منذ تأسيسها عام 1975 بمبادرة من العاهل الراحل الملك الحسن الثاني، لا تزال لجنة القدس التي يرأسها الملك محمد السادس تضطلع بالمسؤوليات المنوطة بها رغم جميع التقلبات السياسية والهزات التي مرت بالمنطقة. ورغم ذلك، لم تسلم لجنة القدس من سهام النقد والتجريح بدعوى: ماذا صنعت للقدس وأهلها؟ في خلط متعمد ومغرض للحقائق، ربما من المناسب التعريج على أهمها وتوضيحه.
لقد كانت اللجنة عند تأسيسها، وكعادة الهيئات الرسمية، مجبرة على مراعاة التوازنات السياسية المعلومة، وبالتالي ضمت في عضويتها وزراء خارجية ستة عشر بلدا إسلاميا، منها تسع بلدان عربية (إضافة لثلاث دول إفريقية، وأربع أسيوية)، وجاءت المهمة التي كلفت بها في غاية العمومية، تنحصر في دراسة الوضع في القدس ومتابعة القرارات الإسلامية والدولية المتعلقة بها، والاتصال بالجهات الدولية التي تستطيع التأثير في ملف المدينة المقدسة.
وقد يظن البعض أن رئاسة المغرب للجنة قد جاءت منسجمة مع كونه صاحب المبادرة إلى تأسيسها، لكن نظرة فاحصة للأوضاع العربية والدولية في ذلك الوقت (منتصف السبعينات) تؤكد أنه لم يكن من خيار آخر سوى الذي تم. فالمغرب كان دائما البلد العربي والإسلامي الوحيد الذي يستطيع جمع الفرقاء مهما تباينت مواقفهم، ناهيك عن تفرده في التعبير عن مواطن الإجماع العربي والإسلامي دون أن يفقد احترام الأطراف الدولية المؤثرة أو يخضع لإملاءاتها.
ومما يعلمه القاصي والداني أيضا، أن الخروج على هذه المهمة الضيقة التي أنيطت باللجنة لم يأت من أي من منتقدي محدودية دورها، وإنما من المبادر إلى إنشائها أي المغرب نفسه، حيث تبنى عام 1998 مبادرة إنشاء “وكالة بيت مال القدس”، والتي أخرجت لجنة القدس من ضيق هامش “متابعة قرارات إسلامية” لا تصدر، وإن صدرت فهي لا تنفذ ولا يلتزم بمضامينها المدافعون عنها، إلى التصدي الصعب والمباشر لمهمة الحفاظ على عروبة القدس، وحماية الحقوق العربية والإسلامية فيها، ودعم صمود أهلها المرابطين، بما تيسر لها من إرادة وأدوات.
إن رئاسة المغرب وعاهلها الملك محمد السادس، وقبله والده الملك الحسن الثاني رحمه الله للجنة القدس، وإدارته لبيت مالها، لم يعن يوما العمل فيها بمعزل عن الفلسطينيين، ولا التفرد بإدارة ملفها بعيدا عن الأشقاء العرب والمسلمين، رغم خصوصية العلاقة التاريخية والروحية التي تجمع المغرب والمغاربة بالقدس الشريف، وتفردهم بتسمية حارة المغاربة فيها على اسمهم، وقدرتهم على القيام بمبادرات فعلية ورمزية بواسطة مؤسساته الرسمية والشعبية لدعم القدس والمقدسيين، عبر حملات التبرعات والمبادرات الحكومية الميدانية والمظاهرات الشعبية الحاشدة المليونية، بشكل يندر مثيله في العالمين العربي والإسلامي، رغم أن ما يملكونه من إمكانيات، لا يرقى لما تمتلكه الدول البترولية (عربية وإسلامية) التي تشكل نصف أعضاء لجنة القدس، وهو ما لم يمنعه من تحمّل ميزانية المشاريع التي تنجزها “وكالة بيت مال القدس” في المدينة المقدسة، سكنية وتعليمية وصحية واجتماعية منفردا، ناهيك عن كون جميع مصاريف تشغيل الوكالة ومشاريعها، تسدد سنويا من الميزانية الخاصة للعاهل المغربي، ولا يقتطع لأجلها درهم واحد من تبرعات أو موارد الوكالة المالية..
إن استسهال الانتقاد تجاه “محدودية الدور والأدوات”، أمر لا يسمن المقدسيين ولا يغنيهم من جوع، ولا يجابه الصهاينة ولا هم “يردعون”، كما أنها بعيدة كل البعد عن أن تشكل البديل العملي المطلوب للتصدي لمعاناة أهل القدس ودعم صمودهم. كما أن الظروف الخطيرة التي تواجهها المدينة التي يوشك الكيان الصهيوني على إتمام دمغها بطابعه، يحتم على الجميع الارتقاء فوق الجدل العقيم، ومد “وكالة بيت مال القدس” بما تحتاجه من أموال، والتكاتف في ممارسة ضغط قوي وحقيقي على الدول المؤثرة من أجل إيقاف ما تتعرض له المدينة المقدسة وأهلها من انتهاكات وجرائم إنسانية وحقوقية وسياسية وقانونية واقتصادية وغيرها، بما يجعل طابعها العربي الإسلامية برمته مهددا.. وقد قالو قديما: أن تشعل شمعة أفضل من أن تلعن الظلام.. وها هو المغرب وعاهله يشعل الشمعة العشرين للجنة القدس في مراكش، فهل ينضم لمبادرته مدمنو لعن الظلام؟؟