أزمة أوكرانيا والنظام العالمي الجديد

في الحادي عشر من آب / أغسطس من العام 2008، رسمت روسيا أول خط أحمر للغرب، حين أعادت ترتيب فنائها الخلفي في جورجيا، فقبل ثلاثة أيام من هذا التاريخ، كانت القوات الجورجية قد اجتاحت أوسيتيا الجنوبية، فيما كان الرئيس ميخائيل ساكشفيلي يرفع طلب الإنضمام إلى الإتحاد الأوربي وحلف الناتو.
الخط الأحمر الثاني، ارتسم في الفضاء الثقافي والتاريخي والجيو ـ ستراتيجي لروسيا، في أوكرانيا، في العام 2010، حين استطاعت روسيا تنحية رمز المعارضة الأوكرانية وحليفة الغرب، يوليا تيموشينكو، عبر إيصال حليف موسكو، فيكتور يانوكوفيتش، إلى سدة الرئاسة، من خلال إنتخابات رئاسية، شابها الجدل والشك والنقاش، إلا إن استلام يانوكوفيش السلطة في أوكرانيا،عنى في الواقع، عودة اوكرانيا إلى النصاب الروسي،واحتواء الثورة البرتقالية التي عرفتها أوكرانيا في العام 2004.
وفي الحالتين، الجورجية والأوكرانية،كانت روسيا تعمل على توضيب حدائقها التقليدية، بحسم ولكن بحذر، وأما في فضائها التقليدي الأوسع والأبعد، فلم تُخرج روسيا بطاقات حمراء بوجه الغرب، حتى العام الفائت، وهذا ما يمكن ملاحظته في منعطفات استراتجية ثلاث على الأقل: وهي: المنعطف الصربي وحرب كوسوفو في آواخر تسعينيات القرن الماضي ـ الحرب الأميركية والغربية في العراق في العام 2003ـ إشكالية الثورة وتدخل الناتو في ليبيا في العام 2011.
البطاقة الروسية الحمراء التي رُفعت منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، خرجت من الجيب الروسي في التاسع من أيلول / سبتمبر / من العام 2013، وعنوانها:معادلة السلاح الكيميائي السوري مقابل إلغاء الضربة العسكرية الأميركية لسوريا.
في الواقع،حولت الأزمة السورية المدمرة، روسيا إلى لاعب قطبي من جديد، جعلت موسكو ندا لواشنطن، ومعها، استعادت لغة الحرب الباردة أنفاسها، وتم استحضارمفردات و أدوات تحليل الصراع المتجدد بين الشرق والغرب.
(أوكرانيا: إمتحان القطب العائد)
منذ تشرين الثاني /نوفمبر 2013، فرض الحراك الشعبي الأوكراني المدعوم غربيا، أسئلة صعبة على القطب الروسي العائد، وفي ليلة الواحد والعشرين من شباط / فبراير، من العام 2014، حين فرً الرئيس فيكتور يانوكوفيتش من قصره الرئاسي، باتت الأسئلة أكثر فضولية ومصيرية حول حقيقة المقومات والمعايير التي تتوافر في القطب الروسي، وقد انهارت أمام أعينه، روابط التاريخ والثقافة مع أوكرانيا، وكذلك الرابط الوحيد بين روسيا والطموح الإمبراطوري، فروسيا بلا أوكرانيا، ليست أمبراطورية، على الأقل هذا ما يقوله الخصوم ـ الأعداء في الولايات المتحدة، من هنري كسينجر، إلى بريجنسكي، إلى جيمي كارتر، بل هناك من ينسب قولا مأثورا إلى فلادمير لينين حيث يقول: روسيا بدون أوكرانيا كالجسد بدون قلب.
أغلب الظن أن ردة الفعل الروسية في شبه جزيرة القرم وضمها إلى الإتحاد الروسي، لم تخرج عن السقف المتوقع في لعبة الأمم، صحيح أن هذه الجمهورية، ذات الحكم الذتي، تقع ضمن جمهورية أوكرانيا منذ العام 1954، حين أهداها نيكيتا خروتشوف إلى أوكرانيا، إلا أن تشابك وتقاطع وقواعد المصالح الدولية، يمكن أن تكون متسامحة حيال السلوك الروسي في شبه جزيرة القرم للأسباب التالية:
1: عدم رغبة الغرب في الذهاب إلى تحقيق نصر مطلق في أوكرانيا مقابلة هزيمة روسية مطلقة، لعجزه أولا، ولعدم استثارة الخصم الروسي ودفعه إلى اتخاذ خطوات قاتلة للطرفين، وضمن هذه الصورة، تغدو شبه جزيرة القرم، تعويضا لروسيا عن خسارتها المؤقتة لأوكرانيا، وبإنتظار تسوية لاحقة، وعلى قاعدة التسليم بعودة القرم إلى روسيا ولكن من دون الإعتراف بذلك.
2: بقاء روسيا في شبه جزيرة القرم ـ يضمن لها حركة أسطولها البحري و عدم إقفال مضيق البوسفور التركي، وهومنفذها الوحيد إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، ومن المستبعد،أن يُقدم الغرب على خطوة متهورة كتلك.
3:إن الغرب، ومن خلال رعايته للموجة الثانية من الثورة البرتقالية في أوكرانيا، هدف إلى وضع روسيا تحت إمتحان السؤال الصعب عن كونها قطبا دوليا يرث الإتحاد السوفياتي، واستطرادا، كيفية التعامل مع أثقال الإمبراطورية… وهذه السؤال سيبقى معلقا.
3: إن الغرب وروسيا،يتنازعان في أوكرانيا،على قاعدة أن الغرب لا يمكن أن يبتلع أوكرنيا كليا، وأن روسيا لا يمكنها خسارة أوكرانيا كليا…ولذلك فلا مشهد النصر مكتمل هنا… ولا مشهد الخسارة مكتمل هناك…وبالتالي لن يشمل المشهد، صورة مستعادة من الحرب العالمية الثانية حين خرج صوت الإمبراطور الياباني، هيروهيتو، ليعلن هزيمة اليابان، أو حين خرج الرئيس الأميركي،هاري ترومان، ليعلن الإنتصار في هذه الحرب… ولذلك يبرز السؤال إلى أين ؟.
( ليست حربا باردة )
شكلت الحرب الباردة أرضية النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، فتوزع العالم بين إيديولوجيتين، ونظامين سياسيين،وإقتصادين، ومعسكرين، حتى في مجالات الفن والأدب،وكذلك النظرة إلى الحياة والوجود، خضع العالم منذ العام 1948و حتى انهيار المنظومة الحمراء في آوائل تسعينيات القرن المنصرم، إلى معايير الإنقسام بين الشيوعية والرأسمالية، أو بين الشرق والغرب.
ووفق التصنيفات السابقة…فالعالم راهنا، متنافس،وليس متصارعا، صحيح، أن الأزمة الأوكرانية، حادة، والأزمة السورية مدمرة، إلا أن هاتين الأزمتين لا تخضعان لقواعد الصراع الدولي الذي عرفته البشرية في حمأة الحرب الباردة، فلا الحل السياسي معدوم في سوريا كما يقول الكرملين والبيت الأبيض، ولا هذا الحل معدوم أيضا في أوكرانيا، كما تقول موسكو وواشنطن، هو غير موجود الآن ولكنه غير معدوم.
وبالنظر إلى تشابك المصالح الروسية والغربية في أكثر من محطة ومنعطف، ليس من السهل القول، إن الحرب الباردة على الأبواب، ولعل النظر إلى لغة الأرقام ـ تجعل مقاربة مسارات الأزمة الأوكرانية ـ أقل تعقيدا:
ـ حجم التبادل التجاري بين روسيا والإتحاد الأوربي يتعدى 460 مليار دولار ( مع الولايات المتحدة 40 مليارا ).
ـ تصدر روسيا إلى دول الإتحاد الأوربي ما بين الثلاثين في المائة وال35 في المائة من حاجتها إلى الطاقة كما يقول الرئيس فلاديمير بوتين نفسه.
ـ في 25 كانون الأول 2012/ ديسمبر: دشن الرئيس فلادمير بوتين، المرحلة الثانية من أنبوب النفط بين سيبيريا والمحيط الهادي، وليصبح حجم نقل هذا الأنبوب بمرحلتيه الأولى والثانية، حوالي 60 مليون طن،إلى دول مثل: اليابان والصين والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وسنغافورة والفيليبين وتايوان، وباستثناء الصين، كل هذه الدول غربية السياسة.
ـ ألمانيا تستورد 35 في المائة من حاجتها من النفط الروسي و39 في المائة من الغاز الروسي.
ـ تستورد ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وفنلندا وتشيخيا وسلوفاكيا وبلغاريا كل حاجاتها من الغاز الروسي.
ـ في العام 2012ـ: بلغ حجم التبادل التجاري الروسي مع الخارج 784 مليار دولار، بحسب البنك المركزي الروسي.
ـ إن حجم الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت إلى الاقتصاد الروسي في العام 2013 بلغ 170.2 مليار دولار، بزيادة نسبتها 10.1% عن العام 2012.
ـ 52 في المئة من موازنة الحكومة الفيديرالية الروسية من النفط، وبحسب أرقام 2012، صدرت روسيا نحو 7.2 مليون برميل يومياً، وجاءت ثانية بعد السعودية التي صدرت في العام نفسه نحو 8.8 مليون برميل يومياً.
عمليا،تعني هذه الأرقام أن روسيا منخرطة تماما في النظام الإقتصادي العالمي، ومصالحها من مصالحه، وهي عضو في منظمة التجارة العالمية منذ العام 2012، ولا شك، أن أيا من أطراف النظام المذكور، ليس من مصلحته الذهاب إلى التقاذف بكرة النار، وبناء عليه، على الأرجح أن تسلك الأزمة الأوكرانية المسارات التالية:
ـ أولا بالنسبة لروسيا:
1: الإحتفاظ بشيه بجزيرة القرم والسعي للإعتراف الدولي بذلك.
2: دعم الأقلية الروسية في المناطق الشرقية من أوكرانيا.
3: إبقاء حشود عسكرية على الحدود مع أوكرانيا الشرقية، وفق معادلة التوتير دون الإشتعال، بحيث تكون هذه المنطقة منطقة ربط نزاع.
4: ليس من مصلحة روسيا الدخول في حرب استنزاف مع أوكرانيا.
5: العمل على إقامة نظام فدرالي موسع في أوكرانيا.
6: عدم استبعاد المناوشات على الحدود لكبح جماح كييف من الإتجاه غربا.
7: الرفض المطلق لدخول أوكرانيا في حلف الناتو.
8: أغلب الظن، أن المصلحة الروسية لا تذهب إلى التقسيم، بقدر ما ان هذه المصلحة قد تجد ضالتها في أوكرانيا الحيادية وخارج عضوية حلف الناتو.
9: ما هو خارج دوائر السيطرة، قد يكون التعاطي الفظ من قبل السلطات الأوكرانية مع مناطق الشرق ذات الأقلية الناطقة بالروسية،وكيفية هذا التعاطي يصعب إلتقاط ملامحه قبل 25 آيار/ مايو المقبل،موعد الإنتخابات الرئاسية الأوكرانية ـ وحيث من المفترض أن تنبثق سلطة سياسية جديدة عنها.
ـ ثانيا: بالنسبة للغرب:
1: حقق الغرب مأربه في إنعاش الأزمات داخل العرين التقليدي لروسيا.
2: ليس من مصلحة الغرب إلحاق هزيمة مطلقة بروسيا، فلا هو قادر، ولا هو يخوض صراعا وجوديا معها، كما كان الأمر في المرحلة السوفياتية.
3: يدرك الغرب حاجته لروسيا في مناطق عدة من العالم، من مثل: سوريا ـ إيران ـ كوريا الشمالية.
4: يدرك الغرب أن أي خطوة غير مدروسة منه، قد تثير العنفوان الروسي، مما يُخرج الأمور وردات الفعل الروسية عن السيطرة.
5: من غير المتوقع أن يقدم الغرب على فتح أبواب الناتو لأوكرانيا، فهذه خطوة مميتة،وهذا ما يراه وزير الخارجية الألمانية فالتر شتاينماير حين قال:لا أرى فرصا لإنضمام أوكرانيا إلى الناتو.
6: مثل هذه الرؤية قاربها الرئيس باراك أوباما حين قال: في أوكرانيا ليس الخلاف على رقعة الشطرنج، وكذلك وزير خارجيته جون كيري، يقول: ما يجري في أوكرانيا ليس صراعا بين الشرق والغرب.
( خاتمة )
نعم… قد تلجأ الأطراف المتنازعة في أوكرانيا إلى سياسة حافة الهاوية ـ ولكن من دون الوقوع في الهاوية، فالكل يدرك، أن ما يجري في أوكرانيا، شكل من أشكال المرحلة المؤجلة من مراحل انهيار الإتحاد السوفياتي، تداعيات مرحلة انهيار لنظام سابق، وليست مرحلة صراع بين أقطاب، وعلى الأغلب، هي مرحلة هندسة هذه التداعيات بما يفضي إلى إعادة هيكلة المصالح في عالم متعدد الأقطاب، قدتكون أوكرانيا الجديدة،وربما الحيادية، أحد عناوينه، ولكن ذلك مرتبط بصورة أساسية بما ينتج عن مرحلة ما بعد الإنتخابات الرئاسية في الخامس والعشرين من أيار /مايو المقبل.

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *