قبل أربعين عاما، أطلق الملك الحسن الثاني، رحمه الله، “المسيرة الخضراء” التي استهدفت استرجاع الصحراء الغربية إثر جلاء الاستعمار الأسباني عنها. بعد أربعين عاما، يتبين أن الحسن الثاني لم يكن يحافظ على مصالح المغرب وحقوقه الوطنية وأمنه فحسب، بل حافظ أيضا على الأمن الإقليمي لا أكثر ولا أقلّ. حافظ، عمليا، على أمن كلّ دولة من دول المنطقة، بما في ذلك موريتانيا التي قبلت في البداية بأن يكون جزء من الأرض الصحراوية تحت سيادتها.
كانت الخطوة المغربية، ولا تزال، خطوة من أجل الاستقرار على الصعيد الإقليمي بهدف حماية دول شمال أفريقيا من الإرهاب والتطرّف. ما كان سائدا إبان الحرب الباردة لا يزال سائدا اليوم في ظلّ نموّ الحركات المتطرّفة التي تسعى إلى تحويل الساحل الأفريقي كلّه إلى بؤرة إرهابية. هناك من لا يزال يحاول استخدام قضية اسمها قضية الصحراء، وهي قضية مفتعلة، من أجل خلق بؤر يتسلل منها الإرهاب إلى دول المنطقة كلّها، وذلك كي يعشش فيها بهدف واحد وحيد هو النيل من المملكة المغربية ومن استقرارها.
عندما انطلقت “المسيرة الخضراء” التي شارك فيها ما يزيد على نصف مليون مواطن مغربي، لم يكن الحدث مفاجأة سوى للذين لا يعرفون شيئا عن المغرب وعن العلاقة المتجذّرة بين المواطن والملك. العلاقة ليست من نوع عادي بأي شكل، بمقدار ما أنّها علاقة تكامل ذات عمق ضارب في التاريخ. تبلور هذه العلاقة الشخصية المغربية التي تبقى شخصية فريدة من نوعها ليس في شمال أفريقيا فقط، بل على صعيد المنطقة العربية والأفريقية ككل أيضا.
للمزيد:مواطن جزائري يوكد أن الصحراء مغربية
هناك مؤامرات كثيرة حيكت ضدّ المغرب منذ استرجاع أراضيه في الصحراء الغربية. كانت البداية انسحاب موريتانيا من الصحراء من القسم الصحراوي الذي كانت فيه بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس مختار والد دادا. لم يتأثر المغرب بذلك. تابع مسيرته وأكّد سيادته على الصحراء كلّها بعدما تبيّن أن الشريك الموريتاني الذي كان يمكن الاعتماد عليه، لم يعد موجودا، بل صار في معسكر آخر. ليس بعيدا اليوم الذي سيكشف فيه من استثمر في الانقلاب العسكري الموريتاني الذي كان موجّها في الواقع ضدّ المغرب.
رفع المغاربة التحدي في وقت كانت مجموعات مسلّحة تدرّبها وتسلّحها الجزائر تشنّ هجمات على المواقع المغربية في الصحراء. سقط عدد كبير من الشهداء في حرب الاستنزاف التي شنتها الجزائر على المغرب، بواسطة عصابات مسلّحة. انضمت إلى الحرب لاحقا ليبيا ـ معمّر القذّافي التي انقلبت على كلّ الشعارات التي كان يطلقها “العقيد”، في مقدّمها شعار الوحدة العربية. حصل ذلك من أجل الإساءة إلى المغرب أيضا. لا يعود شعار الوحدة العربية صالحا، عندما يتعلّق الأمر بالمغرب. كلّ شيء مباح في الحرب على المغرب، بما في ذلك الاستعانة بالقذّافي وأمواله وأسلحته.
ما لبث الحسن الثاني أن استوعب القذّافي الذي أدرك مبكرا أنّه لن تكون له كلمة في الصحراء المغربية. كلّ ما كان مطلوبا منه جزائريا هو تسليح الـ”بوليساريو” وتقديم المساعدات المالية لها. لم يكن القذّافي غبيا وساذجا إلى درجة تسمح باستغلاله إلى هذا الحدّ، وهو الذي كان يعتبر نفسه “ملك ملوك أفريقيا”.
مورست كلّ أنواع الضغوط على المغرب. برعت الدبلوماسية الجزائرية في هذا المجال. أدخلت “الجمهورية الصحراوية”، التي ليست سوى جمهورية وهمية أو “فضائية” كما سمّاها الحسن الثاني في أحد مؤتمراته الصحفية، “منظمة الوحدة الأفريقية” التي صارت لاحقا “الاتحاد الأفريقي”. انسحب المغرب من “منظمة الوحدة الأفريقية”. تبيّن مع الوقت أن الخاسر من انسحاب المغرب هو الأفارقة. يستطيع المغرب الاستغناء عن “منظمة الوحدة الأفريقية”، لكن المنظمة تصبح لا شيء في غياب بلد مثل المغرب.
ربح المغرب كلّ الحروب التي تعرّض لها طوال أربعين عاما. ربح حرب الصحراء عسكريا عندما أقام “الجدار” الذي أمّن الحماية الكاملة لما يوصف بالقسم “المفيد” من الصحراء. وكسب بعد ذلك كلّ الحروب السياسية والدبلوماسية التي توجّها الملك محمّد السادس بطرح مشروع الحكم الذاتي الموسّع للصحراء. هذا المشروع هو اللعبة الوحيدة في المدينة الآن، وهو تحدّ لكل من يريد التوصل إلى تسوية تحفظ ماء الوجه للجميع، وتؤمّن الحياة الكريمة للمواطن المغربي في الصحراء. ولكن هل هناك من يريد الحياة الكريمة لهذا المواطن، أم المطلوب متابعة المتاجرة به والمحافظة على مخيمات تندوف الموجودة في الأراضي الجزائرية من أجل نشوء جيل جديد من الشبّان البائسين الذين لا يصلحون سوى وقود في معركة لا مصلحة لهم فيها.
في سياق كلّ الحروب، ذات الأشكال المختلفة، التي تعرّض لها المغرب، لم تتردد المملكة يوما في مساعدة الجزائر على المحافظة على أمنها وذلك قبل سنوات طويلة من سقوط معمّر القذّافي وتحوّل ليبيا إلى مصدر تهديد لكلّ دول المنطقة. في خريف العام 1988، حصلت ثورة شعبية في الجزائر. كان ذلك عائدا إلى عجز الدولة عن تأمين الحدّ الأدنى من وسائل العيش للمواطن، فضلا عن وجود أزمة سكن حادة. كان السبب الرئيسي للأزمة هبوط أسعار النفط والغاز التي تمثّل العمود الفقري للاقتصاد الجزائري.
سارع المغرب إلى إرسال كلّ أنواع المساعدات إلى الشعب الجزائري، ولكن من دون تحقيق النتائج المرجوة، خصوصا أن الشاذلي بن جديد ما لبث أن اضطر إلى التنحي بعد تحقيق الإسلاميين فوزا ساحقا في الانتخابات البلدية. أثار هذا الفوز مخاوف المؤسسة العسكرية.
حاول الشاذلي بن جديد القيام بخطوات في اتجاه تسوية مع المغرب كاشفا أن النزاع هو نزاع جزائري – مغربي ولا شيء آخر غير ذلك، وأن الـ”بوليساريو” ليست سوى أداة في حرب استنزاف يتعرّض لها المغرب. ولكن، مع رحيل الشاذلي بن جديد، تلاشى كلّ أمل في تسوية معقولة تؤمن للجزائر تمرير خط أنابيب للغاز في الصحراء المغربية. مثل هذا الخط يضمن للجزائر مصالحها الحيوية التي لا يريد المغرب حرمانها منها، ولكن في ظلّ سيادته الثابتة على صحرائه.
في أربعين عاما تغيّرت أمور كثيرة. ما لم يتغيّر أن الصحراء مغربية، منذ اليوم الأول الذي انطلقت فيه “المسيرة الخضراء” التي كانت مسيرة ملك وشعب في الوقت ذاته، مسيرة شعب يعرف مقدار الظلم الذي لحق به جراء ممارسات الاستعمار الفرنسي الذي اقتطع قسما لا بأس به من أراضي المملكة لمصلحة دول الجوار. تلك الدول التي بزّت الاستعمار، بعد استقلالها، في محاولات النيل من المغرب بكل الوسائل المتاحة وفي ظلّ كل الشعارات الفارغة من نوع “حق تقرير المصير”. إنّه حق تقرير المصير لشعب منتشر من جنوب موريتانيا إلى جنوب السودان، مرورا بجنوب الجزائر. يستطيع هذا الشعب أن يجد لنفسه دولة في الجزائر نفسها في حال كانت الجزائر تؤمن، فعلا، بحقّ تقرير المصير للشعوب… بدل المتاجرة بهذا الحق وبهذه الشعوب.
*إعلامي لبناني/”العرب”