يجتهد من تبقى مؤمنا بجدوى استخدام ورقة البوليساريو من أجنحة النظام الجزائري المتنازعة، في معاندة الوحدة الترابية للملكة المغربية هذه الساعات، في محاولة يائسة لصنع “حدث” من واقعة وفاة رئيس البوليساريو، وتحويله من عميل إلى بطل، ومن رئيس عصابة إلى قائد “ثورة”. نقول يائسة لأن ما يحاولون صنعه يعاند حقائق التاريخ وطبيعة الأمور وذاكرة الناس، حيث لا وجود أصلا “لجمهورية صحراوية” حتى يكون عبد العزيز رئيسها، ولا وجود “لشعب صحراوي” موهوم هو الآخر حتى يكون قائده، ولا وجود بالتالي “لثورة تحرر صحراوية” حتى يكون زعيمها.
إن الإسهاب في ذكر تفاصيل رسالة التعزية المنسوبة لرئيس ميت أصلا هو بوتفليقة، لن يحولها إلى تعزية في ند أو نظير. كما أن الاكتفاء بذكر عدد برقيات التعزية التي وصلت من رؤساء الدول التي تعترف بجمهورية الوهم، لن يغطي على حقيقة أن الأربعين دولة المقصودة، باستثناء بضع دول لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، هي جمهوريات ودول لا تملك من مؤهلات حمل هذا الاسم أزيد مما تحمله “الجمهورية الصحراوية” نفسها، أي أننا حقيقة نعيش في واقع افتراضي ساخر تتبادل فيه “جمهوريات كرتونية” الاعتراف والتعازي، لإغراق من يسكنون فيها في وهم أنهم ينتمون إلى كيانات أصيلة تملك مقومات الحياة والاستمرار. أما ما تبقى من دول كبيرة لا تزال تعترف بهذه الجمهورية المزعومة، فهي تعيش وهمها الخاص، بعد أن اختارت قياداتها المحنطة البقاء في سجن أيديولوجي كبير، يناسب واقعها الافتراضي الخاص.
وإذا تجاوزنا الإطار الذي يجرد محمد عبد العزيز من هالة الزعامة والقيادة التي تجهد بعض الأجنحة في الجزائر نفسها في إضفائها عليه، وننتقل إلى محاولة البحث عن ما يبرر هذه الهالة في شخصه، سيطالعنا واقع أسوأ، حيث تبدأ سيرته بخيانة الوطن ونضالاته من أجل استكمال تحرير الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني، وتستمر بالعمالة للنظام الجزائري خلال وبعد الحقبة البومدينية، أسيرة لمفاهيم الحرب الباردة، وتكتمل بالتحول إلى جزار لأبناء وطنه الذين احتجز بضع عشرات من الآلاف منهم في مخيمات تنعدم فيها أبسط الشروط الإنسانية، وتختم هذه السيرة المكتوبة بالدم والمسربلة بالعار، بالتحول إلى مرتزق، يحترف التجارة بالبشر والسلاح والمخدرات والمساعدات الإنسانية المقدمة لأبناء المخيمات، مع العصابات الدولية الناشطة في الصحراء الكبرى.
إن من يستحق الالتفات في مناسبة الموت المهيبة هذه ليس الجلاد، بل ضحاياه. ومن يستحق الالتفات والوقوف إجلالا واحتراما ليس صاحب الجسد المسجّى في تابوت، بل الشيوخ والنساء والأطفال الذي احتجزهم هو وزبانيته على مدى أزيد من أربعة عقود، في خيام لا تليق بكرامة البشر، وتسبب لهم بعذابات ستتبعه إلى دار القرار، ومنعهم من العيش الكريم في حضن أهلهم ووطنهم. أما ما يستحق التدوين في كتب التاريخ فليس المناقب المنعدمة لخائن وصل نهايته المحتومة، وإنما الجرائم التي اقترفها في حق الأمهات اللواتي اقتلع أطفالهن منهن ليرسلوا إلى معسكرات العار في كوبا، كوسيلة لإبقائهم رهائن، وفي حق المناضلين الذين تجرأوا على مقاومة العميل وزبانيته، ووقفوا في وجههم فاضحين وهم “نضالهم الوطني”، ودفعوا ثمنا لذلك زهرات شبابهم في سجون البوليساريو وأقبية المخابرات الجزائرية.
أخيرا، قد يجتهد الإعلام الجزائري الذي تربي في سراديب “الفريق توفيق” في محاولة “تبييض” صفحة عبد العزيز المكللة بالسواد، مستنجدين بهذه الاكذوبة أو تلك الأضحوكة، لكن الحقيقة أن ضحاياه في معسكرات الذل والعار في تيندوف والحمادة، سيتبعونه بلعناتهم إلى مثواه الأخير، إذ لا كرامة لمن خان وطنه، ولا سكينة لمن باع أهله، ولا خلود لمن طالت لائحة ضحاياه..