لا تجتذب الجسور المعلقة في مدينة قسنطينة المعروفة بعاصمة الشرق الجزائري، الزائرين إليها من مقيمين وأجانب، على الرغم من أنها من العجائب المبهرة. ثمّة شوارع ومساحات تنافسها، إما لأنها تختص بتقديم أطباق معينة مثل “السويقة” التي يقصدها السياح لتناول الحمص بالزيت، وإما لأنها تختص بصناعة معينة مثل شارع “الرمبلي” وأدواته النحاسية أو “شارع فرنسا” الحافل بباعة الذهب المتجولين أو المستقرين في محلاتهم. إلى ذلك، سبب غريب ومتميز، يجعل زائري المدينة من الرجال يُقبلون على شارع “رحبة الجِمال”. هو ممنوع على النساء ويقتصر دخوله على الرجال فقط.
“الرحبة” في اللهجة الجزائرية تعني الفضاء الواسع الذي يجتمع فيه الناس، وهذا الشارع يقع في قلب المدينة القديمة التي تعود إلى العهد العثماني قبل سقوطها في قبضة الاحتلال الفرنسي عام 1837. هو يتكوّن من دروب ضيقة، بعضها محاط بجذوع العرعار وبعضها مفتوح. كذلك يضمّ أكثر من مرفق يحمل ملامح تركية، بما في ذلك المكان الذي كان يشكّل مربطاً لجِمال الوافدين وخيولهم، وإليه تعود تسمية الرحبة.
دخلنا الفضاء بحكم مسبق، وهو أننا لا نستطيع اصطحاب النساء معنا. ودّعنا فنانتَين من مسرح المدينة الواقع على بعد خطوات قليلة، وقد لاحظنا العيون تتّجه إلينا ونحن نحدّثهما عند العتبات، ظنّاً أننا ننوي الدخول جماعة. قالت إحداهما إنها تحلم بتقديم عرض فني داخل ما أسمته “الشارع المحرّم”، وأقسمت على فعله يوماً.
سألنا الفتى الذي كان يبيع الكتب القديمة عند المدخل والذي لا يبلغ العشرين من عمره، عما كان سيفعل لو أننا أدخلنا الشابتين معنا. صمت قليلاً، ثم رد علينا بسؤال: “هل ضاقت عليهما المدينة، حتى تكسرا تقليداً متوارثاً، وتدخلا الرحبة؟ المحلات فيها موجودة في معظم الشوارع، ولا أرى مبرراً للتحدي”.
إقرأ أيضا: قسنطينة الجزائرية تعيش اليوم حدث افتتاح عاصمة الثقافة العربية
هنا، محلات تعود إلى بدايات القرن العشرين، منها محل عمي مراد الذي قدّم لنا شهادته. يخبر: “أبيع هنا منذ 45 عاماً، وكبرت على أن دخول المرأة غير مسموح به. وطيلة هذه المدة، لم أشاهد إلا مرات قليلة، امرأة تدخل المكان”. نسأله عن السبب، فينقل إلينا ما سمعناه من مصادر متطابقة. يقول: “بعدما دخل الجيش الفرنسي المدينة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، اتخذ من الرحبة فضاء للدعارة المقننة، حتى يُشبع رغبات جنوده الذين تركوا زوجاتهم في أوروبا، أو كانوا عازبين أصلاً. وكانت بيوت الدعارة من الفضاءات الأوروبية القليلة التي يُسمح للجزائريين بدخولها، لذا قرّر أعيان المدينة منع المرأة القسنطينية من دخول المكان الذي أصبح ذكره مرتبطاً بانعدام الحياء”. يضيف أن “بيوت الدعارة فبقيت تنشط لعقدَين بعد الاستقلال عام 1962. وبعد إغلاقها، ظلّ قرار منع النساء من الدخول سارياً وما زال. هو تجاوز كونه قراراً، ليصبح عرفاً اجتماعياً”.
ثمّة معبر وحيد في المكان يقع تحت المركز التجاري، تستطيع النساء عبوره للوصول إلى بيوتهن في الأحياء الشعبية السفلية، في السويقة وسيدي جليس وسيدي بوعنابة والبطحة والسطحة. اصطحبنا عمي مراد إليه، لنصادف صبرينة وهي طالبة علوم سياسية في جامعة المدينة، كانت لها تجربة باقتحام الرحبة قبل عامَين.
في مقهى في شارع فرنسا المجاور، تروي لنا أن “الشغف لمعرفة ما في المكان، كبر معي. كنت أكتفي بالنظر إلى جنباته، وتنشّق الروائح الشهية المنبعثة منها، أثناء عبوري مسرعة من المعبر الوحيد. مذ كنت طفلة، نويت دخوله وتذوق أطباقه، وهو ما فعلته قبل عامين بالتواطؤ مع شقيقي الذي يرفض هذا التقليد”. تضيف: “لبست لباساً رجالياً، واقتحمت معه المكان. لم ينتبه أحد إلى كوني أنثى، كانت تجربة ممتعة”.
ينضمّ إلينا صالح شقيقها، الذي يبيع الأحذية الرجالية في الرحبة. المحال كلها لا تعرض إلا سلعاً رجالية هناك. ويسأل: “ما مبرر استمرار منع النساء من دخول الرحبة، في ظل زوال مبرره الأول؟ أغلقت بيوت الدعارة أبوابها، وبات الشارع شبيهاً بكل شوارع المدينة. نحن تضررنا تجارياً من غياب النساء، وما يبيعه الآخرون في الشوارع الأخرى في أسبوع، لا أبيعه أنا في شهر”.
وجود هذا الشارع في قسنطينة التي اختيرت كعاصمة للثقافة العربية هذا العام، يثير مواقف وانطباعات مختلفة لدى المشاركين العرب في التظاهرة الثقافية. من هؤلاء، الكاتب المغربي عادل لطفي الذي أبدى استغرابه ألا تغفر المدينة للمكان ماضيه “النجس”. ويسأل: “لو كان المكان فعلاً مدعاة للشبهة، لماذا يزدحم فيه الرجال؟ هل هم في حلّ من ماضي المكان؟ أليس هذا الماضي من صنع الرجال والنساء معاً؟”. يضيف: “هذه أسئلة وتأملات رافقتني إلى أن رأيت أول امرأة، فعرفت أننا انتقلنا إلى زقاق آخر. تمنّيت لو كتب على بابه: ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه”.
أما الشاعرة الكردية فينوس فائق، فترى في الأمر “خصوصية اجتماعية تحولت إلى خصوصية ثقافية للمدينة، وعلى زوارها أن يتعاطوا معها، بعيدا عن تصنيف الأمر تطرفاً وانغلاقاً”. وتقول: “أنا أقيم في أمستردام، وأعرف محلاً للحلاقة ممنوعاً على النساء، على الرغم من أن محلات الحلاقة الهولندية مختلطة”.