انتهت رئاسيات الجزائر بلا مفاجئات. فقط خلف الرئيس المنتخب عبد العزيز بوتفليقة الرئيس المترشح على كرسي متحرك، وتدنت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع، في مقابل ترفيع منسوب الأسئلة حول حظوظ التغيير الذي ينتظره قطاع واسع من الرأي العام.
بدأ يتشكل تيار يقاطع الانتخابات، لا يطعن في أسلوب الاقتراع وما يعتقده خروقات شابت بعض مظاهره فحسب، بل يوجه سهام الانتقاد إلى شرعية العملية الانتخابية برمتها، وما بين النسبة التي حازها المترشح المنافس علي بن فليس وحجم العزوف الذي زاد عما كان عليه سابقاً، يتبين أن الظاهرة أكبر من رد فعل على ترشح رئيس لا يساعده وضعه الصحي في القيام بمهامه، وتمثلت معالم المقاطعة قبل إعلان ترشحه، إذ بدا أن العملية السياسية تتجه نحو الإبقاء على ما كان قائماً، بمبرر أن الاستقرار مهما كان ثمنه يستحق التضحية.
هل خاض المترشح بن فليس أطوار المنافسة وفي ذهنه أنه يمكن أن يخلف بوتفليقة في قصر المرادية؟ أم أنه غامر بكل الأوراق من أجل أن يصبح طرفاً في معادلة ما بعد الاقتراع؟ في أي حال، فإن إصراره على رفض نتائج الرئاسيات وعزمه التصدي لها بوسائل سلمية يعني أن المعركة أصبحت مفتوحة على أي احتمال. غير أن الاقتراب إلى الشارع الجزائري يبدو محفوفاً بالمخاطر، لذلك فدعاة المقاطعة أنفسهم التأموا في تظاهرات محدودة، وانفجرت أوضاع أمنية واجتماعية في غرداية ومنطقة القبائل اختلط فيها ما هو سياسي بأشكال تذمر دفين في النفوس، تغذيها نزعات شبه طائفية. ولا أحد من الأطراف المتنافسة أو المقاطعة يميل إلى صب الزيت على النار، فالعشرية السوداء المرعبة لا يرغب الجزائريون استحضارها إلا من أجل أن توضع إلى الخلف ويلفها النسيان. وما بين تطلعات التغيير وهاجس الاستقرار تتوزع المواقف، لتلتقي عند الحد الأدنى مما يتعين التعايش معه بمرارة.
يرى قطاع واسع من الجزائريين أنهم اجتازوا ربيعهم الذي امتزج فيه الدم بوأد الضحايا، وإذ يلتفتون إلى ما حولهم لا تبدو صورة الربيع الآخر مشجعة. في النهاية لن يكون بوتفليقة في عهدته الرابعة هو نفسه، وفي تقاليد قديمة لبلدان الشمال الأفريقي أنها كانت تحكم تحت ظلال الحاكم الذي لا يعلن عن مرضه أو خلافته إلا بعد استتباب شروط الاستقرار ونقل السلطة.
لا ينسحب الأمر كلياً على حال الرئيس المنتخب على كرسي متحرك، لكنه أقرب إلى التمثل في إعداد الأجواء لتغيير هادئ، عبر الإبقاء على خطوط التماس في وضعها الراهن. وقد يشكل الاتجاه نحو تعديل الدستور والإفساح في المجال أمام قوى المعارضة مخرجاً لائقاً لمعاودة ترتيب أضلاع الصورة، أقله استبدال لغة التصعيد بالحوار.
الجزائريون لم يصوتوا لشخص آخر أو لمراكز نفوذ أخرى كي تدير البلاد. ولا بد من الإقرار بأن الوضع الصحي للرئيس المنتخب يمثل نقطة ضعف جوهرية، فالثقة التي منحت له كانت بخلفية ماضوية، جراء ما قام به، لكن نطاق المؤاخذات حول هفوات التدبير واستخدام اسم الرئيس ونفوذه من طرف من لم يتم التصويت لهم، سيكون أمراً مفروضاً. ولهذا السبب يبدو الاتجاه نحو الإصلاح خياراً لا بديلاً منه، فقد انتصب الاستقرار كأحد أركان نظام الحكم، لكن الأجيال الجديدة من الشباب تتوق إلى التغيير الذي يحل مشاكل البطالة والسكن، وخصوصاً الخدمات، في بلد يتوافر على احتياطي كبير من العملة الصعبة، ناتج عن عائدات الموارد النفطية. ومن الحيف وسوء التدبير اللجوء إلى التخويف من مخاطر عدم الاستقرار، لأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية هي المرتع الخصب لغياب الاستقرار وتأزيم الأوضاع.
تستطيع الجزائر، وقد خرجت من نفق صراع السلطة الذي أهدر سنوات عدة ضمن سجل العشرية السوداء، أن تبدأ من النقطة التي وصلت إليها، أي تكريس شرعية بوتفليقة، لكن في غضون إفساح المجال أمام شرعية ديموقراطية أوسع تحد من نفوذ مراكز التأثير التي تختفي وراء الكرسي المتحرك، فالمعركة حسمت انتخابياً ولم تنته سياسياً، لأن القادم من الأيام كفيل بأن يعاود صراع السلطة إلى الواجهة. وكما الجزائريون يغمرهم التمسك بالشرعية التاريخية، فإن تحويلها إلى شرعية ديموقراطية، بعيداً من الإقصاء والتهميش وسيطرة مراكز النفوذ المتوارية خلف الصورة، في إمكانها أن تكفل تحولاً هادئاً على طريق التغيير الذي يبقي على دور المؤسسات، لكنه يجعلها لصيقة بخيار التنمية والديموقراطية. ولا يمكن الجزائر في علاقتها مع أبنائها ومحيطها أن تبقى أسيرة كرسي متحرك، فالحركة التي لا تتقدم إلى الأمام تعود إلى الخلف.
“الحياة” اللندنية
اقرأ أيضا
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.
أليس لجنرالات حكم الجزائر من يُصحِّيهم
إنه إعصارٌ اندلع هُبوبًا على الرُّقعة العربية من هذا العالم، له جذورٌ في “اتفاقيات سايكس بيكو”، ولكنه اشتدَّ مع بداية عشرينات هذا القرن وازداد حدة في غزة، ضد القضية الفلسطينية بتاريخها وجغرافيتها، إلى أن حلَّت عيْنُ الإعصار على سوريا، لتدمير كل مُقوِّمات كيانها. وهو ما تُمارسُه إسرائيل علانية وبكثافة، وسبْق إصرار، نسْفًا للأدوات السيادية العسكرية السورية.