ها قد انجلى غبار المعركة الانتخابية، وبدأ كل معسكر يحصي أرباحه وخسائره، مع أجواء فرح وأسى على المستويين الفردي والجماعي في هذا الحزب أو ذاك، وانتقل الجميع إلى متابعة مسلسل جديد لا يقل إثارة عن الانتخابات نفسها، ونعني به مسلسل اختيار رؤساء المدن والجهات، والذي من شأنه أن يعظم مكاسب هذا الطرف ويبخس ما حققه طرف آخر، لم لا وهذه هي قوانين اللعبة الانتخابية المبنية على التحالفات.. إنها السياسية!!
ما يهمنا بعد هذه المقدمة هو التركيز على أن المغرب برمته، أحزابا ومواطنين، منتخبين ومقاطعين، رابحين وخاسرين، قد كسبوا رهان تكريس “الاستثناء المغربي” وتمايزه عن محيطه الاقليمي والعربي، بقدرته على تنظيم انتخابات يقبل جميع الفرقاء بنتائجها، وذلك للمرة الثامنة منذ عام 1997، على الرغم من تعالي بعض أصوات الاحتجاج في معسكر الخاسرين هنا وهناك، وهو أمر لا يرقي إلى حد رفض النتائج أو التشكيك بها، مع تسليم الجميع بأن القضاء هو الفيصل في إقرار ونقض أية نتيجة لأي مرشح. أمر يمكن القول وبثقة أنه غير مسبوق عربيا، ولا مثيل له على امتداد جغرافيا هذا الوطن المبتلى بدرجات متفاوتة من الاستبداد.
للمزيد: الطوزي: رد فعل المعارضة تحرك استباقي تحسبا لنتائج الانتخابات
وجه آخر من أوجه الاستثناء المغربي، هو تكريس مكانة الأحزاب في الحياة السياسية، وترشيد المشهد الحزبي الذي يبلور بوسائله الذاتية، مشهدا يوجد فيه ثمانية أحزاب قوية، تتوزع على مستويات ثلاثة من القوة، كما الطبيعة: كبيرة، متوسطة، وصغيرة نسبيا. تفاوت لا يمنع حتى الصغير منها من عقد التحالفات مع الفئتين الأخريين، بل والفوز برئاسة مدن عديدة متفاوتة الضخامة، ولعب دور “بيضة القبان” وعنصر الترجيح بين القوى الكبرى والمتوسطة، بما يمنحها قوة فعلية تتجاوز ما منحه لها الناخبون. حياة حزبية، لا تزال مصدر خشية من قبل معظم أنظمة الحكم العربية، ملكية كانت أو جمهورية، ناهيك عن اعتبارها من “المحرمات” في دول أخرى. وحتى في الدول التي تؤمن بها شكليا، فهي لا تفهم سوى لغة الحزب الحاكم أو “حزب الرئيس” الذي يصعب رسم حدود لصلاحياته في عملية إدارة الشان العام.
وارتباطا بما سبق، يكرس المواطن المغربي بدوره مكانته المميزه بين أقرانه العرب، لأنه ببساطة عماد نجاح هذه التجربة الاستثنائية. فقد نجح على مدى عقدين في جعل الزعماء السياسيين يلهثون وراء صوته وهم يتصببون عرقا، ولا يتأكدون من نجاحهم إلى بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات. ليس هناك مكان مضمون لزعيم، ولا نتيجة مؤكدة لقائد. الكل يحسب ألف حساب للمواطن الذي يتوجه إلى صناديق الاقتراع، خشية أن يقوم بمعاقبته إما على تجربة إدارة فاشلة، أو على سلوك انتخابي مشين. خشية يتشارك فيها المرشحون والأحزاب على حد سواء، وما القفزات التي يحققها هذا الحزب، والتدهور الذي يعيشه حزب آخر إلا دلائل على “سطوة” الناخب المغربي وقدراته المتعاظمة، انتخابات بعد أخرى. أما في باقي دول الجوار ومختلف أقطار عالمنا العربي التي تعيش تجربة انتخابات، حقيقية أو مزورة، فإن “أمراء” الأحزاب الحاكمة مضمونو الأماكن، والنتائج المعروفة سلفا تفقد العملية الانتخابية برمتها ما تحتاجه من مصداقية لحفز الناس على المشاركة.
إقرأ أيضا: بنكيران: هذا هو المعيار الذي يحكم به المواطن على عمل الحكومة
وجه آخر من أوجه الاستثناء المغربي، هو دخوله في طور غير مسبوق عربيا عنوانه “الجهوية المتقدمة” التي تتيح للمنتخبين، وبتفويض صريح ومباشر من المواطنين دون غيرهم، حق جباية الضرائب وصرفها في مشاريع تنموية لفائدة الناس، داخل كل محافظة أو ولاية. تطور منطقي يتوج الشوط الكبير الذي قطعه المغرب على درب اللامركزية الإدارية، بطريقة تجعله رائد هذا الميدان عربيا دون منازع ولا حتى مقارب. فبلاد العرب التي أدمنت الرئيس الواحد والحزب الواحد والفكر الواحد، لا يمكن أن تفرط في مركزية القرار في عاصمة البلاد، لاسيما فيما يخص الضرائب وجبايتها وتحديد أوجه صرفها.
أخيرا وليس آخرا، فإن ما يرسخ هذا الاستثناء المغربي ويمده بأسباب النجاح، وجود نظام راسخ على رأسه ملك متفهم. نظام وملك ليس لديهما هواجس بخصوص شرعيتهما، ولا يعتبران نفسهما طرفا مقابلا للشعب وممثليه من الأحزاب. بل وتدرك الأحزاب المغربية جميعها، أن المعسكر المقابل الذي يراقب عملها يوجد فيه العرش والشعب كفريق واحد، وهي حالة فريدة كذلك، حيث أن الأصل في الحالة العربية العامة هو وجود الحزب والرئيس في كفة والشعب في كفة أخرى.
للمزيد: لماذا يحب المغاربة ملكهم ويتشبثون بعرشهم؟؟
وهكذا، تدلل هذه المحطة الانتخابية التاريخية على المبادرات الخلاقة للملك محمد السادس، والحيوية التي تطبع المشهد الحزبي، والوعي الذي يظهره أبناء المغرب في المحطات الحاسمة، وتضيف إلى رصيد “الاستثناء المغربي” الشيء الكثير. إستثناء مرشح لمزيد من الاغتناء بالمبادرات التي ما فتئ هذا الشعب يبدعها، عسى أن تشكل لباقي العرب في هذا الزمن الحالك الذي تتهدد فيه الوجود العربي برمته مخاطر تستعصي على الحصر، نموذجا هاديا وشمعة وسط هذا الظلام الذي يحاصرنا من كل صوب.