قد تشكل هبة الشباب الفلسطينيين الأخيرة بداية لانتفاضة ثالثة، وقد لا تستمر، لكنها بالتأكيد متغير سيبقى مدونا في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين. كيف لا، وهناك جيل من الشباب “اليائس” من جهة، من وهم الحصول على أي شيء عن طريق التفاوض مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، و”المؤمن” من جهة أخرى، أن مهمة حماية الأقصى من تدنيس قطعان المستوطنين الصهاينة، تقع على عاتقه بالدرجة الأولى.
إن انبراء العديد من المحللين والمعلقين الفلسطينيين والعرب والمسلمين للتأكيد على عبثية وعدم واقعية “ثورة السكاكين”، التي تسفر عادة عن استشهاد الشاب دون إلحاق أذى حقيقي بالجنود، هو أمر يمكن تفهمه لو كان صادرا من منطلق الحرص على حياة الشبان الفلسطينيين، وعن أناس يمكن الاقتناع بحرصهم “المفاجئ” على حياة الفلسطينيين، أما أن يكون صادرا من أصوات من ضمن “معسكر السلام” الذي لا يمل ولا يكل، منذ أربعة عقود، من تكرار اسطوانة السلام والمفاوضات وحل الدولتين وباقي مفردات حقبة “أوسلو”، فهو أمر يفقده أية مصداقية.
ويخطئ من يظن أن هذا النقد، يعني بالضرورة، وبسبب ثقافة السجال والاستقطاب السائدة في وطننا العربي منذ عقود، أنه يصدر عمن هم في “معسكر المقاومة” الذي ينزه حركة حماس عن كل خطأ، ويدين كل ما يصدر عن حركة فتح، لأن الحركتين في رأينا هما “وجها عملة أوسلو”، لاشتراكهما تحديدا في السعي اللاهث وراء “حلم الدولة” وسراب السلطة، وهو ما يشكل في العمق، عصب استمرار الانقسام الفلسطيني، الذي غذّاه وأبقاه شغف قيادتي فتح وحماس بالسلطة و”الدولة”.
إن اقتران انتصار القضية الفلسطينية بقدرة الفلسطينيين على إنشاء “دولة مستقلة على كامل حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”، كان ولا زال “مصيبة” الفلسطينيين الأبرز، حيث استغلت إسرائيل هذه الرغبة المحمومة لدى القيادات المتنفذة في الفصائل الفلسطينية الرئيسية، في التمتع “بمظاهر رئاسية”، لعقد اتفاق أوسلو مع الرئيسين عرفات وعباس، واستغلت نفس الشهوة لدى قيادات حماس من أجل تكريس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية وباقي أجزاء فلسطين التاريخية. وبالتالي، وبدون الانتصار على هذه الشهوة أو الرغبة المحمومة، يصعب بل يستحيل الحديث عن حل عادل للقضية الفلسطينية العادلة. فرهان هذه القضية الأول هو عودة اللاجئين، قبل تحقق سراب الدولة المستقلة “التي تعيش بأمان جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل”، بل وقبل استرجاع السيادة الفلسطينية العربية على المقدسات في القدس.
لقد كانت النتيجة المباشرة لاتفاق أوسلو، الذي يبرر شرعية ووجود السلطة الفلسطينية، ضدا من المصلحة الوطنية الفلسطينية، أن زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية عن 600 ألف مستوطن، أكثر من ثلثهم يسكنون وسط الفلسطينيين أبناء القدس الشرقية التي يراد لها أن تصبح عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة. وبهذا، يصبح من “العبط” بل والجرم، استمرار الحديث عن الدولة الموعودة التي لا يمكن بأي حال أن تكون مستقلة أو ذات سيادة، مهما بلغ الضغط الدولي على إسرائيل.
إذاً؟؟؟؟ إذا تعذر إنهاء الاحتلال الصهيوني لكامل التراب الوطني الفلسطيني، يصبح الهدف “الأكثر واقعية” –بعد الاعتذار من أهل الواقعية الفلسطينيين والعرب والمسلمين- أن ينتهي “المشروع الصهيوني” العنصري، لصالح خيار “الدولة الواحدة” أو “دولة جميع مواطنيها”، والتي ستحتضن جميع أبنائها المقيمين والمهجّرين منذ بدء الصراع، مسلمين ومسيحيين ويهود. وإذا بدا للبعض أن هذا الحل هو حل “حالم”، نقول أن حل الدولتين هو حل “طوباوي مستحيل”. فهل تغذي ثورة الشباب المؤمن في فلسطين على الظلم والجبروت الصهيوني، وما خلفته من أجواء خوف وهلع في أوساط الصهاينة، وارتفاع لصوت المنادين أو الحالمين- سيان- من اليهود بحل الدولة الواحدة، نقول هل تغذي الأمل بقرب إعلان وفاة “حل الدولتين”، ومعه حلّ السلطة الفلسطينية، لتعلن انخراط الجميع ضد سلطة الاحتلال القائم لجميع أراضي فلسطين التاريخية، كل حسب طاقته وإمكانياته وما يؤمن به من وسائل مقاومة، احتلال يسلب في العمق إنسانية اليهود المقيمين في فلسطين، بنفس درجة تدميره لأمال الإنسان الفلسطيني في العيش الكريم؟ الأيام القادمة ربما تحمل معها الإجابة.