هنا ليبيا.. من تونس

جلّ الأحداث السياسية والاقتصادية والأمنية والتحركات الاجتماعية الطارئة في تونس، لها علاقة، أو هي نتيجة، لما يسود في ليبيا. ثابت أن الدول المتجاورة في العالم تغمر علاقاتها جدلية التأثير والتأثر، لكن تداخل المعطيات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية بين ليبيا وتونس رفع الأمر إلى مستوى فاق ما يماثله من نظائر.
للأمر أصول في التاريخ. وإذا تجاوزنا التشارك السياسي الاجتماعي بين البلدين في الزمن العثماني وما بعده وصولا إلى ما ساد النضال الوطني ضد الاستعمار من تقاسم على اختلاف المُستعمر، فإن ظاهرة الحدث وصداه بلغت أوجها مع التنافس البورقيبي-القذافي الذي امتد عقودا، وعرف موجات من الودّ والخصام كانت تنعكس على أوضاع البلدين والشعبين.
وتحفل الذاكرة الشعبية، المشتركة أيضا، بجولات متواترة من مزاجية العلاقة بين زعيمين كان كل منهما ينظر في اتجاه. اتفاقية جربة، كما خطاب البالماريوم الشهير نهاية عام 1972، مرورا بطرد العمال التونسيين من ليبيا بقرار “قذافيّ” صرف في خريف 1985، وصولا إلى التأثر بالاعتمال الشعبي الذي اندلع في تونس أواخر 2010 والذي أنتج نسخته الليبية في ثورة فبراير 2011، كانت، كلها، محطات تعرب عن مزاجية رئيسين لا تنفكّ عن التبدل لأسباب موضوعية حينا، ولدواع ذاتية في أغلب الأحيان، كما تشي أيضا عن العروة الوثقى التي تصل الشعبين وتجمع أو تفرق النظامين.
هذه المظاهر، وغيرها، من دلائل الصلات القوية التي تجمع ليبيا بتونس، دفعت محللا ليبيا إلى القول بأن تونس وليبيا “دولة واحدة برأسين أو برئيسين”، وفي ذلك إقرار ضمني بتشابه الحالات الشعبية اليومية والاجتماعية، وتباعد الرؤى الرسمية.
لم ينقطع الجدل الليبي التونسي بعد الثورتين، بل ازداد التأثر التونسي بما يسود الوضع الليبي، والتأثر هنا لا بالمعنى النتائجي المباشر، بل دلالة على انفتاحه بأن الحدث السياسي الذي يقع في ليبيا يكون أثره الأول ورجع صداه في تونس.
ما تعرفه ليبيا مؤخرا من وضع سياسي مخصوص، يختصر في الانقسام السياسي الحاد الذي أفضى إلى انقسام البلاد وتصدعها بين حكومتين وبرلمانين، وما يمثله كل قطب من ارتباطات وانتماءات سياسية وأيديولوجية، فضلا عن ارتفاع أصوات الميليشيات المسلحة التي توسّع نفوذها باطراد على حساب الدولة، وأخيرا تحول ليبيا إلى مرتع للتيارات الجهادية التي قدمت أوج تعبيرات غلوها في عملية ذبح المواطنين الأقباط المصريين الأسبوع الماضي.
عندما نصل هذا الوضع الليبي بما عرفته تونس منذ الثورة من اغتيالات وعمليات إرهابية في جهاتها الغربية خاصة، ونربطه أيضا بما ساد المناطق الجنوبية المتاخمة للقطر الليبي مؤخرا من احتجاجات اجتماعية، يصبح للتوجس التونسي، الرسمي وغير الرسمي، وجاهته ومشروعيته. ذلك أن الحدود التونسية مع ليبيا، التي كانت تمثل المعبر القديم لتجارة عصية على رقابة الدولتين، أو هو اقتصاد يمارس بغض نظر متعمد من النظامين، لأسباب خاصة بالنسبة إلى كل طرف، إلا أن هذه الحدود تحولت مؤخرا إلى معبر لعناصر جهادية ولأسلحة تتمنع بدورها عن رقابة الدولة (هنا أو هناك) بل ترنو إلى تقويضها والحلول محلها.
الإرهاب المتنامي في ليبيا مؤخرا، عبر التشكيلات والميليشيات المسلحة التي تعددت أسماؤها وانتماءاتها، وضع الفاعل السياسي التونسي (حكومة أو معارضة) أمام ضرورة التفاعل باستنباط حلول وتصورات للتوقي من انتقال الآثار إلى تونس، خاصة في ظل وجود ممهدات موضوعية مكثفة لذلك. وكان لحدث ذبح الأقباط المصريين وما أدى إليه (على الصعيد الداخلي الليبي كما على الصعيد الإقليمي) استتباعاته التونسية من المواقف والتداعيات.
على المستوى الحكومي الرسمي استنفرت تونس قواها وكل أجهزتها على الحدود بين البلدين، تحوطا من فرار ليبيين أو عرب أو أجانب من التراب الليبي إلى البلاد (مصادر تشير إلى وصول أكثر من 180 مصريا إلى تونس في الأيام الأخيرة)، وعلى صعيد المواقف السياسية واصلت تونس سياسة مسك العصا من المنتصف بأن أصرت على عدم الانتصار إلى أي طرف سياسي ليبي (وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش أكد أن تونس ملزمة بالتعامل مع حكومتين شرعيتين في ليبيا) أما راشد الغنوشي فقد أكد على دعم “الحوار الوطني” وكل المبادرات التي ترفض التدخل العسكري في ليبيا.
ثابت أن كل الأطراف السياسية التونسية والليبية، بما في ذلك التيارات الجهادية، تدرك عمق الوشائج السياسية والتاريخية والاجتماعية والتاريخية التي تصل البلدين، وهو ما يفسر الزيارات المكثفة التي تقوم بها وفود سياسية ليبية إلى تونس كلما جدّ جديد أو اندلعت أزمة، وهو ما يعلل حرص كل الأطراف السياسية التونسية على التفاعل مع الحدث الليبي بمنطق “الشأن المحلي”، وهو أيضا ما يسمح لبعض القراءات بأن تعتبر أن التيارات الجهادية الليبية والتونسية تنهل من منهل واحد، وأن حدثا إرهابيا ما يقع في المناطق الغربية لتونس هو ضرب من ضروب تخفيف الحصار على تحركات عناصر تكفيرية أخرى “علقت” على الحدود بين البلدين. لذلك تعتبر الجهات التونسية أن مقاومتها أو سعيها لوضع حد للصداع الإرهابي في تونس لا تتم ولا تنجح إلا بالتوقّي والاحتياط من النظائر الإرهابية في ليبيا.
لكل الدول المتجاورة علاقات موسومة بالتأثير والتأثر، لكن الحالة الليبية التونسية مركبة بما يجعل الوضع السياسي لهذا البلد من قبيل الشأن الداخلي المحلي للبلد الآخر، تبعا لما يصل البلدين من روابط معقدة أسلفنا ذكرها. لذلك فإن تصورات الخروج من المأزق الليبي تمر، ضرورة، عبر الرؤى التونسية، وهو ما أدركته، وتدركه، الأطراف الليبية بمختلف مشاربها. عندما يحصل تفجير بأحد أحياء طرابلس أو مدينة أخرى، فإن صداه يصل مباشرة إلى تونس وجنوب البلاد. لذلك كله تقع بنقردان في ليبيا وزوارة في تونس.

*كاتب صحفي تونسي/”العرب”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *