فقد أحرقت قوارب لن تمتطيها مستقبلا.
ومن الواضح أن الاختيار بات جليا أمام الناخبين الفرنسيين. ولا يشك المحللون والمعلقون في فوز “ماكرون” لكنهم يدعون صراحة إلى التصويت لمرشح الوسط بكثافة لطرد أي احتما سيئ من جهة وحتى لا تظهر رئيسة الجبهة الوطنية كزعيمة للمعارضة الشعبية، ما يساعدها على الاستفادة من نسبة التصويت لصالحها واستثمار ذلك في الانتخابات التشريعية المقبلة.
والحقيقة ان المتضرر الأكبر من مستوى نقاش ليلة الأربعاء وما شابه من اجواء مشحونة، ليس “الجبهة الوطنية” وحدها وإنما أيضا اليسار الشعبوي الذي انفرد زعيمه بموقف الامتناع عن توجيه ناخبيه للتصويت لصالح ماكرون، واضعا نفسه خارج ما يسمى في فرنسا “الصف الجمهوري”
لقد تبنى “جان لوك ميلانشون” موقفا غريبا وانتحاريا ، سيظل نقطة سوداء في سجله السياسي، لم يجرء عليه مرشح اليمين المعتدل “فرانسوا فيون” بل حتى “نيكولا ساركوزي” رغم ما لهما من اسباب للثار لنفسيهما
فأمام الخطر الداهم وتهديد القيم المؤسسة للجمهورية، لا يبقى أي مجال للتردد والتبريرات الفارغة