مليكة مالك الاسم المشع على الشاشة الصغيرة، والذي غادرنا إلى دار البقاء بعد صراع مع المرض، هي إعلاميةمسكونة بالسياسة، ولطالما انشغلت بمسلسل التطور الديمقراطي في المغرب، في مده وجزره.
نتذكر برامجها السياسية الطافحة بالنقاش السياسي التي ما زالت ماثلة في أذهان المشاهدين، بدءا بالقناة الثانية، ووصولا إلى “قناة الحرة”. وللاقتراب أكثر من مليكة ملاك الإنسانة والإعلامية، التي ربما لا تعرفها أجيال شابة، نعيد نشر هذا الحوار الذي أجرته مع مجلة “الإنسان الجديد” في عددها الثامن الصادر في شهر ماي سنة 2006.
للمزيد:الإعلامية المغربية مليكة مالك ترحل إلى دار البقاء بعد معاناة مع المرض
ــ اسم مليكة مالك، فيه جرس موسيقي وإيحاء شعري، وكأنه لقب فني، من أطلق عليك اسم مليكة؟ هل هو الأب أم الأم؟
*هو من اختيار الوالدين معا، ويحمل بين حروفه دلالة حب وشغف، للبرهان الرمزي عن ارتباطهما كسائر المواطنين المغاربة، بالملكية، وبأب الوطنية، المغفور له الملك محمد الخامس، الذي كان وما يزال عزيزا على قلوب الجميع.
ففي أيام المقاومة، وكان أبي وأمي من المنخرطين فيها ضد الاستعمار، ولد اسم مليكة للتعبير عن حب الوطن. ولا أعتقد أن اسم مليكة موجود في بلد عربي آخر غير المغرب.
ومالك هو اللقب العائلي للوالد، فنتج عن التمازج بينهما هذا الإيقاع في النطق، لدرجة أن الجميع يسألني ، هل هو اسم مستعار.
أصدقاء والدي سموه ” صوت العرب”:
ـ هل كان للوسط العائلي تأثير عليك في الاتجاه نحو معانقة كل ما هو سياسي؟
*ربما، وقد يكون هذا الاستنتاج صحيحا إلى حد بعيد، فلقد فتحت عيني في بيت يلتقي فيه رجال المقاومة، فالوالد رحمه الله، والوالدة أطال الله عمرها، كانا من الوطنيين الملتزمين بمبادئ الكفاح الوطني والقومي، وكانا مولعين برصد أخبار النضال ضد الاستعمار. الوالد أطلق عليه أصدقاؤه لقب ” صوت العرب”، والوالدة كانت إلى جانبه في أداء الواجب الوطني، بمعية إخوانها السيدين عبد النبي وعبد الوهاب المسطاسي، رحمهما الله، وهما من وجوه المقاومة في الدار البيضاء، وعائلتي كانت تقطن في الرباط، قبل الانتقال إلى القنيطرة بحكم عمل الوالد.
وأتذكر ما حكته لي الوالدة، أن حافلة محملة بأكثر من أربعين مقاوما من الوطنيين حلت ذات ليلة في بيتنا في القنيطرة، في الساعة الرابعة صباحا، قادمة من الدار البيضاء قبل مواصلة الرحلة في الصباح نحو الشمال، لتوزيع الأسلحة هناك على المقاومين.
وجاء من ينصح ضيوف الوالد بالتخلي عن الرحلة، لأن الطريق مراقبة من طرف عيون المحتل، فقفلوا عائدين إلى العاصمة الاقتصادية، وتركوا الوديعة في عهدة الوالدة، التي اضطرت لاخفائها، بكل ما اشتملت عليه من مسدسات وذخيرة حية وغيرها، وسط الأفرشة، بعد فتحها للحاف الصوف.
ومثل هذه العمليات وغيرها، قامت بها الوالدة عدة مرات، بدعم من الوالد الذي لم يبخل يوما على المقاومة بمساعدتها ماديا ومعنويا.
الرحلة إلى كندا لطلب العلم:
ــ ماذا عن بقية أفراد أسرتك؟ هل كان لهم نفس التوجه نحو السياسة، أم كانت لهم مسارات أخرى في طريق الحياة؟
*أخواتي كلهن متشبعات بروح الوطنية، بدون استثناء.
الأخت البكر لم تكمل دراستها العليا،وفضلت الدخول إلى مدرسة المعلمات، في بداية الستينيات للمساهمة في تكوين الأجيال.
والأخت نجية مالك، صاحبة وجه معروف،فهي فاعلة سياسية ونقابية لأزيد من خمسة وعشرين سنة، ناهيك عن زوجها الراحل السيد الحسين حليلي، الذي يعتبر من مؤسسي الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل، وكان عضوا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وهذه الأجواء كانت من بين المؤثرات التي جعلت مني مليكة مالك، التي يعرفها الجمهور، إذ بمجرد فوزي بالبكالوريا اتجهت نحو دراسة العلوم السياسية في كلية الحقوق بالرباط.
واستكمالا لتكويني في العلوم السياسية، رحلت رفقة زوجي إلى كندا للتعمق أكثر في التحليل السياسي، استجابة لرغبة داخلية تحثني دوما للحديث مع الناس، والتفاعل فكريا مع مختلف الجنسيات.
هناك اخترت أيضا دراسة الصحافة المكتوبة والمجال السمعي والبصري، ما ان انتهيت منها حتى عدت سنة 1992 لبلدي، مدفوعة بحبي الكبير له، لوضع نفسي رهن إشارته لخدمته من الموقع الإعلامي.
سر التحول إلى إمرأة أخرى:
ــ أنت سيدة مبتسمة دائما، كما يعرفك زملاؤك، مفعمة بالفرح والإقبال على الحياة، ولا تترددين في حكي النكت، ولكنك سرعان ما تتحولين داخل الأستوديو إلى امرأة أخرى، سمتها الأساسية الصرامة والعبوس، فما سر هذا الانقلاب، أو الازدواجية في شخصيتك؟
*هل أبوح لكم بسر؟ إن هذا التحول كله مبعثه الخوف ورهبة الظهور، والحرص على احترام المشاهدين، وكل هذه العوامل مجتمعة تحتم علي أن أبحث أكثر، وأشتغل أكثر، وكلما توفرت لدي المعطيات، كلما كبر عندي الإحساس لاشعوريا بالهول من جسامة المسؤولية، ومن مواجهة المواطنين عبر أضواء الكاميرا، إضافة إلى ضغط الوقت وخطورة المواضيع الشائكة والملفات المطروحة للنقاش.
ولست أدري كيف سيكون مظهري في عيون المشاهدين والابتسامة على وجهي، وأنا بصدد الخوض في قضايا مثل البطالة والانتخابات والأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أكيد أن منظري، والحالة هذه، سوف يكون عبثيا ومضحكا، وخارج السياق .
إن هدفي بالدرجة الأولى، هو العمل على إنجاح البرنامج، وتوصيل رسالة ما إلى المتلقي في بث مباشر يستدعي الكثير من التركيز والانتباه، حيث أكون منجذبة كليا لأوراقي وأسئلتي، وأجوبة الضيوف، وتدخلات الزملاء حتى لايكون هناك انفلات، ويتسرب الوقت مني، دون التطرق إلى كل المحاور المحددة سلفا.
وما يهمني أكثر هو استخراج الحد الأقصى من المعطيات من جعبة الضيف.
للحوار السياسي في التلفزيون شروطه:
ــ بالمناسبة، أنت متهمة باستعمال سلطة التوقيف ضد ضيفك، فلا يستطيع إكمال فكرته، هل الاتهام صحيح؟
*هذا ليس اتهاما. إنه احتراف ومهنية، لأن توقيف الضيف غالبا أو مقاطعته، يكون بمثابة إنقاذ له، بعد إحساسي بأنه دخل في متاهة، أو خرج بعيدا عن محاور النقاش، أو شرع يثير نقطا لامعنى لها، ولا تفيد المتلقي في شيء. هنا تصبح الصرامة ضرورية للتحكم في صيرورة البرنامج وضبطه وفق ترتيب معين.
واحتسابا لتسعين دقيقة هي عمر البرنامج، يجب ألا تضيع عبثا في الهواء، حتى لاينتاب المتفرج الملل، ويغير المحطة بجهاز التحكم عن بعد.
الحوار السياسي في التلفزيون له شروطه وقواعده وأصوله، وعلى المنشط أو مقدم البرنامج احترامها، وإلا سقط في النمطية والتكرار.
صراعات وحسابات وغيرة نسائية ومهنية:
ـ من برنامج ” وجه وحدث”، و” في الواجهة” في القناة الثانية، إلى برنامج ” البعد الآخر” في القناة “الحرة”، برامج نالت حظها من النجاح، ولكن قرارات التوقيف ظلت لك بالمرصاد، لماذا؟
*دعني أبدأ أولا بالمغرب، فلست وحدي من تعرضت مسيرته للتوقيف، في هذه المرحلة السياسية من التاريخ المعاصر، فاعلون كثيرون طالهم أيضا نفس المصير.
ــ عن أي فاعلين تتحدثين، وفي أي مجال بالتحديد؟
*سياسيون، مفكرون، إعلاميون، أدباء. هي ظاهرة يجب الانتباه لها، حتى لاتتسع أكثر ويحرم المواطن من عقوله ومبدعيه، فما أحوجه إليهم جميعا.
ــ كيف تفسرين، إذن، ماوقع لك في القناة ” الثانية”؟ هل كنت ضحية صراعات سياسية؟ أم حسابات شخصية؟ أم غيرة مهنية ونسائية؟
*يمكن أن تكون كل هذه الأشياء مجتمعة، فمن يشتغل في مجال الإعلام التلفزيوني، لا بد أن تمسه يد خفية، من حيث لا يحتسب.
ولن أسامح أبدا من كان السبب، فيما لحق بي من جراء ذلك الأمر. وقد أشعرني ذلك حقيقة بالأسى، ليس إزاء شخصي، بل إزاء البرنامج الذي كنت أتمنى أن يستمر بإسناده إلى زميل او زميلة، للحفاظ على صيغة الحوار السياسي في التلفزيون.
لست بائعة للفوضى:
ــ وما سبب توقيفك من قناة ” الحرة”؟
*لم يوقفني أحد، لقد اتخذت قرار التوقيف بنفسي، وفاء لوعد مني، كنت قد قطعته على نفسي، أمام زميلي توفيق بوعشرين، الذي يشتغل معي في تحضير البرنامج، وهو أن أنسحب في أي يوم يتجرأ فيه أحد مسؤولي قناة ” الحرة” على مصادرة حلقة من البرنامج، وهكذا كان..
وسبب انسحابي هو الرقابة التي مورست في حقي، بعد أن عملت مع ” الحرة” سنة كاملة، بمعدل أربع حلقات في الشهر، وليس حلقة واحدة.
كان الأمر متعبا، والتواصل شاقا مع القناة لوجودها في واشنطن، وليس في المغرب.
كان موضوع الحلقة التي تعرضت للمنع هو ” علاقات المغرب والجزائر وتطورات قضية الصحراء”، والمشاركون في النقاش، هم الأستاذ محمد العربي المساري، والأستاذ محمد بنيحيى، وممثل سابق عن جبهة ” البوليساريو”.
والواضح أن أسلوبي في إدارة دفة النقاش السياسي لم يكن محل رضى المسؤولين في ” الحرة”.
في اعتقادهم أن النموذج الأنسب للبرامج السياسية، هو ما تقدمه بعض القنوات العربية، يعني أن تكون صاخبة، وأنا لست بائعة للفوضى، بل لي مباديء وأخلاقيات مهنية أحتكم إليها في إنجاز برامجي، اعتبارا لكون بلدي المغرب ليس حلبة لمعركة بين المفكرين والسياسيين، بل فضاء للنقاش الهاديء والمسؤول، ولأن الحوار التلفزيوني، كما أفهمه، يقتضي الإنصات إلى ما يقوله الضيف، وليس المهم هو التشابك بالأيدي وانفلات الأعصاب.
ــ بعد القناة ” الثانية” وقناة ” الحرة”، ما هي وجهتك الآن، وفي أي أفق ترسمين خطواتك برسم المستقبل؟
*لدي عروض للعمل من داخل المغرب وخارجه، ولكنني أتريث في دراستها، قبل الرد عليها.
أنا الآن في مرحلة تأمل مع الذات، ليس لمساري الاحترافي فحسب، بل للمهنة ككل.
هذه أنا..مواطنة عادية:
ـ ماذا عن حديقتك السرية؟
*ليست لدي حديقة سرية، (تضحك).
ـ ماذا عن مليكة الإنسانة والزوجة والأم ، ماذا عن أسلوب حياتها، وأناقتها، وذوقها الفني؟
*مواطنة عادية، أقوم بأشغال البيت وحدي، طباخة جيدة.
زوجي أول مدعم ومساند لي، رجل هاديء أثق فيه وفي انتقاداته لي.
عندي ناقدة أخرى في البيت هي ابنتي “زينة”، تقدم لي ملاحظاتها من خلال رؤيتها الشبابية، وهي تشبهني تماما، كأنها ” مستنسخة” عني.
موسيقيا استمع لكل التعبيرات والأنماط الموسيقية، وأحس بانجذاب خاص نحو الدقة العيساوية، التي تذكرني بجذور أمي المكناسية.
أحب الرسم المغربي جدا. والأناقة ورثتها عن والدتي، منذ طفولتي وأنا منبهرة بحسن اختيارها لملابسها.
الرياضة؟ أنا كسولة جدا، لا أمارس الرياضة بمفهومها الحداثي، انخرطت في ناد ثم ابتعدت عنه. أفضل المشي في المساحات والفضاءات الخضراء، وعلى الشاطيء، حيث الشمس والهواء الطلق، والمدى الرحب اللامتناهي.