في ما يشبه قراءة الطالع، اندلعت سلسلة التكهنات حول الخليفة المحتمل لرئيس جبهة البوليساريو محمد عبد العزيز، الذي رحل عن عالمنا مع نهاية شهر مايو، تاركا وراءه المآسي الاجتماعية والسياسية التي أسهم هو وباقي أفراد “عصابته” في خلقها، والاتجار بها، بدعم ومساندة جهات نافذة داخل أروقة الحكم في الجزائر. المشكلة الأساسية التي تشوب هذه التوقعات، هي عدم وجود منطق تحليلي يدعم معظمها، ناهيك عن الخطأ المتمثل في تطبيق مناهج التحليل السياسي، لاستقراء مستقبل الأمور داخل عصابة، وهو الأمر الذي يقود غالبا إلى استنتاجات خاطئة.
اقرأ أيضا: عاجل. وفاة محمد عبد العزيز زعيم جبهة “البوليساريو”
خلافة رجل بهذه الصلاحيات، على رأس تنظيم بهذه المهام، والمتمثلة أساسا في احتجاز آلاف الصحراويين داخل مخيمات تنعدم فيها أبسط الشروط الإنسانية، تحت ستار وهم انتظار إقامة “دولة مستقلة للشعب الصحراوي”، هي أمر شائك وغاية في الصعوبة، لأسباب ربما نمر سريعا على أهمها:
- تجذر الخلافات بين أجنحة القيادة داخل جبهة البوليساريو، بما فيها الخلافات القبلية بين القبيلة الأبرز الركيبات وباقي القبائل، ناهيك عن الخلافات المالية بين أرملة الراحل وجماعتها، وبين القيادات التاريخية التي لا تستسيغ استفرادها بإدارة الأمور داخل مخيمات المحتجزين، هذا دون الحديث عن الخلاف القائم بين “صقور تحلم بحل عسكري مستحيل” و “حمائم تراهن على حل سياسي توجد مفاتيحه في الجزائر العاصمة”.
- التذمر الشعبي الذي بلغ منتهاه، بعد أن طال الاحتجاز، وتجددت الأجيال، ولم يعد بالإمكان اللعب على وتر مشاعر الناس والكذب عليهم بخرافات أصبح الكل يدرك سرابيتها، وهو ما يعبر عن نفسه يوميا وبشكل متعاظم عبر التظاهرات الاحتجاجية، وتجرؤ الكثير من الشباب حتى على المجاهرة بالمعارضة السياسية، كما حدث من جماعة “خط الشهيد”، متحملين قساوة التعذيب في المعتقلات.
- الواقع المأزوم لدى الطرف الراعي نفسه، ونقصد الجزائر، الذي يعيش أزمة طاحنة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعاني بدوره من أزمة خلافة رئيسه المنفصل عن الواقع، وكذا من وجود أجنحة داخله تتباين نظرتها إلى مستقبل الحاجة إلى جبهة البوليساريو، وجدوى الاستمرار في معاندة المغرب في وحدته الترابية، خلافا لما درج “المحللون” على تكراره الببغائي من كون الجزائر لا تزال موحدة على هذا الصعيد.
- واقع دولي فقد الرغبة في متابعة هذا النزاع المفتعل الذي فقد عنصر الإثارة منذ زمن طويل، ولن تنجح تعليقات ساذجة لموظف أممي سام في حجم الأمين العام للأمم المتحدة في بث الحياة فيه من جديد، أو تغيير قوانين لعبته وإدارته، وما أقواله الخارجة عن سياق الأحداث إلا شجرة لا يمكنها إخفاء غابة المشاكل التي تتخبط فيها جبهة البوليساريو.
- أخيرا، المغرب القوي بمبادراته الدبلوماسية، بعلاقاته الدولية، وبتماسك جبهته الداخلية، خلف مخطط تنموي يحفظ كرامة ومصالح أبناء الأقاليم الصحراوية، ويتيح لهم، على غرار باقي جهات المملكة، التحكم في توجيه خيراتهم لما فيه مصلحة مواطني جهاتهم. واقع لم تعد تقوى الدعاية الغبية للجبهة على طمسه أو التغطية عليه في زمن شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الافتراضية.
بدون إدراك هذه المعطيات، ستبدو قراءة عملية خلافة عبد العزيز مجرد رجم بالغيب، وبمراعاتها تنفتح إمكانيات كبيرة، لقراءة السيناريوهات المختلفة الموجودة على طاولة الجبهة، والراعي الجزائري. سيناريوهات يوجد داخل كل منها أبرز الأسماء التي يمكنها تنفيذها والسير بها في الطريق المرسوم، وهو ما يشي بكون الجبهة مقبلة على التفكك المحتوم، نظرا لصعوبة الواقع الذي بسطناه باختصار، واستحالة التوافق على سيناريو جامع، وبالتالي شخصية تلتقي عندها مختلف الرؤى والأطياف، مهما بالغوا في إظهار العكس خلال انتخاباتهم المرتقبة خلال أربعين يوما. ويمكن إجمال أبرز هذه السيناريوهات في التالي:
- سيناريو التصعيد: ونقصد به التصعيد السياسي أساسا، مع التلويح الخادع بالتصعيد العسكري في مواجهة المغرب. سيناريو يستند إلى صعوبة استمرار الحفاظ على الوضع الحالي في المخيمات، وبالتالي، اختيار الهروب إلى الأمام، حتى وإن بدا ذلك انتحارا. وهنا تبرز أسماء العسكري محمد لامين البوهالي، وزير الدفاع الأسبق، ونظيره المدني محمد يسلم بيسط، مندوب البوليساريو لدى الأمم المتحدة، اللذان يشتركان في اعتبار موافقة البوليساريو على وقف إطلاق النار مع المغرب “الخطأ الاستراتيجي الأبرز” الذي اقترفته قيادة الجبهة. ونحن نعتقد، أن هذا السيناريو مستبعد نظرا لما أسلفنا، وبالتالي تبدو حظوظ ممثليه ضئيلة للغاية.
- سيناريو التهدئة: وهو السيناريو المناظر لسابقه في الضعف، اللهم إلا إذا حسمت قيادة الجيش الجزائري خيارها ببدء التخلص من هذا العبء المتمثل في البوليساريو ومحتجزيها، وهو ما نراه، عكس ما يعتقد الغالبية، أمرا ممكنا، وإن لم تحن بعد ساعة اعتماده!! وهنا يبرز اسم عبد القادر الطالب عمر “الوزير الأول” الصحراوي، رجل التوافقات الذي لا ينتمي لقبيلة الركيبات المشهورة، وبدرجة أقل مصطفى البشير السيد شقيق المؤسس. وعليه، وإذا لم تقع المفاجأة، فإنه وممثليه يبدو احتمالا يشبه سابقه في الضعف.
- سيناريو التشدد: وهو السيناريو الذي يبدو أكثر احتمالا لأكثر من سبب: يحافظ على الخط السياسي الحالي في انتظار تغير الأوضاع في الجزائر، ويمثل حلا وسطا بين مختلف السيناريوهات والأجنحة، ولا يقترب من التصعيد العسكري، دون أن يتجاوب مع المبادرات المغربية الدبلوماسية. بكلمات أخرى، هو سيناريو انتقالي سيتحدد طوله أو قصره تبعا لوتيرة تغير الأحداث في الجزائر، ومآل خلافة الرئيس بوتفليقة. وتبرز أهم أسمائه في الوجه المدني محمد خداد، الممسك عمليا بملف التفاوض السياسي في البوليساريو، وتنسيق العلاقة مع المينورسو، والوجه العسكري ابراهيم غالي، وزير الدفاع الأسبق الذي خاض تجربة تفاوضية مع المغرب في أكثر من مناسبة. ولعل اختيار أحد الرجلين هو الاحتمال الأكثر ترجيحا.
- سيناريو الاستمرارية: وهو السيناريو المفاجأة، الذي يوجد في موقع أفضل من السيناريوهين الأول والثاني، ويتنافس مع السيناريو الثالث على الترجيح. ونقصد به عدم اتفاق الأجنحة الجزائرية على أي من السيناريوهات السابقة، وأن تختار بالتالي التركيز على ضبط الوضع المتفجر في المخيمات، مع ترك المسار الدبلوماسي دون تغيير، وهو ما يمثل استشعارا بخطورة الوضع في المخيمات، والتهديد الحقيقي الماثل في انفجاره وخروجه عن السيطرة، ويضمن بالتالي، ولو مؤقتا، المصالح الاقتصادية التي ترتبت على مدى عقود بين الراعي الجزائري والوكيل الصحراوي. وهنا تبدو حظوظ ابراهيم أحمد محمود الملقب “اكريكاو” الممسك بزمام الأمن في المخيمات، وخديجة بنت حمدي، أرملة عبد العزيز ذات الأصول والارتباطات الجزائرية متساوية، مع أفضلية نسبية للأول نظرا للرفض الذي تقابل به خديجة بنت حمدي داخل المخيمات وقيادات البوليساريو.
وعليه، وأيا كان الزعيم الجديد للعصابة، خداد أو أكريكاو أم غالي، فإن مآل الجبهة محصور بين قوسين: تفكك الجبهة والمشروع برمته من الداخل، أو تغير الأمور في الجزائر بطريقة تعطي الأولوية لهموم الجزائريين، وبناء مغرب عربي كبير، وهو التطور الذي سيكتب شهادة وفاة البوليساريو خارجيا. وبين هذين السيناريوهين، ستبقى عذابات المحتجزين الصحراويين في مخيمات العار في تندوف والحمادة، نارا تحرق كل من ساهم في صنع هذه المأساة واستدامتها.