تفصل المغاربة عن الاستحقاق التشريعي فترة تتقلص مع توالي الأيام، في ظل مؤشرات على أجواء سياسية متكاسلة؛ وكأن البلاد ليست على وشك موعد فاصل في مسار استكمال ورش بنائها الديمقراطي. اقتراع سيرهن مستقبلها خلال فترة خمس سنوات، يجهل الناخبون تحدياتها وتجلياتها وكذا إكراهاتها.
والمفروض في حالة مثل هذه، أن تغتني الحياة السياسية وتزدهر بزخم من الأفكار والتصورات والبرامج المتنافسة،يتم التعبير عن مضامينها وأهدافها بالتعريف بها على أوسع نطاق وإثارة نقاش عمومي حولها عبر الوسائط التقليدية وقنوات الاتصال المتاحة ورافعات التكنولوجيا الرقمية؛ ما يمكن المواطنين من التفاعل مع ما هو مقترح عليهم قصد إبداء الملاحظات والمؤاخذات والانتقادات، إثراء للبرامج وتصويبا لاعوجاجها.
وبعيدا عن أي اختزال أو نيل من قيمة أي عرض سياسي قدم للمغاربة في غضون السنوات الخمس الماضية؛ فإنه يجوز القول إن ما راج وروج له في الساحة،لم يرق عموما إلى مستوى متناسب مع انتظارات الرأي العام الوطني. لم يستثمر جيدا الفرص التي وفرتها الوثيقة الأسمى،في إطار من التباري الحر للأفكار والمفاضلة بين البرامج لتجديد فكر النخب الحزبية المتنافسة، تمشيا مع ما يطمح إليه المغاربة وتتطلبه مرحلة الانتقال الصعب نحو وضع أفضل.
لا يريد الفاعلون السياسيون التخلي عن نهج ألفوه في الماضي: فلا غالبيتهم الحكومية أبانت عن عمق وانسجام فكري بإنتاج البدائل الناجعة لمواجهة المشاكل المتراكمة، فتؤكد بذلك جدارتها بالثقة والمسؤولية التي أسندها إليها الناخبون في الاستحقاقات الماضية؛ كما أن المعارضة من جهتها أصابها نفس داء الوهن الفكري،وباتت متخصصة في اللوم والعتاب اللفظي المتشنج للحكومة، ما جعل “النقاش” المتواضع بين المعسكرين، منحصرا في مقاربات سطحية لقضايا التدبير العادي للشأن المحلي والوطني، في غياب للخيال السياسي والنظر البعيد.
ليس أمام المغاربة إرهاصات برامج مقنعة ورِؤى وتصورات استباق لمشاكلنا تتسم بالعمق والاجتهاد العقلاني،قابلة للتطبيق والأجرة كيفما كان لون الجهاز التنفيذي، ذات مردودية مضمونة.
ويصدم المتأمل في الشأن المغرب، فراغ في الخزائن الحزبية من الأرصدة الفكرية الكفيلة بتأجيج نار الحوار في المجتمع. هذه تنتصر لها جماعات وأخرى تعارضها تنظيمات وبينهما فئات تنشد الوسطية والاعتدال، انعكاسا لما يسري في المجتمع.
وهذه المحاولة البسيطة في التوصيف،لا تدعي الغور في عمق الأسباب الظاهرة والخفية لهذا الضعف ولا تضع اليد على مكمن الخلل وكيفية تجاوزه؛ باعتبار ذلك الشرط المفضي للانفتاح على حقل زاخر، يحرك تدافعا بين المقاربات، فيتحول المجتمع إلى ورش دائم.
هل وقفت الحياة السياسية عند نقطة الصفر؟لا تلتفت إلى الماضي القريب لتقييمه واستنطاقه واستخلاص النتائج والعبر منه. لا ترنو إلى المستقبل لمساءلته واستكناه ما يضمره؟
هنا مصدر حيرة يستشعرها محلل الشأن السياسي في المغرب، جراء ما يلاحظه من قصور في الرؤى المتبصرة القادرة على ترويض معيقات التنمية وتيسير التحديث المجتمعي وتسريع المسار الديمقراطي.
على العكس، يوجد وضع مفارق يتجلى في انشغال أغلب الفاعلين الحزبين بفنون الفرجة وألوان الفكاهة والسخرية؛ خطها الناظم التبخيس المتبادل للخصم ؛وكأن غاية السياسيين انتزاع الضحكات المجلجلة من الجمهور لإلهائه عن التدبر في حاله، ناسيا حقه في النقد والمحاسبة والاعتراض والمشاركة في صنع مستقبله ومصيره.
بعد ثلاثة أشهر، سيتدفق على الساحة السياسية وافدون وفاعلون يدعون القدرة على حل المشاكل مهما اشتدت وطأتها واحتار الخبراء بخصوصها.
إن إحياء حفلات الفرجة القادمة، لن يكلف أغلب الفاعلين الحزبيين سوى الإفراط في الوعود ودغدغة الرغبات الشعبية الدفينة، لخلو المديدان من سلطة رقابية مستقلة رادعة، قادرة على الفحص والفضح وتمييز الخطأ من الصواب ؛ فكل حزب فرح بما لديه، يروج لبضاعته في السوق وفق أساليبه الخصوصية في الاستمالة والإغراء.
لقد عجزت المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث، بنقائصها وإيجابياتها، وكذا المجتمع المدني، في فرض وجودها وإقناع الطبقة السياسية بجدوى السلطة العلمية المؤهلة للفصل بين العقل والمحال في الفعل السياسي.علما أنها شرط ازدهار الحياة الديمقراطية في المجتمعات الحديثة
كثيرة ومتشعبة هي مشاكل المستقبل، تطل علينا وتنذرنا في الزمن الحاضر، لكننا لا نتوفر على الاحتياطي الكافي من المخططات والمشاريع البديلة للتحكم في مخاطرها والحد من أضرارها المحتملة.
في هذا السياق لا نسمع عن مبادرات طلب الخبرة والافتحاص لبعض من قضايانا العويصة، يتكفل بها خبراء ودارسون متمرسون، لتمكين أصحاب القرار السياسي من خارطة طريق، يسترشدون بها في تلمس حلول الممكنة متلائمة مع طبيعة التحديات.
ليست لنا ما يكفي من المعطيات المدققة عن وضع بلادنا: كيف سنكون بعد عقدين أو ثلاثة.ما صورة اقتصادنا وتعليمنا وعلاقاتنا مع الجوار الأقرب. ما مآل التجمعات الإقليمية والقارية التي نرتبط بها كليا أو جزئيا.. ما هي سمات تطور الشأن الديني في أجواء التطرف والإرهاب. وباختصار ما صورتنا وموقعنا في العالم ؟
أسئلة كبيرة، لا تملك عنها الطبقة السياسية جوابا مقنعا. ما لدينا لا يعدو متمنيات ونوايا.
إن الدولة بمدلولها المادي والرمزي، وبحكم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، تدبر شؤونها الآنية، وتفكر في المستقبل بأساليبها ومنهجياتها، لتكون جاهزة لحظة المفاجآت والمستجدات الطارئة.
والدولة غير مجبرة على الكشف عن أوراقها ووصفاتها بل على الأطراف الأخرى أن تصنع مثلها وإشراكها فيما لديها من أفكار تثري بها احتياطها الاستراتيجي لاستعماله عند الضرورة حينما يعجز الساسة أو يفشلون.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلي نقد شديد كالته وسائل الإعلام في جارتنا الشمالية للأحزاب السياسية التي كانت السبب، لعدم اتفاقها، في إعادة الانتخابات التشريعية. عابت عليها تنظيم حملات انتخابية فارغة لم تخرج عن تبادل الاتهامات والشتائم، رغم أن الإعادة كلفت الخزينة العامة حوالي 150مليون يورو، بدون طائل تقريبا، باستثناء إرضاء نزوات الأحزاب ومكاسبهم الفئوية.
ذاك النقد غير المحابي جرى التعبير عنه علانية في مجتمع متطو بمؤسسات دستورية راسخة، لا يواجه تهديدا خارجيا. ينعم باقتصاد واعد بالنمو السريع وقد استعاد عافيته. إسبانيا ستتجاوز هذا العام عتبة 72 مليون سائح.
الأكثر دلالة أن مراكز البحث ومختبرات التحليل السياسية والجامعات وهيئات المجتمع المدني، فضلا عن مؤسسات استطلاعات الرأي؛ لا تكف عن سبر أغوار المستقبل واستنطاقه، ليكون الشعب على بينة من الوضع وعارفا بالوجهة التي تقصدها البلاد. فماذا هيأت أحزابنا لإقناع الناخب وطمأنته؟
وهل ينبغي أن نعيد السؤال القديم: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟؟