مما لا شك فيه لدينا، أن خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس في مدينة العيون، بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، سيبقى محفورا في ذاكرة المغاربة لسنوات وعقود قادمة، وسيسيل مداد معظم وسائل الإعلام المغربية والعربية والدولية، حيث سيتيح غنى المضامين التي ملأت سطور الخطاب، وما بين سطوره، لمختلف الإعلاميين والأكاديميين والفاعلين السياسيين والجمعويين أن يقرأوه كل حسب اختصاصه ومقاربته وزاوية اهتمامه. كيف لا وقد جاء الخطاب زاخرا بالرسائل السياسية والاقتصادية والحقوقية لمختلف المعنيين بهذا الملف وطنيا وإقليميا ودوليا.
ولأن ما تحمله سطور الخطاب من رسائل قد جاءت بلغة واضحة وقوية لا تحتمل التأويل واللبس، فسيكون من الأجدى ربما أن ننتقل لمحاولة قراءة ما بين السطور. قراءة سيجتهد الكثيرون في ربطها بالجوانب السياسية والاقتصادية المعلنة في الخطاب، وهي العملية التي قد بدأت بالفعل في مختلف المنابر الوطنية، في انتظار الغد عندما تنتقل هذه العدوى لنظيراتها العربية والاجنبية. أما نحن في “مشاهد 24” فقد اجتهدنا في البحث عن عنوان عام أو دلالة كبرى للخطاب، يمكن اعتبارها القيمة الرئيسية التي يمكن أن تندرج تحتها باقي الرسائل المعلنة والمضمرة، وجاء الجواب في كلمة واحدة ومرادفاتها: القوة. ولا نبالغ هنا إذا ما قلنا أن خطاب الملك محمد السادس يرقى إلى مصاف الخطابات التأسيسية التي تعلن عن لحظات تاريخية، وهي في حالتنا هنا: تكريس المغرب كدولة قوية، شجاعة، لا تخاف غضب مواطنيها ولا ابتزاز أعدائها ومنافسيها.
لماذا “القوة” بالضبط؟ لأنها ببساطة، القيمة التي تقف وراء كل رسالة حملها الخطاب داخليا وخارجيا، والتي أظهرت أن ملك هذه البلاد وأكبر سلطة فيها “لا يخاف” مواطنيه ولا أعدائه، ولا الاعتراف بما شهدته القضية الوطنية الأولى من نقائص وأخطاء. ولنحاول هنا رصد أقوى هذه الرسائل وأكثرها شجاعة:
- المغرب القوي وملكه الشجاع، يملك القدرة على القطع مع الأساليب البالية في استمالة الناس وضمان ولاء النخب المحلية، وهو سلوك يكاد يكون ثقافة عربية وأحد أهم مرتكزات السياسة المعتمدة منذ عقود، بل قرون، عديدة دون أن يجرؤ على مخالفتها زعيم أو نظام. وها هو الملك محمد السادس يعلن في الخطاب بوضوح انتهاء عهد “اقتصاد الريع” الذي لطالما اعتبر التجسيد المغربي لهذه الثقافة العربية. أما البديل فهو مواطن لديه كل الفرص لكسب قوته بكرامة، ونخب سيتم محاسبتها بواسطة الناخبين أولا، والقانون ثانيا عن كل تقصير في حق مواطنيها.
- المغرب القوي وملكه الشجاع، يملك الرؤية ليخاطب أبناء شعبه في باقي الأقاليم، ويضع النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء في سياقه الصحيح، كجزء من التحديات التي واجهها المغاربة وانتصروا عليها عبر تاريخهم منذ عهد السيبة وضعف الدولة المركزية، مرورا بالاستعمار وعهد الحماية، وانتهاء بمعارك صياغة بدائل الدولة بعد الاستقلال، وهو ما يبرر التفاؤل بالقدرة على الانتصار في معركة صيانة الوحدة الترابية، وبقاء المغرب قويا ومستقرا.
- المغرب القوي وملكه الشجاع، يملك الحكمة لمخاطبة أبناء شعبه في مخيمات تيندوف، منزها إياهم عن القبول بأوضاعهم المهينة على مدى العقود الأربعة الماضية في مخيمات العار، أسرى لعصابة من المرتزقة، لا يرفعون صوتا بالاستنكار أو الرفض لما يمارس بحقهم من انتهاكات، ومحملا كل من يستمر في قبول هذا “الأمر الواقع” تبعات ما يعيشه من انتهاكات.
- المغرب القوي وملكه الشجاع، يملك الجرأة لمخاطبة جيران الشرق معرّيا تهافت خطابهم المتباكي على “عذابات الصحراويين”، بتذكيرهم أن هذا الخطاب “الإنساني” لدولة نفطية يقع في تناقض صارخ عندما يترك قرابة أربعين ألف صحراوي لا يحتاجون لأكثر من ستة آلاف وحدة سكنية تقيهم ظروف الحياة الصعبة لاكثر من أربعة عقود (بمعدل 150 شقة كل عام)!! ظروف لا يعلم أحد كيف لا تسهم عشرات الملايين من الدولارات التي يجمعها ناشطو البوليساريو في الدول الغربية، ناهيك عن مليارات الجزائر في توفير شروط العيش الكريم لمحتجزي تيندوف.
- المغرب القوي وملكه الشجاع، يملك الحسم ليقول للأمم المتحدة وخبرائها “المنفصلين عن الواقع داخل مكاتبهم المكيفة” بأن مبادرة الحكم الذاتي هي أقصى وآخر ما يمكن للمغرب أن يقدمه في سبيل بحثه عن سبل تقفل هذا الملف بشكل نهائي. حسم يستبق زيارة المبعوث الأممي كريستوفر روس، ورئيسه الأمين العام بان كي مون، اللذان سيزوران المنطقة تباعا من أجل “إعادة اختراع العجلة”.
- أخيرا، فالمغرب القوي وملكه الشجاع، يملك الوضوح ليقول للشركات والهيئات الأوروبية والغربية عموما، أن من يريد مقاطعة منتجات المغرب الصحراوي فعليه توقع المعاملة بالمثل، وسيحرم نفسه من أي نصيب من “كعكة” المشاريع التنموية التي ستنطلق بمئات الملايين من الدولارات. أما من أراد العمل في المنطقة في انسجام تام مع السيادة المغربية، ويستفيد من انفتاح المنطقة المرتقب على القارة السمراء، فسيجد كل ترحاب وحماية.
رسائل ستة، للداخل والجوار والعالم، من بين أخرى فرعية، تؤكد ما نعتبره إعلانا عن “ميلاد دولة قوية بفضل شجاعة قائدها ورؤيته”، دولة لا تعاني مما تتخبط فيه دول المنطقة العربية من غياب للاستقرار وانعدام للرؤية، ونزاعات عرقية وقبلية واستقطاب سياسي وانسداد للأفق أمام مواطنيها، الأمر الذي يجعلها دولا ضعيفة محكومة بأنظمة خائفة داخليا، وبالتالي، قابلة للابتزار خارجيا.
لقد وضع الملك محمد السادس الأساس الصلب للعمل الطموح، ومعه وضع كل طرف داخلي أو خارجي أمام مسؤولياته، فهل نشهد بعد هذا الخطاب، تسارعا في وتيرة العمل التنموي لإنجاز الأوراش الكبرى التي شملها، لبدء تسطير تاريخ جديد في علاقة المغرب بإفريقيا والعالم؟ كل المؤشرات تفيد بأن هناك روحا جديدة تسري في أوصال الجسد المغربي المتضامن، وسيرى الجميع بشائر الإنجاز تتوالى.. وما ذلك على الله، وهمم الرجال والنساء المخلصين ببعيد.