التأريخُ لِمُعجَم اللغة العربية أسئلةٌ وإشكالاتُ

– 1 –

أُسُسٌ وعناصرُ

إن الغايةَ التي يسعى إليها التأريخُ لمُعجَم لُغةٍ من اللُّغاتِ البَشَرية، هي الوُصولُ في نهاية الأمر إلى وضعِ كتابٍ نُسمِّيه قاموساً تأريخياً، وهذا القاموسُ يمكن أن نصوغَ له – بناءً على تصوُّرنا الخاص، وما وقَفَنا عليه من نماذجَ في اللُّغات الأجنبية ذاتِ السَّبق في الميدان – تعريفاً مختصَراً ومركََّزاً جداً، فنقول: هو: كلُّ قاموس يَصف ُألفاظَ اللغةِ ويُؤرِّخُ لها. ويمكن أن نُفَصِّل قليلاً فنقول: هو: قاموسٌ يحتوي على كلُّ العناصر الأساسِ المُكَوِّنةِ للقاموس اللغويِّ العام، مع إضافة عُنصُرٍ جديد هو التأريخُ لكلِّ الألفاظ المُدوَّنة تأريخاً يتناولُ الشكلَ والمضمونَ، أي الدالَّ والمدلولَ، ويرصُدُ كلَّ أوجُه التَّطوُّر أو التغيُّر في المعاني والألفاظ، ويُتابِعُها في كل أبعادها الزَّمانية والمكانية وفي كلِّ مَجالات الاستعمال ومُستَوَياته.
وهذا التعريفُ، رغم بساطته واختصاره وتركيزه، يَختزِلُ كلَّ العناصر الضرورية والأساسية لتكوين هذا النوع من القواميس، بغَضِّ النظر عن التفاصيل والجُزئيات الداخلة تحت كل عنصُرٍ منها – كما سيتَّضحُ في الفقرات الآتية – وعن الأمور الخِلافية بين الباحثين من ذوي الاختصاص والاهتمام بهذا الموضوع. وهذه العناصر الأساسُ التي تُكوِّن مفهومَه وتُحدّدُ وظيفتَه وهدَفَه ودعائمَهُ التي يقوم عليها والمنهجَ الذي يحكمُه والشكلََ الذي ينبغي أن يكون عليه، يمكن أن نقسِّمها إلى فئتين: فئةٍ تندرج تحت مفهوم القاموس اللغوي العام الذي هو بمثابة الجِذع المُشترَك، وفئةٍ أخرى تندرج تحت مفهوم التأريخ الذي يُحدِّد وظيفةَ هذا القاموس وأخصَّ صفاته.
والعناصرُ المُكَوِّنةِ لمفهوم القاموس اللغوي العام، أولُها هو العُنصُرُ المُتضمَّنُ في كلمة قاموس. فكونُ الكتاب الذي يُرادُ وضعُه من أجل التأريخ للغة قاموساً، فهذا يعني بالضرورة أنه يحتوي على مجموع الأسُس الثلاثة التي يقوم عليها كلُّ قاموس سواءً كان لغوياً أم لا، وهي: المُدوَّنة والترتيبُ والتعريفُ. والقاموس هو المصطلح الذي نختاره عادةً للتعبير عن مفهوم الكتاب الذي يتضمَّن قائمةً مُحدَّدةً من المداخل مُرتبةً ومشروحةً أو معرَّفَة، في مقابل مصطلح ( مُعجَم ) الذي يعبِّر عن مفهومٍ أشملَ وأوسع ومُغايِرِ، لأن من أهم خصائص المُعجَم:
– أن لا يكون بالضرورة مكتوباً أو مُدوَّناً، إذ التدوينُ شرطٌ من شروط القاموس لا من شروط المُعجَم([1]) الذي قد يكون شفوياً في اللغات التي ما تزال في المرحلة الشفوية أو التي ليس لها قواميسُ مكتوبةٌ ومدوَّنة .
– أن لا يتضمَّن بالضرورة قائمةً محدَّدةً من الألفاظ، لأن من خصائصه الكبرى أنه نظامٌ مفتوحٌ لا يمكن حَصرُه في عدد معيَّن من الألفاظ أو الوَحَدات المعجمية، وذلك مُخالِفٌ لمفهوم القاموس الذي من أخصِّ صفاته أنه نظامٌ مُغلَقٌ، أي قائمتُه مَحصُورةٍ ومحدّدَة بالضرورة في عددٍ معيَّنٍ من الألفاظ.
– أنه مُتغيِّرٌ باستمرارٍ، بينما القاموسُ ثابتٌ على وضعٍ معيَّن في فترة زمنية مُحدَّدة، ويُمَثِّلُ حالةً آنيةً مستَقِرّة لجُزءٍ من المُعجَم المُستعمَل. ومن الجمع بين هذه الحالات (أو القواميس) التي يُمثِّلُ كلُّ واحدٍ منها مرحلةً تاريخيةً ما، يمكن أن نصلَ إلى كتابةِ تاريخٍ تَطوُّري وتعاقُبيٍّ لمجموع هذه المراحل التي منها يتكوَّنُ القَدرُ المُتَحَقِّقُ أو المُنجَزُ من المُعجَم.
– أنه لا يحتاج بالضرورة إلى شَرطَي الترتيب والتعريف، والقاموس يحتاج إلى ذلك بالضرورة.
– أنه أوسعُ وأشملُ في مفهومه من القاموس، لأنه يشمل كلَّ ألفاظ لغةٍ مُعيَّنة، والقاموسُ مهما تَوسَّعَ لا يحتوي إلا على جُزءٍ منها. فالعلاقةُ بينهما علاقةُ الكُلِّ (المُعجَم) بالجُزءِ (القاموس) أو العامِّ بالخاصِّ.
ولن أحتاج إلى مناقشة مفهوم كلِّ عنصر من العناصر الثلاثة (المدوَّنة والترتيب والتعريف) المكوِّنة للقاموس بصفة عامة والقاموس اللغوي خاصةً، والقضايا المتعلقة بها، لأنها من الأمور المعروفة لدى المختصِّين، لكني سأعود بعد قليل لمناقشة أهمِّ الأسئلة والإشكالات ذات الطبيعة الخاصة بالقاموسيَّة التاريخية مما له علاقةٌ بكل عنصر منها.
أما العنصر الثاني، فهو المُتضَمَّنُ في صفة اللغوي التي وصفنا بها هذا القاموس. وقد أردنا بذلك أن نشير إلى أن أهم ما يميّز القاموس اللغوي عن سواه من القواميس غير اللغوية، كقواميس الأشياء والأفكار والمفاهيم والموسوعات العلمية والتاريخية وقواميس الأعلام البشرية وغير البشرية (أعلام النبات والحيوان والأماكن الجغرافية… وهلم جرّاً)، هو العنصُرُ الكامنُ في نوعية التعريف. ذلك أن الهدف في هذه القواميس التي تُوصَف اصطلاحاً بأنها غيرُ لغوية هو تعريف ماهيَّةِ الشيءِ وكُنهِه وعناصره المُكوِّنة له. وأقربُ أنواع التعريفات المُناسِبة لهذا النوع من القواميس هو التعريفُ المنطقي أو الشيئيِّ، أما في قاموس اللغة فالمطلوبُ تعريفُ الدليل اللغوي بوَجهَيه الدالِّ والمَدلول، وليس تعريفَ الشيءِ أو المَرجِعِ الذي يَرمزُ له الدليلُ والموجودِ خارجَ اللغة، والتعريفُ المستعمَلُ هنا عادةً ما يُوصَفُ بالتعريف القاموسيِّ. وهذا معناه في نهاية الأمر أن المطلوبَ في القاموس اللغوي التاريخي أن يُؤرِّخ للدليل لا للشيء، وللاسم لا للمُسَمَّى. وحتى لو كانت مدوَّنةُ هذا القاموس التاريخيِّ مُشتملةً على أسماء أعلام وأعيانٍ وألفاظٍ دالةٍ على أفكار ومفاهيمَ وأخرى داخلةٍ في إطار المصطلحات التِّقنية، فإن وظيفته التعريفية تنحصرُ عند حدود تعريف الدليل اللغوي والتأريخِ له ولا تَتجاوزُه بحال إلى تعريف الأشياء الخارجة عن حدود اللغة.
والعنصر الثالث: هو المتضمَّن في صفة العام التي أضفناها إلى القاموس اللغوي، والمقصودُ عادةً بالقاموس اللغوي العام، في المقام الأول، هو ذلك الكتابُ الذي يشتمل على عامة الألفاظ اللغوية التي تنتمي لمختلف الحقول والموضوعات والمجالات، وليس فقط تلك المحصورة في حقل معرفيٍّ معيَّن أو موضوع دون سواه، كموضوع اللِّباس، أو الأكل، أو الطعام، أو البحر أو الحيوان… أو غيرها من المجالات المتفرِّقة. على أن القاموس اللغوي العام قد ينصرف معناهُ أيضاً ليُطلَق على الكتاب الذي يهتم بالألفاظ العامة المشترَكَة التي يمكن أن تستعملها الشريحةُ الواسعةُ من أصحاب اللغة، دون الألفاظ الخاصة كأسماء الأعلام والأعيان والألفاظ الاصطلاحية المُوغلة في الخُصُوصيَّة والتخصُّص. ولكننا حين سنتحدث عن مدوَّنة القاموس اللغوي التاريخي سنرى أن هناك خلافاً بين اتجاهين مختلفين: أولهما يريد الاقتصارَ على الألفاظ اللغوية العامة والمشترَكَة، وآخَرُ يريد أن تكون المدوَّنةُ شاملةً لكل أنواع الألفاظ العامة والخاصة على السواء. وفي هذه الحال – حالِ موافقتنا على الرأي الثاني – سيكون علينا أن نضع لفظَ (الشامل) مكانَ لفظ (العام)، ونقول: القاموس اللغوي التاريخي الشامل .
وحين نتحدث عن القاموس اللغوي العام، علينا قبل الانتقال إلى الفئة الثانية من العناصر المُحدِّدة لمفهوم القاموس التأريخي للغة، أن نستحضر في أذهاننا ثلاثة أنواع من القواميس العامة التي تُعنَى بوصف أَلفاظ لغةٍ من اللغات الإنسانية.

أنواع القواميس اللغوية العامة

أما الأول، فهو ذلك القاموسُ الذي يهتمُّ بوصفِ أَلفاظ اللغة وصفاً آنياً مستقِرّاً في حِقبة زمنية معيَّنة قد تطولُ أو تقصرُ، دون أن يكون له أدنى اهتمام بالعنصر التاريخي أو التطوُّري. وكلُّ قواميسنا اللغوية العربية الموجودةِ إلى حدود هذه الساعة، هي من هذا النوع([2])، بما فيها الحديثة والمعاصرة كالمعجم الوسيط والمعجم العربي الأساسي، ومعجم اللغة العربية المعاصرة وهو آخرُها صُدوراً (2008 م) فيما نعلم. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع في اللغة الفرنسية: قاموسُ الأكاديمية الفرنسية في طبعاته العامة المختلفة([3])، وقاموس لاروس الصغير([4])، وقاموس اللغة الفرنسية في القرن السادس عشر لمؤلفه إدمون هوجي([5])، وقاموس الفرنسية المتوسِّطة لجوليان جريماس([6])، وقاموس اللغة الفرنسية القديمة من القرن التاسع إلى الخامس عشر لجُودِفرُوي([7]).
وأما الثاني، فهو قاموس لغويٌّ ، يكون هدفُه الأولُ والأساسُ هو وصفُ أَلفاظ اللغة أيضاً في مرحلة معيَّنة، لكنه يحاول أن يضيف إلى هذا الوصف الأفُقي عنصراً تاريخياً يكون بمثابة خطٍّ آخرَ عَمودي يتقاطعُ معه في نقطة ما لاستكمال المعلومات التي يُقدّمها عن كل مدخلٍ من مداخله. فيصبح الوصفُ بذلك آنياً وتعاقُبياً في وقت واحد، على طريقة ثنائية سُوسير الشهيرة (الدياكرونية والسانكرونية أو التَّعاقُبية والآنية). لكن هذا العنصر التاريخي، رغم كونه يضيف قيمة جديدةً ومفيدة، ليس هدفاً في حد ذاته في هذا النوع من القواميس، وإنما يظل التركيزُ الأكبرُ مُنصَبّاً على جمع القَدر المطلوب من المداخل والوحدات المعجمية وشرحها وتعريفها بالطريقة الملائمة للفئة العامة من القُراء، والتاريخُ إنما هو عنصرٌ مُكَمِّل لهذه الوظيفة الوصفية التَّعريفية، ومعلومةٌ من المعلومات التي أصبحت الصناعةُ القاموسية اللغويةُ الحديثة تُلحُّ عليها إلى جانب بقية المعلومات (الصوتية والنحوية والصرفية والتأثيلية…) التي تُقدَّم في صَدارة كلّ تعريف. وقد استغنَت عن هذه المعلومة التاريخية القواميسُ التي أُلِّفت قبل القرن التاسع عشر كلُّها، وأَولَتها عنايةً كبيرةً أغلبُ القواميس التي أُلِّفت في القرن العشرين.
ومن الأمثلة البارزة على هذا النوع ضمنَ القواميس الفرنسية: قاموسُ ليطري Littré (1872 م) الذي يُعدُّ بحقٍ أقدمَ قاموس لغوي فرنسي وظَّف العنصرَ التاريخي – بعد المحاولة غيرِ المُكتملة التي قامت بها الأكاديمية الفرنسية([8]) – ووضَعَ – في الغالب – لكل مدخل من مداخله تاريخاً لظهوره واستعماله، فكان سابقاً لكل القواميس التاريخية الأخرى في أوروبا ولاسيما قاموس أكسفورد الذي يُوصَف خطأً عند بعض الباحثين العرب بأنه أولُ قاموس لغوي تاريخي ( وإن كان الأولَ من نوعه في منهجه وطريقته). وقد سمَّى ليطري كتابه هذا باسم: القاموس التاريخي والنحوي للغة الفرنسية([9]) (Dictionnaire historique et grammatical de la langue française). ومن الأمثلة البارزة الأخرى على هذا النوع: الكتابُ المسمى: القاموس العام للغة الفرنسية([10])، وقد ظهر مباشرة بعد قاموس ليطري، وحاول فيه مؤلفاه وصفَ هذه اللغة خلال حقبة تمتد من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر وطُبع ما بين 1890 و1900 م، مع وعيٍ أكثر عند مؤلفيه بأهمية هذا العامل في التطوُّر والتغيّر المُعجميَّين وتعاقُب الدلالات وتَسَلسُلها والوصول إلى المعنى الحقيقي أو الأصلي للكلمة([11]).
ثم تطوَّرت هذه الطريقةُ في القواميس اللغوية العامة المتأخِّرة الصادرة بكل اللغات الأوروبية، فأصبح التَّنصيصُ على تواريخ ظُهور الكلمات بمدلولاتها المختلفة أمراً ضرورياً أو شبهَ ضروريٍّ، لأنه أصبح عنصراً من العناصر التي لا يُستغنَى عنها كلُّ تعريف في كل مدخل من المداخل. ومن أمثلته البارزة في اللغة الفرنسية القاموسان الكبير والصغير لبول روبير، والقاموس الذي أصدره المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) بعنوان: ذخيرة اللغة الفرنسية([12]) (TLF) ليضعَ وصفاً للفرنسية خلال الحقبة الممتدة من 1789 إلى 1964 م ، وهو أضخمُ قاموس في تاريخ اللغة الفرنسية وأهمها.
أما ثالثُ نوعٍ من القواميس التي أردنا أن نستحضرها قبل الخوض في صُلب موضوع بحثنا هذا، فهو الذي يجعل من التأريخ هدفَه وأساسَه الأولَ في وصف أَلفاظ اللغة وصفاً تعاقُبياً عَمودياً يَخترقُها من أعلاها إلى أدناها سواءً انطلق الوصفُ من أسفل الشَّرائح (أقدم عصور اللغة) ليصل إلى آخرها وأعلاها ( اللغة المعاصِرة)، أم عَكَسَ الأمرَ ، فبدأَ بأعلى شريحة ليصل في النهاية إلى أسفلها. فهو يُطبِّق في الحالتين منهجاً تعاقُبياً دياكرونياً بامتياز. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قاموسُ أُكسفوردOxford English Dictionary (OED) (1928 م)، وقاموس وُرتبرغ الشهير (FWE)([13])، وقاموس ديبوا وصاحبَيه المطبوع حديثاً باسم القاموس التأثيلي والتاريخي للفرنسية([14])،

ثم قاموس روبير التاريخي المسمى القاموس التاريخي للغة الفرنسية([15]).

ونحن – بعد هذا – يمكن لنا – من ناحية أولى – أن نستغني الآن عن النوع الأول من أنواع القواميس الثلاثة المذكورة، لأنه واقعٌ في هامش موضوع حديثنا الذي نخوضُ فيه وليس في صُلبه ولُبّه، ولا يُولي العنصرَ التاريخيَّ أيةَ أهمية، وإنما هو قاموسٌ لغوي عارٍ بتاتاً عن العنصر التاريخي. ويُمكننا – من ناحية أخرى ولغاية دراسية مَحضٍ – أن نصطلح على إطلاق صفةِ القاموس اللغوي التاريخي على النوع الثاني من هذه القواميس، تمييزاً له عن النوع الأخير الذي قد نصطلح على وصفه بالقاموس التاريخي للغة. وقد قدَّمنا (التاريخي) هنا وأَخَّرناه هناك، والسببُ راجعٌ إلى درجة التَّركيز فقط. فأحدُهما يُركِّز على الجانب اللغوي في التعريف، أي أنه يعتمد بالدرجة الأولى على عناصر لغوية في تعريف الألفاظ وشرحها وتوضيح دلالاتها المختلفة، والآخرُ يُركّزُ أكثرَ على العناصر التاريخية والتأثيلية في التعريف. وإلا فإن كلاً منهما يهتمُّ بوصف أَلفاظ اللغة بطريقته، لكن درجة الاعتماد على التاريخ مختلفة: جزئية أو ثانوية في هذا ، وأساسية أو ومركزية في ذاك. ويبقى السؤالُ مطروحاً – بعد تنحية القاموس اللغوي الصِّرف – عن أيٍّ النوعين المُتبقّيَّين أجدَى وأنفعُ للغتنا العربية؟ والجوابُ سيكون – لا شك – هو أن كلاًّ منهما مُفيدٌ ونافِع في بابه وغَرَضه، وكلاً منهما يؤرِّخ للغة بطريقته. ولاسيما أن لغتنا تخلو منهما وتفتقر إليهما معاً، وقد اهتمَّت قواميسُنا – وهي الأغزرُ والأغنَى تُراثاً وتَجربةً، والأطولُ عُمُراً بين اللغات الحيَّة – بكل شيء إلا بقضية الوصف التاريخي للغة العربية. فيا ليتنا نستطيع العملَ من أجل النَّموذَجين معاً لأن أحداً منهما لا يكاد يُغني عن الآخر. فهذا يتوجَّه للفئة العريضة من القراء متخصّصين وغير متخصِّصين، يقدّم لهم في تعريف الكلمة/ المدخل ضُروباً مختلفةً من المعلومات الضرورية بقدر ما يحتاجون، وتكون ضمنها المعلومةُ التاريخيةُ عنصرًا واحداً مما يحتاجون. وذاك يتوجَّه إلى فئة خاصة ومحدودة من القراء والمُستعملين، هي فئةُ المتخصِّصين والمُتَضَلِّعين الذين تضيقُ القواميسُ العامةُ للغة (المتمثِّلة في النوع الأول) عن حاجتهم، ولا تروي تلك الزُّمرةُ الثانيةُ من القواميس عَطَشَهم ولا تُشبِع نَهَمَهم من ناحية التاريخ ومراحل التطوُّر اللغوي، لأن ما فيها من معلومات، عن تاريخ الألفاظ والمعاني وشواهد وتفاصيل عن مراحل تطوُّرها، قليلٌ لا يَشفي الغَليلَ، فيمحَضُ جهدَه كلَّه أو جُلَّه لهذه الناحية التي يعلم أن لها طُلاباً ورُغَّاباً من نوعٍ خاص يَوَدُّونها دون غيرها أو أكثرَ من غيرها، ويحرصون عليها ويتدافعون من أجلها.
ولا شكَّ في أن المجهود الضخم الذي قد يُبذَل بالضرورة من أجل جمع الشواهد والوثائق والنصوص والمعلومات لوضع النوع الأخير من القواميس التي ذكرناها، سيفيد أيضاً في تلبية الحاجة التي يتطلَّبها النوعُ الثاني (أي النوع المتوسِّط أو المُصغَّر من القواميس التاريخية )، فسيأخذ ما يكفيه منها ويترك الباقي. وإذن، لا علينا إذا قلنا إن المهم، في هذه المرحلة الحالية التي تفتقر فيه لغتُنا إلى أي نوع كان من أنواع القواميس التاريخية التي تتوفَّر للغات الأوروبية، هو أن تُجمَّع المعلوماتُ الكافيةُ والنصوصُ والوثائق الضرورية التي يمكن استغلالُها والاستفادةُ منها سواءٌ في إنجاز هذا العمل أو ذاك، وقد تكون صالحةً لإنجاز العَمَلين معاً. وما دام الأمرُ على هذا النحو، فليكن حديثُنا عن القاموس التاريخي للغة العربية عاماً أي صالحًا لخدمة النَّوعين معاً. لأننا فعلاً في أمسِّ الحاجة إليهما جميعاَ. والفرق ُبين النوعين – كما قلنا – هو فرقٌ بين نموذج معمَّق وموسَّع والآخر موجَز مختصر .

– 2 –

الوظيفةُ والملامحُ

بعد هذا الذي سبق، يمكننا أن ننتقل للحديث عن الفئة الثانية من العناصر المُكمِّلة لتعريف مفهوم القاموس الذي يكون هدفُه الأساسُ هو التأريخُ للغة.
وهنا تتزاحمُ علينا وتعترضُ طريقَنا أسئلةٌ كثيرة، سنحاول ترتيبَ طرحها والجوابِ عنها خُطوةً خطوةً. والسؤال الكبير الذي ينتصِبُ الآن أمامنا على التَّوِّ هو: ما شَكلُ هذا التأريخ وما ملامحُه الكبرى وكيف يكون؟. ولقد سبَق أن لخَّصنا الخطوطَ العريضة لما ينبغي أن يكون عليه هذا التاريخ في الجزء الثاني من تعريفنا للقاموس التاريخي وحددَّنا وظيفتَه في العناصر الآتية حين قلنا: «التأريخ لكلِّ الألفاظ المدوَّنة تأريخاً يتناولُ الشكلَ والمضمون أي الدالَّ والمدلولَ، ويرصُدُ كلَّ أوجُه التَّطوُّر أو التغيُّر في المعاني والألفاظ، ويُتابِعُها في كل أبعادها الزَّمانية والمكانية وفي كل مَجالات الاستعمال ومُستَوَياته». وهذه العناصر التي حَدَّدنا بها شكلَ هذا التأريخ، وفي الوقت ذاته، وظيفةَ القاموس التاريخي للغة، يمكن إعادةُ صياغتها وتفكيكُها إلى النقط الآتية:

1 – التأريخ للوحدة القاموسية (المدخل) من جهتَي الشكل والمضمون أو المَبنَى والمعنى، وليس الاقتصار على الواحد منهما فقط. وهذا يقتضي:

أ) رصدَ أولِ ظهور للكلمة المُراد التأريخ لها، وإعطاء تاريخ صحيح أو مرجَّح لميلادها ودخولها في الخدمة والاستعمال بناءً على وثيقة أو شاهد أو نص يثبتُ ذلك .

ب) تقديم الصورة أو الصيغة الأولى التي ظهرت بها تلك الكلمةُ من الناحية الشكلية التلفُّظية والكتابية، ثم المعنى الأول أو الأصلي الذي كان لها في مرحلة الظهور الأول.

ج) تقديم ما هو ضروري من المعلومات التأثيلية حول الكلمة التي يُؤرَّخ لها (صيغة الكلمة في لغتها الأصلية إن كانت مُنحدِرة من أصل أجنبي وما آلت إليه في اللغة المُستقبِلة مبنىً ومعنىً، وإعطاء نُبذة مختصرة عن الرحلة التي قطعتها الكلمةُ قبل وصولها إلى العربية …). وهنالك من يعتقد أن الجانب التأثيلي غيرُ مطلوبٍ أو ليس مهمّاً في القاموس التاريخي، ونحن نعارضُ ذلك بقوة، ونعتبر عنصر التأثيل من العناصر الأساس في العملية التأريخية لا تكتمل صُورتُها إلا بوجودها. فكلُّ قاموس تاريخي في نظرنا لا بد أن يكون تأثيلياً أيضاً (وليس شرطُ القاموس التأثيلي أن يكون تأريخياً). فحين نُورِد كلمةَ (مُناوَرة) على سبيل المثال، لا يكفي في التأريخ لها أن نقول إنها ظهرت في القرن التاسع عشر([16])، وأن معناها: تَمرينٌ أو تدريبٌ عسكري وعَمَلُ الحِيلة، وإنما لا بد أن نضيف ما يُكمل قصةَ هذه الكلمة وهو: 1) أنها معرَّبة عن اللغات الأوروبية الحديثة([17]) التي أخذت بدورها عن اللاتينية، وليست من جذر معجمي عربي أصيل، أي ليست من (ن و ر) ولا (ن ي ر) كما قد يتوهَّمُ البعضُ. 2) أن معناها الأول في تلك اللغات هو ما يُعمَلُ باليد، ثم أصبحت تدلُّ على التدريب العسكري ، ثم على الخداع والاحتيال، فيما بعد.
وحين نؤرخ لكلمة (تَرسانة) التي شاع استعمالُها أيضاً في اللغة العربية الحديثة، لا يكفي أن نُورد تاريخَ ظهورها في العربية بالمعنى الذي ظهرت به (وهو: مستودَع الذَّخائر والأسلحة وأدواتِ الحرب)([18]) والتطوُّر الذي حصل لمعناها، بل لا بد أن نأتي بمعلومات أخرى تُكمِلُ عناصرَ القصة، وهي: 1) أنها مأخوذةٌ من اللغات الأوروبية الحديثة (في الفرنسية الحديثة: arsenal، وفي الفرنسية القديمة: tarsenal، وفي الإيطالية:arzenale ، وفي الإسبانية: darsena). 2) أن اللغات الأوروبية نفسها أخذتها عن العربية بصيغة (دار الصَّنعة) أو
(دار الصِّناعة) التي كانت تُطلَقُ على وَرشةٍ لتعلُّم إحدى الصَّنائع ثم قُيِّدَ استعمالُ الكلمة بالدلالة على مكان صناعة السُّفُن والسُّفُن الحربية خاصةً.
3) أن رحلة الكلمة انتهت بعودتها إلى موطنها الأصلي في اللغة العربية بعد أن تغيَّرت ملامحُها، فظهرت في صيغة (تَرسانة) حيناً و(تَرسخانة) حيناً آخر،
4) أن استعمالها استقرَّ أخيراً على الصيغة الأولى مع إضافة إمكانية كسر التاء. 5) أن معناها أصبح مُنصَرِفاً في النهاية إلى الدلالة على الذخيرة أو الكمِّية الهائلة من الأسلحة.

2 – رصد كل أوجه التطوُّر والتغيّر التي طرأت على الكلمة وجميع مُشتقّاتها في جانبَي الدالِّ والمدلول معاً. و متابعة أشكال هذا التغيُّر عبر الامتداد الزمني والجغرافي معاً. أي عبرَ كل المراحل التاريخية التي عاشَتها الكلمةُ وكل المعاني المختلفة التي اكتسبتها خلال الحقب المختلفة، وإعطاء تواريخ صحيحة عن كل مرحلة وعن كل تغيُّر في الشكل أو المعنى. وليس هذا فقط، بل لا بد من تتبع حالات التطوُّر والتغيّر التي تطرأُ على الألفاظ والمعاني في البيئات المختلفة التي تُستعمَل فيها، فهي عند تَميمٍ بلفظ كذا ومعنى كذا، وعند طَيِّءٍ بلفظ كذا ومعنى كذا. وفي الشرق تُستعمل بمعنى وفي المغرب تُستعمل بمعنى آخر أو صيغة أخرى. ومن أبسط الأمثلة على ذلك كلمةُ (ظهير) التي لها في العربية المشتركة معنى: مُعينٍ ومُساعِد، ومعنى قويّ، لكنها في المغرب أُضيفَ لها معنى خاصٌّ منذ العصر الموحِّدي (ق6 ﻫ) وهو الدلالةُ على المَرسوم الذي يُصدره السلطانُ. ومثال ذلك أيضاً كلمةُ (مَخزَن) التي استُعمِلت في العربية المشتركة بمعنى المكان الذي تُخزَن فيه الأشياءُ، لكن في المغرب يُضافُ إلى هذا المعنى العام المشترَك معنى آخرُ خاصٌّ لكنه شائعٌ ومستعملٌ بكثرة منذ العصر الموحِّدي أيضاً، وهو الدلالةُ على الدولة والحكومة والسلطة والإدارة. وإذا أردنا المضيَّ إلى أبعد من هذا في تتَبُّع رحلةِ هذه الكلمة إلى آخرها ، فسنضيفُ أنها هاجرت إلى اللغة الفرنسية منذ سنة 1400 م بصيغتَي:magasin وبمعنى: مستودَع، ثم بمعنى مَحَلٍّ تجاري، ثم أُخِذت منها magazine بمعنى مجلَّة مصوَّرة، واشتُقَّت منها كلماتٌ أخرى أصبحت من صميم اللغة الفرنسية مثل: (magasinage, magasiner, magasinier, emmagasiner)، ثم أُعيد اقتباسُها سنة 1838 م بصيغة: makhzen بمعنى السُّلطة والإدارة في المغرب… إلى آخر القصة.
ولا يمكن أن نتصوَّر تاريخاً لغوياً يتعرَّض لكلمة (حَرشَف) فيكتفي بذكر معناها عند ظهورها في شعر امرئ القيس، وهو الدلالةُ على نوع من النباتات الشَّوكية المُخضَرَّة، ولا يتتبَّع تطورَ معناها ولفظِها في كتُب النباتات المتأخِّرة (كالجامع لابن البيطار وعمدة الطبيب للإشبيلي)، وما طرأ عليها من تغيُّر دلالي وصوتي حين أصبحت منذ منتصَف القرن الرابع الهجري، على الأقل، تُنطَقُ في بيئة الأندلس بالخاء والشين المضمومتين (خُرشُف) – كما نصَّ على ذلك الزُّبيدي في لحن العوام وكلُّ نصوص لحن العامة الأخرى التي جاءت بعده – وليس بالحاء والشين المفتوحتين (حَرشَف) كما كان عليه الأمرُ من قبل. بل كيف لا نتابعُ قصةَ هذه الكلمة إلى نهايتها فنقول إنها تطوَّرت فيما بعد بزيادة كمِّية المَدِّ في صوت الشين فأصبحت تُنطَقُ وتُكتَبُ على صورة (خُرشُوف)، وكيف انتقلت هذه الصيغةُ بعد ذلك من الاستعمال العامي إلى المستوى الفصيح الذي أقرَّه مجمعُ اللغة العربية بالقاهرة وأثبتَه في المعجم الوسيط؟. والقصةُ ما يزال لها ذُيولٌ، فقد انتقلت هذه الكلمةُ عن طريق الإسبانية والإيطالية إلى الفرنسية (artichaut) والإنجليزية (artischoke) وغيرهما، ثم عادت إلى العربية في صورة (أرضي شَوكي) فاعتقد الناسُ أن هذه الأخيرة كلمةٌ جديدة أُضيفت لمعجم العربية، وما هي في الحقيقة سوى خطإ ناتِجٍ عن ترجمة الكلمة الفرنسية إلى العربية، ومثالٍ من أمثلة الكلمات المُهاجِرة التي استقرَّت في لغات الغرب رَدَحاً من الوقت ثم عادت إلى العربية متنَكِّرة في صورة جديدة خادِعة([19]).

3 – متابعة التطوًّر في المجالات والحقول والموضوعات المختلفة التي استُعملَ فيها اللفظُ الذي يُؤرَّخُ له. فهناك الكثيرُ من الألفاظ التي تكون لها استعمالاتٌ مختلفة باختلاف المجالات. فنأتي على معناها اللغوي العام، ومعانيها في كل مجال على حدة. وانتقالُ الكلمة من معنى إلى آخر، ومن حقل دلالي إلى حقول أخرى، هو في حد ذاته دليلٌ على التغيُّر والتطوّر في المجال الدلالي الذي لا بدَّ للمؤرِّخ اللغوي أن يَرصُده، ويبحث عن الزمن الذي حدَثَ فيه هذا التغيُّر، والأمثلةِ التي تؤيد استعماله في هذا المعنى أو ذاك.

4 – متابعته – أخيراً – في كل مستويات استعماله. وكلُّ لغة لها مستوياتٌ عدة لاستعمال الألفاظ تسمى في الاصطلاح اللساني المعاصر بالسِّجِلات (registres). فهناك المستوى الأدبيُّ أو الفنِّي «الرفيعُ»، عند كبار الكُتّاب والأدباء، ومستوى الاستعمال الصَّحافي المكتوب أو المنطوق الذي يجري على ألسنة المُذيعين والخُطباء ونسمعه من وسائل الإعلام السمعي والمرئيِّ ومما يُلقَى على مختلَف المنابِر. وهناك المستوى العاميُّ أو الدارجُ على ألسنة العامة من الناس وهو خليطٌ من الفصيح السَّليم والفصيح المُحرَّفِ والدخيل والمعرَّب. وحين نكون بصدد التأريخ لكلمة معيَّنة يتعيَّن رصدُ استخدامها في كافة هذه المُستويات. وهذا الأمرُ لا يتعارض مع الرأي الذي نتبنّاه مع آخرين وهو الذي يدعو إلى أن يقتصر هذا القاموسُ في المرحلة الأولى على المستوى الفصيح دون اللهَجيِّ والعامي. فلا بأس من أن تكون البدايةُ على هذا النحو، ولكن لا بد في النهاية من الوصول إلى مرحلة التأريخ الشُّمولي لكل مستويات العربية. كما أن هذا لا يمنَع – عندما تكون نقطةُ الانطلاق في مُدوَّنة هذا القاموس هي الفصحى – من تتبُّع مراحل تطوُّر الكلمات وتغيُّرها إلى آخر نقطة في حياة استعمالها التي قد تكون هي مرحلة الانتقال من الفصحى إلى العامية.
هذه العناصر إذن، هي التي توضِّح الملامح العامة لما يكون عليه القاموسُ التاريخي للغة، وهي التي تحدِّد وظيفتَه والأُسس الرئيسةَ التي يقوم عليها.

الأَهَمِّيَّةُ والضَّرورة

أما أهميَّتُه، فتتجلَّى في كون اللغة – والمقصودُ مُعجمُ اللغة – هي مستودَعُ تاريخ الجماعة التي تستعملها، وذاكرتُها الثقافية والحضارية، والسِّجلُّ الذي تُدوَّنُ فيه كلُّ صغيرة أو كبيرة من حياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحصيلة خِبراتها وتجاربها في كل المجالات وكلِّ مراحل التطور التي تمرُّ بها. ومعنى هذا أننا حين نعمد إلى اكتشاف تاريخ لغتنا بكل جُزئياته البسيطة المُختَزَنَة في كلّ كلمة وعبارة وتركيب، وفي كل قصة صغيرة تَحكيها الكلماتُ على اختلافها وتنوُّعها وكثرتها وازدحامها، فنحن في الحقيقة نعمل على اكتشاف كل جزئية من تاريخ ثقافتنا وحضارتنا وأفكارنا وقِيَمنا ومفاهيمنا وتَصوُّراتنا للعالَم بمُكوِّناته المختلفة، وتوثيقِها وتسجيلِ تواريخ ظهورها وحُدوثها وتطوُّرها وانتقالها من مرحلة إلى أخرى. والذي يزيد من أهمية هذا الأمر أننا حين نبحث في أسرار اللغة ونتعمَّق في فهم مفرداتها وتتبُّع حكايات ألفاظها، نجدها أصدقَ شاهدٍ وأوثقَ نصٍّ يمكن أن نمتلكه ونعتمده عن كل التفاصيل التي تهمُّنا في دراسة التاريخ الشُّمولي لكل مجتمع لغوي. فالتواريخُ التي يكتبُها المؤرخون بالمِهنة عن الأُمَم والشُّعوب، والوثائقُ التي يستعملونها ويأتون بها، يمكن أن تتعرَّض للتشويه والمَسخ والانتحال والتَّزوير، على أيدي كاتبيها وناقليها ورُواتها في كل لحظة، لكن التاريخ الذي نستنبطه ونجمع تفاصيلَه الدقيقةَ من أحشاء المعاجم ومن ثنايا الألفاظ والتراكيب، تاريخٌ حقيقي أصيلٌ، لا يلحقُه الزَّيفُ ولا يعلَقُ به مَسخٌ أو تزويرٌ.
وحين نتحدث عن كتابة تاريخ المُعجَم اللُّغَويِّ، فإن المقصود – كما لا يخفى – ليس اصطناعَ تاريخٍ لشيءٍ ليس له تاريخٌ. وإنما المقصودُ هو التَّنقيبُ في النُّصوص والشواهد والوثائق الصحيحة التي لا يتطرَّق إليها الشكُّ، لمعرفة الحِقَب – وربَّما الأيامِ والشهورِ فضلاً عن السَّنوات – التي نشأت فيها هذه الكلمةُ أو تلك بهذا المعنى أو ذاك، وبهذه الصيغةِ أو سواها. وحين نَكتشِف ذلك، ونحن مُعزَّزون بالأدلة مُؤَيَّدون بالشواهد، نكون قد اكتشفنا تاريخَ ميلاد شيءٍ أو فكرةٍ أو أداةٍ أو حِرفةٍ أو صناعةٍ أو علمٍ أو تقنية أو ظاهرةٍ حضارية، أو سلَّطنا الضوءَ على مرحلة في حياة المجتمع المستعمِل للغة، أو أمسكنا بدليل ماديٍّ على وجود هذا الشيء أو تلك الأداة الحضارية أو الظاهِرة الفكرية، أو ذلك الحدَثِ الاجتماعيِّ أو الاقتصادي أو الديني أو الثقافي الذي يمكن أن يكون له شأنٌ ذو بالٍ. فالكلمةُ يمكن أن تُصبح مِفتاحاً لمرحلة تاريخية أو حضارية أو اقتصادية معيَّنة، وعُنواناً يُعتَمَدُ في الفصل بين مرحلةٍ وأُخرى، عوضَ طريقة التَّحقيب التقليدية القائمة على ظهور سُلالة من السُّلالات الحاكمة واختفائها. فالبحثُ في تاريخ كلمة (سُكَّر) على سبيل المثال سيقودنا إلى البحث في نشأة هذه المادة ومكانِ نشأتها وكيفيَّة إنتاجها وتَصنيعها واستعمالها وتسويقها والتعاملِ بها بين الأُمَم، ومعرفةِ الانتعاش الاقتصادي والحركة التجارية اللَّذين قاما عليها. وبالتالي سيقودنا تاريخُ هذه الكلمة حين نتتبَّعه خُطوةً فخُطوةً إلى اكتشاف الدور الذي كان لبعض الدول العربية، ومنها المغربُ الأقصى، في إنتاج السكَّر وتصنيعه والمُتاجرة به، ولاسيما في العصر السَّعدي الذي يمكن أن نُعنوِنَه بعصر صناعةِ السُّكَّر. والبحث في كلمة (بارود) سيدفعنا أيضاً للتعرُّف إلى المصدر الأول لاختراع هذه المادة المتفجِّرة التي كان لظهورها في التاريخ شأنٌ كبير في تطور الحروب، وسيؤدي بنا حتماً إلى معرفة الدور الذي قامَ به العربُ والمسلمون في استخدام هذه المادة ونقلها إلى أمم أخرى. وأخيراً، لقد أصبحت كلمة (نَفط) عنواناً لمرحلة تاريخية معيّنة خصبة بالأحداث والسياسات والصراعات بين الشرق والغرب، كما كانت كلمة (استعمار) عنواناً لمرحلة أخرى من مراحل الصراع بين الشعوب الضعيفة والشعوب القويّة المُسيطِرة. وكلمةُ (حاسُوب) حين ظهرت أصبحت عنوانَ مرحلةٍ جديدة من التطوُّر العِلمي والتِّكنولوجي، وكلمة (عَولَمة) عنوانٌ آخرُ على مرحلةٍ أخرى، من التقارب بين الشُّعوب والحضارات وتعميم المَعرفة والتَّرويج لنَمُوذَجٍ موحَّدٍ من الثقافة، لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ. ومعرفةُ مثل هذه الأمورُ لها منافِع عامة تُفيدُ كلَّ شخص له اهتمامٌ ما بتاريخ الحضارات والأفكار والمفاهيم والصناعات والثقافات ونحوها. وبالإضافة إلى المنافع العامة التي تشمل كل التخصُّصات والاهتمامات، هناك الفائدةٌ الخاصة التي يجنيها الباحثون في اللغات الإنسانية حين ينكبُّون على تاريخها ومقارناتها وتداخلها ودراسة الوشائج القائمة بينها وعلاقة بعضها ببعض وخُضُوعها لقانون التأثُّر والتأثير، والهجرةِ والهجرةِ المُضادّة.

– 3 –

أسئلةٌ وإشكالاتٌ

إذا كان القاموس التأريخي يقوم – كبقية أنواع القواميس الأخرى – على وجود العناصر الثلاثة الأساسية: المُدوَّنة والترتيب والتعريف، كما سبَقَ القولُ، ويشترك مع القاموس اللغوي العام في القواعد العامة لكل عنصر منها حَسبَما وقعَ عليه التوافقُ بين أصحاب الصناعة القاموسية في العصر الحديث، وما تبَنَّته المنهجيةُ التي وضعها المَجمعُ العلمي بالقاهرة ونشرَها في مقدمة المعجم الوسيط، فإن للقاموس التاريخي مع ذلك، خُصوصياتٌ وإشكالاتٌ سوف تتَّضحُ من خلال الأسئلة الآتية التي تُعمِّق فهمَنا لما ينبغي أن يكون عليه التأليفُ والإنجازُ والتنفيذُ.
ولعل أهم سؤالٍ وأكثره إلحاحاً وإثارةً للخلاف والجدال والأخذ والرَّدِّ من بين بقية الأسئلة الأخرى، في هذا الباب، هو المتعلِّق بمدوَّنة القاموس أو مادته اللغوية، والمنهج الذي ينبغي تبنِّيه في التعامل مع هذه المادة. فهل سيكون المنهجُ المتَّبَع في جمع مادة القاموس وتكوين مدوَّنته منهجاً استقصائياً استيعابياً في كل جوانبه ونواحيه، أم سيكون منهجاً انتقائياً انتخابياً يسمح بأخذ جزء من المادة اللغوية وتَرك جزءٍ آخر، أم سيكون في بعض الجوانب شُمولياً وفي بعضه الآخر انتقائيا؟. ومن أجل التوضيح، يمكن أن نفرِّع هذا السؤال الكبير إلى مجموعة أسئلة أو إشكالات على النحو الآتي:

ثُنايةُ القديم والحديث أو المُستعمَلِ والمُهمَلِ

– فأولُ إشكال متعلِّقٍ بالمدوَّنة هو حول ثنائية القديم والحديث أو المستعمَل والمُهمَل، من المادة اللغوية التي علينا جمعُها. فهل ينبغي لمدوَّنة قاموسنا الذي يؤرِّخ للغة العربية، أن تكون شاملةً لكل ألفاظ هذه اللغة في كل مراحلها التاريخية منذ نشأتها الأولى إلى مرحلتنا المعاصرة، فلا نُغادِر كلمةً من كلماتها في القديم والحديث، ما بقي منها جارياً في الاستعمال وما سقَطَ وأُهمِلَ بفعل التطوُّر وسُنَّة التزاحُم والتدافع بين الألفاظ، إلا أحصيناها وتوقَّفنا عندها وأرَّخنا لها، منذ نشأتها إلى اليوم، أم أنه يكفي الاقتصارُ على الألفاظ الحَيَّة التي ما تزال جاريةً في استعمالنا الحديث، ولا نلتفتُ خلفَنا لما انتهى عهدُه وانقضَى أجلُه من المَيِّت والمَهجور، إلا عند الضرورة والاقتضاء، أي عندما يتطلّب الأمرُ البحثَ في جُذور كلمة نستعملها اليوم ونحتاج إلى معرفة تاريخها وتتبُّع أطوار حياتها لفهمها أكثر وتوظيفها بشكل أدقَّ، وبالتالي لن نتطرَّق إلى الألفاظ الميِّتة والمُهملة التي سَقَطت من الاستعمال لأنها لم تعد تهمُّنا في شيء إلا في حدود الاستثناء المذكور؟

وهذا السؤال على قدرٍ كبير من الأهمية، لأن هناك اتجاهين مُتعارضين، وكلٌّ له حجَّتُه وأنصارُه. والأول تُمثله فئةٌ من القواميس التاريخية المشهورة، أبرزُها قاموسُ أكسفورد الإنجليزي (Dictionary= OED Oxford English) والمتأثرون بمنهجه، وقد اهتم بجمع كل الألفاظ الإنجليزية وحاول أن لا يُغادر منها شيئاً قديماً أو حديثاً، حياً أو ميتاً، مستعملاً أو مهملاً([20]). ومن القواميس المحسوبة على هذا الاتجاه أيضاً قاموس ليطري للغة الفرنسية التي عُنيَ بجمع ألفاظ الفرنسية منذ أقدم عصورها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والثاني تمثله مجموعةٌ من القواميس التاريخية الفرنسية الحديثة([21]) مثل قاموس ديبوا وصاحبَيه، وقاموس روبير التاريخي، وقاموس بومغارنَر ومينار وهو المسمى: القاموس التأثيلي والتاريخي للغة الفرنسية([22]) وغيرها من القواميس التي سارت على طريقتها. يقول قاموس روبير التاريخي في المقدمة التي كتبها المشرفُ على تحريره وهو السيد ألان ري: «موضوعُ هذا القاموس هو الألفاظ الفرنسية الحديثة، ولا يتطرق إلى الألفاظ التي سقَطت من الاستعمال الحديث إلا عندما تدعو الحاجةُ لإضاءة المرحلة الحديثة من التطور أو التغيُّر. فالفرنسية القديمة في الجملة، هي عندنا بمثابة لغة أجنبية، ولا نرجع إليها هنا إلا باعتبارها مَعبَراًً ضرورياً للوصول إلى استعمال اليوم، وباعتبارها وسيطاً وضامناً للاستمرارية..». ولذلك خرج هذا القاموس في حجم متوسِّط (ثلاثة مجلدات) مقارنة مع حجم القاموس الإنجليزي الذي تجاوزت أجزاؤه العشرين. ورغم أن القاموس المسمى: ذخيرة اللغة الفرنسية (TLF) صدر في حجم أكبر (ستة عشر مجلداً وأكثر من عشرين ألف صفحة من القَطع الكبير)، واعتُبر أضخمَ قاموس لغوي فرنسي في العصر الحديث، إلا أنه مع ذلك اقتصر فقط على الألفاظ المستعملة في اللغة الفرنسية الموجودة في النصوص الأدبية واللغة المحكية تحدُّها فترة زمنية معيَّنة (من 1789 إلى 1964 م) ، وجعل نقطة انطلاقه من الألفاظ المستعملة في الفترة الحديثة والمعاصرة، وهي وحدها التي يُعمَل على وصفها في حالتها الراهنة ويُبحَثُ في امتدادها التاريخي بإعمال المنهجين الوصفي والتاريخي. ومثل هذا الاتجاه كان قد تبنَّاه من قبل قاموس بلُوخ الذي ظهر في فرنسا منذ سنة 1932 م، فهو يسجِّل في المقدمة هذه الملاحظة قائلاً: «سوف لن تجد هنا سوى الألفاظ المُستعملة في الفرنسية المعاصرة بالمعنى الواسع للكلمة…. وتمَّ استبعادُ الكلمات العتيقة المُحتفَظ بها في القواميس باعتبارها شواهد على لغة القرون السابقة في أدبنا، ولكنها خَرَجت من الاستعمال. وفي مقابل هذا احتفظنا من هذا النوع بالكلمات التي ما زال لها استعمالٌ في اللغة الأدبية ، وكذا الكلمات التي تعبِّر عن مفاهيم تاريخية معروفة..» ([23]).
والحُجةُ التي يستند إليها هذا الاتجاهُ الثاني هي أن الألفاظ المَيِّتة والمُوغلة في القِدَم مما لم يعد جارياً في الاستعمال، لا حاجة لإضاعة الوقت في التأريخ لها والاهتمام بها، وتضخيم حجم القاموس بما لا يحتاجُ إليه إلا فئةٌ قليلة جداً من العلماء المختصّين، لأن هذه اللغة المهملة – كما قال آلان ري – أصبحت بمثابة لغة أجنبية. أما الحُجة التي يستند إليها الفريقُ الأول، فهي أن الاقتصار على اللغة الحديثة (أو المُستعمَلة حديثاً) وحدها، معناه الاقتصارُ في التأريخ على جزءٍ من اللغة دون بقية الأجزاء التي أُسقِطت. ولا شك في أن التاريخ سيكون مبتوراً ولا يمثل سوى مرحلة من مراحل اللغة. وبالنسبة للغة العربية، علينا أن نحدِّد الاختيارَ والهدف بكل وضوح. وأغلبيةُ الآراء التي عبَّر عنها أصحابُها من خلال ما كتبوه لحد الآن، تسير مع الاتجاه الأول الشُّمولي، وترى من الضروري أن يشمل القاموس التاريخي الذي نَرُومُه كافةَ ألفاظ العربية بدءاً من أقدم عصورها (المرحلة السامية ومرحلة النقوش والمراحل الجاهلية) إلى العصر الحاضر، مروراً بكل العصور الإسلامية، رغم ما سيقتضيه الأمرُ من عناءٍ كبير ومشقة لا تُقَدَّر، في استقراء كل هذا التاريخ الطويل للغةٍ عُمِّرت أكثرَ من سبعة عشر قرناً، وامتدَّ استعمالُها إلى كل أنحاء العالم، وتركت تراثاً مكتوباً وشفوياً غزيراً لا يُضاهيه تراثُ أية لغة حيَّة في مختلف المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فإذا كان آلان ري يقول في سياق حديثه عن اللغة الفرنسية التي لم تظهر ملامحُها الأولى إلا في القرن العاشر، ولم تنضح إلا في القرن السادس عشر، ولم يصدُر أولُ قواميسها الشاملة إلا في القرن السابع عشر: «إن وضع تاريخ كلماتِ لغةٍ استعملَها الناسُ منذ عشرة قرون يُعدُّ ضرباً من الجُنون»([24])، فماذا يمكنه أن يقول عن تاريخ اللغة العربية التي عاشت ضعفَ ما عاشته الفرنسيةُ وأنتجت أضعافَ ما أنتجت؟.

وأنا شخصياً أرى أن اللغة العربية بحاجة إلى هذين النوعين معاً من القواميس التاريخية:

أ) نوعٍ شمولي واستقصائي مُوَسَّع، يكون هدفُه تقديمَ تاريخٍ كامل ومُفصَّل لكل ألفاظ العربية بغضِّ النظر عن عصرها وحالتها من الاستعمال والإهمال والحياة والموت، وبغضِّ النظر عن حجم القاموس المتضمِّن لهذا التاريخ أو عدد أجزائه، والمُدة التي سوف يستغرقُها والأدواتِ والطاقات البشرية والمادية التي يحتاجُها. لأننا في هذه الحالة نلبِّي حاجةَ من له رغبةٌ في المعرفة الدقيقة والمفصَّلة لتاريخ اللغة بأكمله وسائر حَلَقاته ومَحَطّاته التي مرَّ بها، فنأتي بقصة كل كلمةٍ كلمةٍ استُعملت يوماً أو لحظةً ما في تاريخ اللغة العربية الطويل والمتنَوِّع. ويمكن التغلُّبُ على إخراج هذا الحجم من القاموس باستعمال التِّقنيات والأدوات المعلوماتية الحديثة والمتطوِّرة، كما يمكن إخراجُه على مراحل مُتتالية ولو استغرق الأمرُ وقتاً طويلاً.
وقد دأَبُ أحدُ اللغوييّن المعاصرين، على الدعوة إلى ضرورة الانطلاق في وضع قاموس تاريخي، من وضع قاعدة أو بَنك ضخم للمُعطيات أو ذخيرة للغة العربية على غرار ذخيرة اللغة الفرنسي التي تحدثنا عنها سابقاً، تكون بمثابة ديوان العرب([25]) لغويٍّ وتاريخيٍّ وأدبيٍّ وثقافيٍّ وحضاريٍّ. وفيه يتمُّ جمعُ كلّ النصوص بلا استثناء، ومَسحُ كلّ التراث القديم والحديث على اختلاف موضوعاته وأهميته، ثم الانتقالُ إلى مرحلة فَهرَسَته وحَوسَبَته بأحدث الطرق الإلكترونية المتوفِّرة، ومن قاعدة المعطيات هذه يمكن أن نستخرج ما نشاءُ من أنواع القواميس: التاريخية، والتخصُّصية والتقنية، والحضارية، والوظيفية، وقواميس الأطفال، وقواميس الأعلام، وغيرها. والمهم عند صاحب الفكرة أن إنجاز هذه الذخيرة – مهما كلَّف من وقتٍ ومال – هو خُطوة أوّلية ضرورية قبل الانتقال إلى مرحلة القاموس التاريخي، لأنها هي المصدر الأساسُ والموثوقُ الذي يمكن الاعتمادُ عليه.

ب) ونوعٍ آخر مختصََرٍ في حجم متوسِّط، يقتصر على تقديم المعلومات التاريخية حول الكلمات المستعملة دون غيرها (وتشمل الحديثَ الذي استجدَّ في الفترات المتأخرة والقديمَ الذي رغم قِدَمه مازال مستعملاً)، مع اختصار الشواهد والنصوص والتفاصيل غير الضرورية أيضاً. وهذا النوعُ الثاني هو الذي يلبِّي حاجةَ القطاع الأوسع والأكثر انتشاراً من قُراء العربية ومُستعمليها.

القليلُ والكثيرُ ومِعيارُ الاستعمال

– والسؤال الثاني من أسئلتنا الفرعية، هو المتعلِّق بإشكالية النادر والقليل بإزاء ما هو كثيرٌ من الألفاظ اللغوية. فهل سيكون علينا الأخذُ بمعيار كثرة الاستعمال التي تتحقَّق بوجود نسبة معيَّنة من التردُّد يحُِّددها ويَحسِمُ في أمرها الإحصاءُ المعجميُّ، أم أنه علينا أن ندوِّن كلَّ الألفاظِ الواردةِ في اللغة ولو حقَّقت أدنى مستوى من التردُّد، أي ولو استعملها شخصٌ أو كاتبٌ واحد؟
والمنهجُ الذي اتبعه القدماءُ من مؤلفي القواميس العربية – أو عددٌ كبيرٌ منهم على الأقل – لم يكن يعطي لمبدإ كثرة الاستعمال أهميةً تُذكَر- خلافاً لعلماء النحو والقواعد – لأن مسألة الكثرة أو القلة أو النُّدرة، لم تكن من جملة معايير الفصاحة التي وضعوها وتقيَّدوا بشروطها، بل كثيرٌ من اللغويّين كانوا يتفاخرون بكثرة ما جَمَعوه أو حَصَلوا عليه من الغريب والنادر (وكم في تاريخ اللغة العربية من كتاب يحمل اسمَ (النوادر). ولكن القواميس اللغوية الحديثة عملت بهذا المبدإ وجعلته أمراً ضرورياً، واعتبرت كثرة الاستعمال شرطاً من شروط الفصاحة الحديثة. فاللفظُ لا يُسمَحُ له بالدخول في قاموس لغوي إلا إذا حقَّقَ نسبةً جيِّدةً من التردَّد والتَّكرار في كتابات مُعتبَرَة، أو شاع استعمالُه على الألسنة، أو أقرَّه مَجمعٌ من المجامع اللغوية. ورغم أن الأمر في القاموس التاريخي مختلفٌ عما في القاموس اللغوي العام. لأن الهدف من القاموسَين مختلفٌ (فالأول أهدافُه تعليميةٌ بيداغوجية معيارية، والثاني هدفُه الوصفُ المُجرَّد عن أي اعتبار تعليميٍّ أو تربوي، وليست غايتُه توجيهَ القارئ إلى هذه الناحية من الاستعمال أو تلك)، إلا أننا لا نوافقَ القولَ بفتح الباب على مصراعيه لكل لفظ أو استعمال نطقَ به شخصٌ ما أو وردَ في نصٍّ يتيم لأيِّ كاتب كان، أو بلغَ من الغرابة والشُّذوذ والابتعاد عن قواعد اللغة ما بلَغَ. وما أكثر العابثين واللاَّهين والشواذِّ من الكاتبين والناطِقين. وإنما لابد من اعتبار نسبة معيَّنة من التردُّد لتفادي الخوض في ألفاظ لم يكن لها أثرٌ يُذكَر في اللغة وتضخيمِ حجمِ القاموس دون جدوى. لكننا، مع ذلك، نستثني من تلك الاستعمالات الخاصة التي ينفرد بها كاتِبٌ أو عالِمٌ كبيرٌ، أو أديبٌ معروفٌ بتَملُّكه لناصية اللغة العربية، فاستعمالاتُ أمثال هذه الفئة من الناس عادةً ما تكون موضعَ اهتمام وقَبُولٍ من جمهور الباحثين والدارسين لدورها في تطوُّر أساليب اللغة وتنوُّعها. وغالباً ما تكون الألفاظُ والتعبيراتُ التي يُحدِثُها هؤلاء الكتّابُ الكبارُ ويتميَّزون بها مُراعيةً لقواعد اللغة غيرَ نابيةٍ عنها.

العامُّ والخاصُّ

– والإشكالُ الثالثُ الذي يواجهُنا مباشرةً بعد النقطة السابقة، هو حول الموقفِ من أسماء الأعلام البشرية وغير البشرية من مختلف الأعيان، ومن الألفاظ التقنية والاصطلاحية. فهل يكفي أن تقتصر مُدوَّنةُ القاموس التاريخي على ألفاظ اللغة العامة كما هي عادةُ القواميس اللغوية، أم ينبغي أن تُضمَّ إليها الألفاظُ الخاصةُ والمتخصِّصة أيضًا (أي: أسماءَ الأعلام البشرية والجغرافية وغيرها من أسماء سائر الأعيان([26])، وكذلك كلُّ الألفاظ التِّقنية واصطلاحاتُ العلوم)، ولو كانت مُوغلة في التخصُّص؟
وهذا أمرٌ يضعنا مُجدَّداً أمام اختيارين لا بدَّ أن ننحاز لأحدهما. وقد انحازت القواميسُ اللغويةُ العربيةُ العامةُ في الغالب الأعَمِّ، وكذلك القواميسُ التاريخية الغَربيةُ التي اطلعنا عليها أو على ما كُتِبَ عنها، إلى الاختيار الأول، معتبرةً أن المكان الطبيعي لألفاظ الأعلام هو القواميس المُخصَّصة لهذا الغرض (قواميس أعلام الناس والمواقع والبلدان وغيرها..)، أو القواميس الموسوعية، ولا يُقبَلُ منها في قواميس اللغة إلا ما كان منسوباً إلى عَلَم (كمحمَّدي وعَلَوي ومَكِّيّ… الخ)، أو ما كان له استعمالان أحدُهما لغويٌّ عامٌّ، وثانيهما له دلالةٌ خاصةٌ على مُسمَّى بعينه (شخصٍ أو مَوضِعٍ أو حيوانٍ… الخ)، وكذلك الأمر بالنسبة للاصطلاحات التقنية والعلمية، فمكانُها الطبيعيُّ عندهم – ولاسيما ما كان منها مُوغلاً في الخُصوصيَّة – هو القواميس الاصطلاحية والتِّقنية أيضاً، ولا يُقبلُ منها إلا ما شاع استعمالُه في اللغة العامَّة المشتَرَكة([27]).
ومع أن هذه القاعدة العامة التي ذكرناها هنا (وهي تخصيصُ القواميس اللغوية للألفاظ العامة فقط إلا ما له استثناءاتٌ) ، قاعدةٌ سليمة ومعمولٌ بها في أشهر القواميس اللغوية العامة([28]) والقواميس اللغوية التاريخية أيضاً، ويمكنُ التقيُّدُ بها وجَعلُها من قواعد قاموسينا إذا شئنا – لأن لكل قاموس أهدافَه الخاصة التي يَركَنُ إليها – إلا أن المسألة في نظرنا تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتّدقيق. ولنبدأ بالتدقيق في مفهومنا لمُصطلَحي (أسماء الأعلام والألفاظ الاصطلاحية أو المُصطلحات).
فالعلَمُ هو ذلك الاسمُ الذي يُطلَق في اللغة على شخص أو مكانٍ أو حيوانٍ أو أيِّ شيءٍ يُرادُ تعيينُه، أي على مُسَمًّى بعينه يُميِّزُه تمييزاً مُطلَقاً عن سواهُ منَ المُسَمَّيَات.
لكن الاسمَ العَلَم في الحقيقة ينقسِمُ عند النُّحاة، باعتبار أَصالته في العَلَمية وعَدَمها، إلى مُرتَجَلٍ ومَنقُول.. والأولُ: هو المُتأَصِّلُ في العَلَمية أي الذي وُضِعَ وضعاً وارتُجِلَ ارتجالاً منذ البداية للدلالة على مسمَّى بعَينه. ومََثَّلُوا له في العربية بأسماء قالوا إن العربَ وضَعتها أولََ مرةٍ لمُسمَّياتٍ خاصة بعينها ومنها: (أُدَدُ): اسمُ رجُلٍ، و(سُعادُ) اسمُ امرأةٍ و(فَقعَسُ) علَمٌ على الأبِ الأول لقبيلة عربية معروفة. ومن هذا القبيل أَيضاً كلمةُ (الشَّيفَران) التي وردت في شعر بشّار بن بُرد([29]). وكذلك الحالُ لو أطلقنا نحن على شخص أو شيءٍ بعَينه اسماً لا وجودَ له في المعجم العربي مثل: (زَربَقيط) أو (حَرَنبَطيل) أو ما أَشبَهَ ذلك. وميزةُ هذا النوع من الأعلام أن ألفاظه قليلةٌ في اللغة.

والثاني: هو الذي نُقِلَ من وضعه الأصليِّ في اللغة للدلالة على العلَمية، أي أنه كان موجوداً في المُعجم للدلالة على فعلٍ أو اسمٍ أو مصدر أو صِفة ونحو ذلك ، مثل: ( أَحمَدُ – يَزيدُ – أَسَد – فَهدٌ – أُسامةُ – خالدٌ – قاهرةٌ – مصرٌ – رِباطٌ – وَهبٌ – عَطاءٌ – كَريمٌ – أكرمُ…)، ثم نُقِلَ من معناه العام وخُصِّصَ بالدلالة على مُسمَّى بِعينه. وأغلبُ أسماء الأعلام البشرية والجغرافية وغيرها من هذا النوع .
ومن هذا التقسيم يتبيَّن أن ألفاظَ النوع الثاني من أسماء الأعلام (وهو الأعلامُ المنقولةُ) لا يمكنُ أن تكون مَوضِعَ نِقاشٍ حول إدخالها إلى القاموس التاريخي أو إخراجها منه. لسبب بسيطٍ هو أنها متأصِّلةٌ في مُعجَم اللغة الذي نؤرِّخ له، وموجودةٌ فيه بمعانٍ تدلُّ عليها قبل أن تنتقلَ إلى مرحلة من التطوُّر فتكتسب دلالةً جديدة هي دلالةُ العلَمية والتَّسمية الخاصة. فدلالتُها على العلَمية ما هي إلا مرحلةٌ من مراحل تطوُّرها الذي يجب الوقوفُ عنده والتأريخُ له. فنحن لابد أن نذكر في قاموسنا التأريخي ألفاظاً من نحو: أَحمَد ويَزيد و أَسَد و فَهد وأُسامة، وخالد وقاهرة ومصر ورِباط ووَهب وعَطاء وكَريم وأكرم… وأَمثالها. ولابدَّ حين التعرُّضِ لتعريفها من ذكر وجهَي دلالتها بأن تقول في ( خالد ) مثلاً إنه اسمُ فاعلٍ من خلَدَ بمعنى: دامَ، واسمٌ يُطلَقُ على عدد من أعيان الذكور مثل خالد بن الوليد وغيره. وتقول في (مصر): لفظٌ بمعنى بَلدٍ أو كُورَةٍ ، وبمعنى حاجِزٍ بين شيئين، واسمٌ يُطلق على بلد بعينه (جمهورية مصر العربية) . وتقول في (أسد): لفظٌ يُطلق على السَّبُع، واسمُ قبيلة عربية بعينها، ويستعملُ أيضاً علماً على شخص. كما لا بدَّ من التأريخ لظهور كلِّ لفظ من هذا النحو، ولمرحلة انتقاله من الدلالة العامة إلى الدلالة الخاصة.
أما النَّوعُ الأولُ وهو أسماءُ الأعلامِ المُرتَجلةِ أو المتأَصِّلةِ في العلمية، أي التي لا تُستعملُ إلا في وجهٍ واحدٍ وهو تَعيينُ مُسَمَّياتٍ بذاتها، فالمَفرُوضُ فيها أن تُستبعَدَ من القاموس التاريخي ويُسنَدَ أمرُها إلى القواميس الخاصة بالأعلام البشرية والجغرافية. لكني أَميلُ إلى رأيٍ خاصٍ في هذه النُّقطة لسبَبين أراهُما وجيهين: أولهما أن عددَ هذا الضرب من الأعلام في معجم كلِّ لغةٍ قليلٌ جداً كما أشرتُ. فإذا تعرَّض لها القاموسُ اللغويُّ أو التأريخيُّ فلن تكون عبئاً كبيراً عليه. والثاني أنه يكفي في القاموس التأريخي حين تناوُلِ كلِّ واحدٍ منها، ذكرُ تاريخ ظهور اللفظ في اللغة، ومرحلةِ استعماله علَماً على شيء مُحدَّد، إذا توفَّرت الوثائِقُ والمُستَنَداتُ الضروريةُ لذلك، دون الدخول في الأمور الأُخرى.
هذا عن الأسماء المُفردة، أما المُركَّبةُ منها ، مثل: تأَبَّطَ شَراً – ورأس الخَيمة – ورأس الرجاء الصالح – ورحمةٌ الله – ونِعمةُ الله – وما شاءَ اللهُ – وماءُ العَينَين – وعبد الله – وعبد الرحمان – وأحمدُ بنُ حَنبَل – وأَنسُ بنُ مالكٍ – وعبد اللهُ بنُ عَبّاس… ونحوها. فإخراجُها من حَيّز القاموس التاريخي وموضوعِه، هو الأَليَقُ والأَنسَبُ. والسَّبَب في ذلك أمران على الأقل: الأولُ: أن هذا الضَّرب أشدُّ تأصُّلاً في العلَمية والدلالةً عليها والتصاقاً بها من كلِّ ما سَبَقَ. والثاني لأن كلَّ لفظ من ألفاظ هذه الأسماء المُركَّبة وأَمثالها واردٌ في بابه من القاموس اللغوي العام أو التاريخي (فكلٌّ من: رأس – ورجاء – وصالح، في (رأس الرجاء الصالح) – مثلاً – واردٌ، أو من المفروض أنه واردٌ، في مكانه من ترتيب القواميس العامة.
وهنالك، إلى جانب ما ذُكِرَ، نوعٌ آخر من أسماء الأعلام، وهو الأعلامُ المُعرَّبةُ والدخيلةُ من لُغاتٍ أُخرى أعجمية، مثل: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى ومريم وبَغداد وتُونُس وليبيا وطرابلس ، ونحوها من الألفاظ المُفردة، وسِبَويهِ وقايقَلا وأُورشَليم، ونحوها من الألفاظ المُركَّبة. ومن خصائص هذه الأسماء الأعجمية الدخيلة والمُعرَّبة، مفردةً كانت أم مُركَّبةً، أنها لا تُستعمَل في العربية إلا بدلالة واحدة وهي الدلالةُ على العلَمية المَحضِ، سواءٌ كانت في أصل لغتها منقولةً أم مرتجلةً. وهذا يدعو إلى القول إن مكانَها الحقيقيَّ ، هو قواميسُ الأعلام لا قواميس اللغة، والتعاملَ معها في القاموس التاريخي لا يختلفُ عن التعامل مع النوع الأول من أسماء الأعلام العربية، أي: المُرتجلة والمُتأَصِّلة في العلَمية، ولاسيما أن عددَ هذه الأعلام الأعجمية (والجُغرافية منها على الخُصوص)، في لغتنا العربية كثيرٌ جداً، وتتبُّعَها وإحصاءَها من الصُّعوبة بمكان، وملءَ بُطُون القاموس اللُّغويِّ والتاريخي بها، فيه إثقالٌ وأَيُّ إثقالٍ. إلا إذا أردنا أن نستثنيَ من هذه الأعلام قَدراً معلوماً تُحدِّدُه قواعدُ وضوابطُ صارمةٌ، تَحُدُّ من كثرتها وتدفُّق أعدادها، ونعني بالقَدر الذي يمكنُ استثناؤُهُ، ما كان من هذه الأعلام مشهوراً وارداً في القرآن والحديث ونُصوص التراث العربي الإسلامي، كثيرَ التَّداوُل والاستعمال في حياتنا الاجتماعية القديمة والمُعاصرة.، نُطلقُ بعضَه على أبنائنا وبناتنا كإبراهيم وإسماعيل وجبرائيل (أو جِبريل) ويعقوب وموسى وعيسى ومريم وسارَة… وغيرها)، ونُطلقُ بعضَه الآخرَ على أشهر مُدُنَنا وعواصمنا كتُونُس وطرابُلُس والقيروان وبغدادَ… وغيرها. وفي هذه الحالة سيكون دورُ المؤرِّخ اللغويِّ محصوراً في التوقُّف عند ذكر صيغةِ اللفظ ومعناه في لغته الأصلية، وذكرِ أولِ ظُهورٍ له في العربية بالصيغة التي ظهرَ بها أو اكتسبَها مع التطوُّر التاريخي.
وفي ختام هذه النقطة، أقول: إن البحث في أصول الأسماء الخاصة من أعلام بشرية وجغرافية وغيرها ، وهو جزءٌ من البحث في تاريخها، سبقَ إليه عددٌ من القدماء أمثال الأصمعي وقُطرُب وابن قَطَن القيرواني وغيرِهم ممَّن تركوا كُتباً تحمل في عناوينها اسم: كتاب في اشتقاق الأسماء، ومنهم ابنُ دريد في كتابه المشهور باسم: كتاب الاشتقاق وقد خصَّصه لاشتقاق أسماء القبائل العربية والبُطون والأفراد. ومن أشهر الكتب المؤلفة في أسماء أعلام القرآن الكريم كناب التعريف والإعلام بما أُبهِمَ في القرآن من أسماء الأعلام لأبي زيد عبد الرحمان السُّهيلي الأندلسي ثم المراكشي المتوفى 581 ﻫ([30]). وقد اهتم الكتابُ الأخير بالبحث في اشتقاق أَسماء الأنبياء وغيرها من الأعلام البشرية والجغرافية الواردة بالقرآن مثل: إبراهيم وموسى وسارة ويحيى. فقال في تأصيل لفظ (موسى) مثلا: إنه من (مُو) وهو الماءُ في لغتهم. و(سا) وهو الشجَر بلغتهم أيضاً. وله أقوالٌ في اشتقاق بقية الأسماء ، وإن كان كثيرٌ مما قاله في اشتقاقها وتأصيلها لا يقوم على أساس من علم التأثيل اللغوي الصحيح.

أما المُصطلحات التِّقنيةُ وألفاظُ العلوم، فهي لا تخرجُ، من حيث الموضوع الذي نخوضُ فيه، عن حالاتٍ ثلاثٍ:

أ) حالة الألفاظ الاصطلاحية ذاتِ الوجهين، أي التي يكون لها معنى لغويٌّ عامٌّ ومعنى اصطلاحيٌّ أو وضعيٌّ خاصٌّ (نَصبٌ – إعرابٌ – حَجٌّ – وَقْفٌ…). وهذه الحالة أيضاً لا تطرح مشكلاً، لأننا مُضطرُّون في كل قواميس اللغة أن نُوردها ونشرح معناها العام في اللغة، وفي الوقت ذاته لا بد أن نشير إلى معناها في الاستعمال الخاص أو الاصطلاحي بشكل مختصَر ومركَّز، فنقول مثلاً في تعريف كلمة (إعراب): مصدر أعربَ بمعنى أفصَحَ عمّا في نفسه ونحو ذلك، ومصطلحٌ نحوي له معنى مخصوص يقابله البناءُ. ولكننا بالإضافة إلى ذلك لا بد أن نؤرخ للمرحلة التي انتقل فيها اللفظُ من الدلالة العامة إلى الدلالة الخاصة أو العُرفية أو الشَّرعية (فالحجُّ كان معناه في اللغة: القَصدَ والتَّوجّهَ، لكنه بمجيء الإسلام ونزول القرآن أُضيفَ إلى معناه اللغوي العام معنى اصطلاحيٌّ ديني خاصٌّ وهو الدلالة على عبادة مخصوصة لها طُقوسٌ معيَّنة وشروطٌ معروفة).

ب) حالة الألفاظ التي لها معانٍ خاصةٌ فقط، لكنها مُتداولةٌ بنسبة عالية في اللغة المشترَكة (كالهيدروجين والأُوكسِجين والنِّيكتون والبينيسيلين)، وهذه أيضاً يمكن إدراجُها تحت عنوان الألفاظ العامة المشتركة ، فتأخذُ وضعَها وحُكمَها في القواميس التأريخية. مع الاقتصار في تعريفها على القَدر الأساسيِّ من المعلومات دون الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقة.

ج) حالة الألفاظ الاصطلاحية والتِّقنيّة المُغِرقة في الخصوصية. وتتجلَّى خصوصيةُ هذه الحالة في العناصر الآتية: 1) انزواؤها وتقَوقُعُها في مساحة استعمالية جدِّ ضيِّقةٍ ومحدودة. 2) كثرةُ عددها فيكون من الصعب تتبُّعها وملاحقتُها وإحصاؤها. 3) كثرةُ تناسلها وتوالدها في كل لحظة وحينٍ بشكلٍ مُثير للدهشة. 4) كونُها، في الكثير من حالاتها، غيرَ موَحَّدة بين ذوي الاختصاص الواحد، وحالةُ المصطلح اللِّساني أحسنُ مثال على ذلك. 5) وهي – نتيجة كلِّ ما سبق – عُرضة للتغيُّر السريع بل عُرضةٌ للموت والانقراض في أسرع وقتٍ، بحكم وتيرة التطوُّر العلمي والتقني والصناعي المُتلاحِق. فهي من الألفاظ القصيرةِ العُمُر، إذ تُقدَّرُ أعمارُها عادةً بعُمر التِّقنية أو الصناعة المرتبطة بها.
واعتباراً لكل هذه المُعطيات والخُصوصِيّات المُتعلِّقة بهذه الفئة الثالثة من الألفاظ الاصطلاحية، يمكن إخراجُ الألفاظ المُندرجة تحتها من مدوَّنة القاموس التاريخي العام، على أن يُوكَلَ أمرُ التأريخ لها إلى للقواميس التخصُّصية والاصطلاحية التي تجمع ألفاظ العلوم على اختلافها، أو إلى قواميس تاريخية خاصة بكل صنف من أصنافها في مرحلة مُوازية أو لاحقة. لكن يبقى من الثابت أن الألفاظ الفنِّية والاصطلاحية للعلوم، كيفما كانت حالتُها (من بين الصُّور المذكورة)، ما هي في نهاية الأمر، إلا جزءٌ من المعجم العام للغة. وأن إغفال التأريخ لها إغفالاً نهائياً، معناهُ إغفال لجزء مهمٍٍّ وكبير من المفاهيم الحضارية والأفكار والنظريات العلمية، وما اختزنته لغتُنا واحتفظت به من تطوُّر وإبداع واجتهاد في كل ميادين المعرفة الدقيقة والصناعات والتِّقنيات والحِرَفِ والمَهارات التي عرفها العقلُ والمجتمعُ في العالَمين العربي والإسلامي خلال مراحل التاريخ. وخلاصةُ القول أن التأريخ للألفاظ الاصطلاحية والتِّقنية أمرٌ لا خلافَ عليه وعلى أهمِّيته، لكن الخلاف حول المكان المُناسبِ لذلك: هل هو القاموس التاريخي العام أم القاموس التاريخي الخاص بهذه الألفاظ والمُصطلحات؟

وأخيراً، فإن مسألة التأريخ للمصطلح قد تطرح أسئلةً فرعيةً أخرى خاصة بها، تناولها بعضُ المهتمين والباحثين في الموضوع، ولا نريد الدخول فيها الآن حتى لا يتشعَّب الموضوع([31]).

الفصيح والعاميُّ

والسؤال الرابع الذي يأتي في ترتيب الأسئلة المُلحَّة حول المدوَّنة، هو عما إذا كانت هذه المدوَّنة ستشمل كلَّ أصناف الكلمات العربية على اختلاف مستوياتها من الفصيحَ والعامِّي معاً، أم سوف تقتصر على المستوى الأول دون سواه؟ وإذا كانت مقصورةً على المستوى الأول، فماذا سيكون مفهومُنا للفصاحة؟ هل سنحافظُ على تعريفها القديم ، فنصبحُ مضطرّين للتوقُّف عند حدود عصر الاحتجاج والاستشهاد كما بيَّنه ورسَمَ خطوطَه الأقدمون، أم سيكون علينا أن نعيد النظر في هذا المفهوم ونوسِّع إطارَ الفصاحة ليمتدَّ من أقدم عصور اللغة إلى أحدثها؟ وفي الحالة الأخيرة ما هي المعاييرُ الجديدة التي نضعها لكي نميِّز بين ما هو فصيح نؤرِّخ له وما هو غيرهُ فنتركُه جانباً؟
ورغم أن هذه الأسئلة المتعلقة بمفهوم الفصاحة وزمانها قد سبق أن تناولتُها بشيءٍ من التفصيل في بحث سابق نُشِرَ منذ أكثر من عشرين عاماً([32])، وأن لا أحد الآن ينادي بضرورة الوقوف بعصر الفصاحة عند حدودها القديمة، وإنما أصبح الشعارُ الذي يرفعه الكثيرون هو أن لكل عصر فصاحتَه، فإن الخلاف حول موضوع الفُصحى واللهجات وأيِّهما نختار لمُدوَّنتنا ما يزال مطروحاً وما يزال النقاشُ بشأنه قائماً. وللاختصار نقول: هناك ثلاثة توجهُّات في الموضوع.
أولها: يتشبَّثُ بضرورة أن يكون القاموسُ الذي نسعى لوضعه قاموساً وصفياً بامتياز وليس معيارياً على الإطلاق. واستعمالُ المَنهَج المِعياريِّ هنا معناهُ : أن نختار – وفق معاييرنا القومية أو الدينية أو الذاتية أو النزعة الصَّفائية التعليمية التي ينزَعُ إليها المُرَبُّون والموجِّهون والغَيُورون على اللغة – مستوىً استعمالياً نحكمُ له بالجودة والفصاحة، فندعو إليه ونشجِّع عليه ونخاصِمُ ما عداه مما نصفه عادةً بالعامّي واللَّهَجي والمٌبتّذَل والخاطئ وغيرها من النعوت والصِّفات التي تُنَفِّرُ منه وتَحُطُّ من شأنه. ولكن تاريخَ اللغة إذا أردناه شاملاً، فيجب أن تكون وظيفتُه محصورةً في وصف الواقع اللغوي للعربية كما هو في كل مرحلة من حياتها، دون تدخُّلٍ أو توجيهٍ من المؤرِّخ الذي عليه أن يكون بدوره مُحايِداً ومُتَّصِفاً بالموضوعية. وإذن علينا أن لا نستثني أيَّ مستوى من مستويات الاستعمال، وأن نؤرخ للهجات كما نؤرِّخ للفصحى. وما لم نفعل ذلك فلا معنى أن نقول إننا نكتب تاريخاً للغتنا، وإنما نقول: نكتب تاريخَ جزءٍ من تاريخها أو مستوىً واحدٍ من مستوياتها وهو الفصيح. أو بعبارة أخرى: نكتب تاريخَ مرحلة بعينها من حياة العربية ونُهمل الباقي، لأن اللهجات ما هي في نهاية الأمر سوى مراحل من تطوّر الفصحى. فكيف نعرِّف القاموس التاريخي بأنه قاموس يتتبَّع مراحلَ التطور اللغوي في المَبنَى والمعنى، ثم نتخلَّى في الوقت ذاته – تحت تأثير النَّزعة المعيارية – عن فكرة التتبُّع الدقيق لكل هذه المراحل؟ كيف يمكن مثلاً أن نؤرِّخ لكلمة (مَجشَر) أو (جازَ يجوز بمعنى: مرَّ)، فنذكر صيغَتَها الصوتية القديمة كما هي في الفصحى، ونقف عند هذا الحد ولا نستمرُّ في تتبُّع تطورها في اللسان المغربي الذي أبدَلَ فيها بصوتِ الجيم دالاً، فصارت تُنطَق: (مدشَر – داز – يدوزُ)؟ وكيف نؤرخ مثلاً لكلمة (عَرصة) فنأتي على معناها كما تشرحه القواميسُ القديمة وهو الساحة في وسط الدار أو المكان الخالي من البناء، ولا نتابع التطورَ الدلالي لهذه الكلمة كما وقع في لسان أهل المغرب حين أطلقوا لفظ (العَرصة) على الحديقة بصفة عامة، فيها خُضَرٌ وأشجارٌ مُثمِرةٌ، وعلى الحديقة تكون وسطَ الدار أو ملحقةً بها؟ وكيف نؤرِّخ لكلمتَي (جِنان) و(رياض) في الفصحى، ولا نتوقف عند التطور الذي حدث في استعمال مدلولهما في بعض اللهجات الحديثة كاللهجة المغربية التي تستعملهما بمعنى المفرد، بينما يُستعملان في الفصحى بمعنى الجمع (الأولى: جمعُ جَنَّة، والثانية: جمعُ: رَوضٍ)؟
أما التوجُّه الآخر، فهو لا يرى الأمر على هذا النحو. لأسباب أهمها: 1) أن إدماج اللهجات، قديمِها وحديثِها، في مدوَّنة القاموس التاريخي من الصعب تحقيقُه، لأن أغلب هذه اللهجات لم يتمَّ وصفُه وتدوينُ كلِّ مفرداته واستعمالاته. وإذا أردنا الانتظارَ إلى أن يتحقَّقَ ذلك فمعناه تأجيلُ المشروع إلى تاريخ مجهول. 2) أغلب القواميس التاريخية العامة في اللغات الأوروبية الحديثة (وفي مقدمتها القواميس الفرنسية) اقتصرت في عملية التأريخ على اللغة المشتركة أو الفصيحة دون اللهجات([33]). وإذا أمكن لبعضها – كقاموس أكسفورد مثلاً – أن يسير في ذاك الاتجاه ( اتجاه الجمع بين الفصحى المشتركة أو اللغة المعيارية المكتوبة وعامِّيتها المحكية) فلأن تاريخ تراث الإنجليزية واللغات الأوربية الحيَّة عموماً تاريخٌ حديث نسبياً بالقياس إلى العربية، وعددَ لهجاتها وعاميّاتها قليلٌ ومحدودٌ بخلاف التراث اللغوي العربي. 3) أن اللجوء إلى الاختيار والانتقاء تقليد متَّبع في صناعة كل القواميس اللغوية العامة – والقواميس التاريخية جزءٌ منها – منذ نشأتها إلى اليوم. لأنه في نهاية الأمر لا أحد يزعم أنه يستطيع الإحاطةَ بمعجم لغةٍ من اللغات إحاطةَ السِّوار بالمِعصَم. بل إن من أبرز صفات القواميس المكتوبة وأهم خصائصها التي تميِّزها عن المعجم ذي المفهوم الواسِع (المعجم الذهني)، أنها تحتوي على قائمة محدودة من المداخل وليس على قائمة مفتوحة على كلِّ المعجم كما بيَّناهُ من قبلُ. ولقد أصبح من المعروف، بل من المطلوب والمُلِحِّ، أن تقوم قواميسُ اللغة بين الفترة والأخرى بتَحيِين مدوَّناتها وتحديثها بإسقاط المَيِّت والمُهمَل وإدخال الجديد والمُتغَيِّر([34]). وكل قاموس له هدفٌ معيَّن، أو جملة أهداف يعمل على تحقيقها ولا يمكن تجاوُزُها، والمهمُّ هو احترامُ الهدفِ المُحدَّد سلَفاً. فإذا كان الهدفُ المحدَّد هنا هو الاقتصارُ على العربية المكتوبة دون العربية المنطوقة، وعلى الفصحى دون العامية، فذلك هدفٌ يجب التقيُّد به، ولا نرى فيه غضاضةً. وهذا القدرُ المحدَّد من المدوَّنة إذا أردنا أن نؤرخ له سيكون علينا إذاك أن نتقيَّد حقاً بالوصف المجرَّد المُحايِِد، بأن نقتصر على وصف الظاهرة اللغوية كما هي ونحلِّلها ونفسِّرها ونتوقف عند ذلك الحدِّ، أي دون أن نُسقط على الوصف والتحليل ما تُمليه علينا أهواؤُنا الذاتية وأذواقُنا الشخصية.
وهناك التوجُّه الثالث الذي يحاول التوسُّط بين الاتجاهين السابقين، ويدعو إلى الأخذ بحَسَنات كلٍّ من المَنهجَين والجمع بينهما ما أمكنَ. وذلك بالانطلاق أساساً من المستوى الفصيح (وفق معايير ضرورية لتحديد مفهوم الفصاحة في العصر الحاضر)، ولكن عند تتبُّع أطوار الكلمات الفصيحة لابد للمؤرِّخ اللغوي من متابعة مراحل تطورها إلى نهايته بقدر ما تُسعفُه الوثائِقُ والنصوصُ والشهاداتُ المُحصَّلُ عليها، وهذا يقتضي عدمَ التوقُّف عند مرحلة الاستعمال الفصيح للكلمة أو لمعانيها، بل لا بدَّ من الاستمرار في متابعة المراحل المتبقِّية من التطوُّر والتغيُّر، سواء نحا هذا التطورُ منحىً لَهَجياً بأن انتقل من الفصيح إلى العامي (وما أكثر الألفاظ الفصيحة التي استقرَّ بها المَطافُ في حضن اللهجات حتى تُنُوسيَ أصلُها الفصيحُ ولم يعد يتذكَّره أحد)، أم نحا منحىً آخرَ بانتقال الكلمة من المجال العربي إلى المجال الأجنبي عن العربية. وكم كلمة انتقلت إلى لغة أجنبية وتغيَّرت ملامحُها حتى أصبح أصلُها العربي أخفَى ما يكون على الناس. بل كم كلماتٍ هنالك انبثقت من المجال اللَّهَجي، فلما شاع استعمالُها واشتدَّت الحاجةُ إليها، ارتفعت إلى مستوى الفصيح الذي يُعتدُّ به، فعُدَّت منه، وقد كانت قبل ذلك معدودةً في «المُستهجَن» و«والمُستَرذَل» من الكلام العامي([35]). وما أصحَّ قولاً من هذه الحكمة المأثورة التي تقول: (فصيحُ اليوم هو خطأُ الأمس، وخطأُ اليوم فصيحُ الغد). وهذا من أهم جوانب التطور اللغوي الذي على مؤرِّخ المعجم أن يوليه اهتمامه.
ونحن في الحقيقة أميلُ ما نكون إلى الأخذ بهذا الرأي الوَسَط، لما فيه من فوائد تُغني القاموس التاريخي وتجعله أقربَ ما يكون إلى واقع اللغة. ثم إن دراسة اللهجات العربية كثيراً ما تُقدِّم لنا خدَماتٍ جُلَّى تساعدنا على فهم الفصحى والغَوص في أعماقها وإدراك الكثير من أسرارها وإضاءة جوانبَ مظلمة أو مُعتِمة من حياتها. واللهجاتُ ما هي في نهاية الأمر سوى تجسيد لمراحل من تطوُّر اللغة، قد تكون هي البداية أو النهاية أو مجردَ حلَقة من حلقات المرحلة الوسطى (خذ مثلاً على ذلك كلمة: خُرشوف التي مرَّ ذكرُها). بل نحن ندعو إلى أبعد من ذلك، وهو أن لا نقتصر في التأريخ للفصحى على مراحل تطوُّرها داخل ذاتها ومن خلال لهجاتها، بل إن هذا التاريخ قد يقتضي منا في بعض الأحيان – لكي يكون أشملَ وأعمقَ – أن نتتَبَّع أطوارَ بعض الألفاظ حتى بعد هجرتها وانتقالها إلى لغات أخرى، وخاصة تلك التي هاجرت واستقرَّت لحقبة طويلة في إحدى اللغات الأجنبية، ثم حَنَّت إلى موطنها الأصلي فعادت إليه بمظهر أو معنى مختلفين حتى اعتقد الناسُ أنها كلماتٌ أجنبية دخيلة (والمثال نأخذه من كلمة: ترسانة التي مرَّ ذكرُها أيضاً). ولذلك يُعتبر علمُ التأثيل من العلوم المفيدة جداً في كتابة تاريخ الألفاظ كما كرَّرنا القولَ. وليس المقصود هنا هو تأثيل الألفاظ العربية فقط، وإنما أيضاً تأثيل الألفاظ الأجنبية ذات العلاقة باللغة العربية قديماً وحديثاً. وبقدر ما يكون مفيداً أن ندرس الألفاظ المعرَّبة والدخيلة على لغتنا من اللغات الأخريات، يكون مفيداً أيضاً دراسةُ المُقترَضات من الألفاظ العربية في لغاتٍ أخرى. ولقد مكَّنتنا دراستُنا للألفاظ الفرنسية ذات الأصل العربي أو المعرَّب([36]) من التأكد من هذه الحقيقة وإدراك مدى أهميتها القصوى في موضوعنا هذا.
ولقد استفادت القواميسُ التاريخيةُ للغات الأوروبية كثيراً من النتائج الباهِرة والجُهود التي بُذِلَت في هذا العلم الذي ظهرت مَعالمُه الأولى في أوروبا خلال القرن السابِع عشر وبلغَ قمةَ نُضجه في القرن التاسع عشر، واستثمَرَتها خيرَ استثمار. ولكن اللغة العربية لم تعرف مع الأسَف هذا العلمَ وهذا النوع من القواميس التأثيلية الذي يمكن أن يساعِدَ كثيراً في كتابة تاريخها، اللهمَّ ما كان من كُتُبٍ قليلة أُلِّفَت في المعرَّب والدخيل. وهي لا تُسمِنُ ولا تُغني من جُوع. وحتَّى هذا البحثُ المتواضِع في هذا الجانب المُحَدَّد من الجوانب التأثيلية الواسِعة لم يتطوَّر ولم يُحرِز نتائجَ باهرةً.
أَضِفْ إلى ما سبَقَ، أننا من دُعاة تقريب العامية من الفُصحى وتبسيط الفصحى والسعي ما أمكن للقضاء على الثُّنائية اللغوية بتقليص الهُوَّة بينهما شيئاً فشيئاً حتى نصل إلى لغة يتطابقُ فيها المنطوقُ والمَكتوبُ أو يكادان. وهذا لا يتمُّ إلا بأمور منها: إحياءُ ما في العامي من فصيح وإشاعتُه، والاعترافُ بما جاء في العامية متطوَّراً أو متفرَّعاً عن الفصيح دون أن يُخِلَّ بقواعده (كإضافة المعنى الجديد المستعمل في عامية المغرب إلى المعاني الفصيحة القديمة لكلمات من نحو: عَرصة وظهير ومَخزَن)، وتبنِّي كلماتٍ شاع استعمالُها في عدد من اللهجات العربية ولاسيما إذا افتقَرت إليها الفصحى. ومن أجل ذلك نرى أن في الأخذ بذلك الرأي الوسَط خدمةً لهذا الهدف النبيل أيضاً.

الانتقاءُ والاستيعاب

– أما الإشكال الخامس: فهو أننا حين نفترض الآن أن الاتفاق حاصلٌ على أن تكون اللغة الفصحى – بالمعايير الحديثة لمفهوم الفصاحة – هي المصدر الأساس لمدوَّنة قاموسنا العربي التاريخي مع الانفتاح على اللهجات والاستفادة منها ومن الدراسات القائمة حولها والقواميس الخاصة بها، كما بيَّناه من قبل، فإن السؤال الذي ينشأ عقبَ ذلك مباشرةً هو: هل سيكون علينا أن نستخرج مادةَ هذا القاموس من كل النصوص المكتوبة التي تدخل في إطار المفهوم العصري للفصاحة([37]) منذ أقدم عصور اللغة العربية إلى الوقت الحاضر، دون أن نستثني منها شيئاً، أم أنه بالإمكان انتقاءُ عَيِّناتٍ فقط من هذه النصوص، كلُّ عَيِّنة منها تمثِّل حقبةً أو مرحلة تاريخية، نأخذها من عُيون الكتُب وكبار الكتّاب والأدباء والمؤلفين وأعلام الفكر والثقافة واللغة والعلماء من كلِّ فن، بالإضافة إلى القواميس اللغوية المختلفة، ولغة القرآن والحديث ..الخ ؟. وهذا الرأيُ يمثِّله فريقٌ من الباحثين بعضُهم أعضاءٌ في الهيئة العلمية التي عيَّنها اتحادُ المجامع اللغوية العربية لوضع القاموس التاريخي. فالدكتور محمد حسن عبد العزيز – وهو من هؤلاء الأعضاء – يقول في مشروع له قدَّم فيه خطةَ إنجاز القاموس: إن انتقاء المصادر أو اختيارها «أمرٌ ضروري لا مندوحة عنه، لأننا لا نستطيع أن نجمع اللغة العربية كلها من كل مصادرها عبر ستة عشر قرناً، ولا بد من الناحية العملية من الوقوف عند حد معيَّن من المصادر…» ([38]). ولكن هذا الاتجاه ليس مقبولاً عند فئة أخرى من المهتمين والمختصِّين الذين يرون في العمل بالانتقاء والاختيار تَعارُضاً مع فكرة التأريخ التي تفترض عدمَ استبعاد أيِّ نص أو وثيقة أو شاهد مما يكون له فائدة فيما يُحكَى من تاريخ الكلمات. وأما تعليلُ ذلك بصعوبة الإحاطة بتاريخ اللغة العربية جميعه وفي كل حِقَبه ومراحله واتساع رُقعته الجغرافية وكثرة ما أُلِّفَ وأُنتِجَ عبر القرون الطويلة والعلوم والتخصُّصات المختلفة، فهو على أهميته، ومع إدراك حقيقة الصعوبات التي ذُكرت وما قد ينتج عنها من إبطاءٍ وتأخير في إنجاز العمل، لا يُعفي مؤرخَ اللغة العربية من ضرورة الإحاطة العلمية والاطِّلاع على كل مُعطَيات التاريخ وكلِّ وثائقه وتفاصيله وجزئياته. فهذا هو التصوُّر الموضوعي والطبيعي للمنهج العلمي الذي ينبغي اتِّباعُه إذا كان الغرضُ هو الوصول إلى نتائج صحيحة ودقيقة أو أقربَ ما تكون إلى الدقة والصحة. أما الصعوباتُ فيمكن التفكير في الطُّرُق والوسائل الكفيلة بالتغلُّب عليها، ولاسيما بعد التقدم الكبير الذي أحرزته المعلوميات وأنظمةُ الحَوسبَة الإلكترونية. ولكنه بإزاء هذا يمكن أن تُنجَزَ قواميسُ وأعمالٌ تمهيدية تكون بمثابة الخطوات التي تؤدي في النهاية إلى إنجاز المشروع الكبير في شكله النهائي المأمول. وهذه القواميسُ والأعمال التمهيدية يمكن أن تكون مصادرُها محدودةً ومختارةً إذا شئنا، وعلى النحو الذي اقترحه أصحابُ الاتجاه السابق، ويمكن أيضاً أن تكون عبارةً عن سلسلة من القواميس التي تغطي مراحلَ تاريخية معيَّنة (قاموس العصر الجاهلي – قاموس الصدر الأول للإسلام .- قواميس أخرى حسب العصور والحِقَب – قواميس خاصة بألفاظ الكتّاب والمؤلفين عبر العصور- قواميس لغة الصحافة – قواميس تؤرِّخ للفصحى وأخرى للهجات – قواميس تقتصر على اللغة المستعملة دون القديمة أو الميِّتة- قواميس مختصرة ومُوجَزة أو متوسِّطة .. وهلمَّ جرّا) ، وذلك على أساس أن تُجمَع هذه الأعمالُ فيما بعد ويُستفادَ منها في وضع القاموس التاريخي الشامل. ولقد استغرق إنجازُ قاموس أُكسفورد الذي أرَّخ للغة الإنجليزية خلال ثمانية قرون، وهي لغة حديثة وفقيرة إذا قُورِن تاريخُها وتُراثها بتاريخ العربية وتُراثها، مدةً لا تقل عن سبعين عاماً. واستغرق إنجازُ قاموس ليطري الذي أرَّخَ للفرنسية خلال أربعة قرون فقط (من السادس عشر إلى التاسع عشر) مدة لا تقل عن ثلاثين سنة. ولذلك علينا أن لا نستغرب من المدة الطويلة التي قد يستغرقُها إنجازُ قاموس تاريخي شاملٍ مُعمَّق للغة العربية، وإن كنا نعتقد – كما قلنا مراراً – أن التِّقنيات الحاسوبية الحديثة سيكون لها دورٌ كبيرٌ في تقليص مدة الإنجاز إلى أقصى حدٍّ ممكن. كما أن هناك جزءاً لا بأس به من النصوص التراثية الدينية واللغوية والأدبية التي تمَّ تدوينها وحَوسبَتُها إلكترونياً وإصدارُها في أقراص أو نَشرُها عبرَ الشَّبَكة العَنكَبُوتيَّة، من قبل هيئاتٍ وشركات نشر مختصَّة([39])، ولا شكَّ في أنها ستكون في مقدمة الأمور المُساعِدة.

الحصرُ القَبليُّ والبَعديُّ

ومما يُلحَقُ بمسائل المدوَّنة وإشكالاتها، وهو الإشكال السادس: أمرٌ يتعلَّق بعدد المداخل التي ينبغي للقاموس التاريخي أن يشتمل عليها. فهل من الضروري أن نحصِرَ، مُسبَّقاً ومنذُ البدء، عددَ هذه المداخل في رقمٍ معيَّن، ونضعَ لها سَقفاً مُحدَّداً لا تتجاوزه، أم أن الأمر يجب تركُه مفتوحاً إلى حين الانتهاء من جَرد النصوص وجمع الوثائق وتحرير المواد؟ والاختيار الأول عادةً ما تُمليه بعضُ الإكراهات الخارجية (شروطُ الناشِر – الكُلفة المالية وإعدادُ الميزانية – مراعاةُ ظروف القارئ أو المُستهلِك – المدةُ المحدَّدة للإنجاز… الخ). ولعل مراعاة بعض هذه الدوافع الخارجية هي التي أخذها في عين الاعتبار مشروعُ قدَّمه أحدُ أعضاء الهيئة العلمية المكلَّفة من قبل اتحاد المجامع العربية بوضع تصوُّر للقاموس العربي التاريخي، وهو الأستاذ علي القاسمي([40]). فقد تضمَّن اقتراحُه أن تتألف مدوَّنةُ هذا القاموس من مِليار كلمة مقسَّمة إلى عشرين مجالاً موضوعياً (أو مدوَّنة فرعية كما سمّاها)، وكلٌّ منها مقسَّمٌ أيضاً إلى مجالات أصغر، ثم حدَّد لكل مجال عدداً معيَّناً من الكلمات لا يتجاوزه. فللحقل الديني الإسلامي مثلاً: مئتا مليون كلمة (أي بنسبة 20 % من المجموع العام)، ولحقل الآداب شعراً ونثراً مئة وسبعون مليون كلمة (بنسبة 17 % من المجموع العام)، ولحقل الاقتصاد وإدارة الأعمال اثنتان وثلاثون مليون كلمة (بنسبة3,2 %)… وهلم جراً. ثم لم يقف التوزيعُ عند حدود المجالات والموضوعات، بل اقترح أيضاً عدداً محدَّداً لكل عصر من العصور الخمسة لتاريخ اللغة العربية (العصر الجاهلي: 150 مليون كلمة بنسبة 15 % من المجموع – والعصر الإسلامي: 200 مليون كلمة بنسبة 20 % – والعصر العباسي 200 مليون كلمة بنسبة 20 % – والعصر الوسيط 150 مليون كلمة بنسبة 15 % – والعصر الحديث 300 مليون كلمة بنسبة 30 %). ثم أضاف إلى هذا توزيعاً جغرافياً هو عبارة عن أربعة مناطق كبرى لكل منها 250 مليون كلمة (أي بنسبة 25 % لكل واحدة منها) ([41]).
ونحن في الحقيقة لسنا من أنصار هذا الاتجاه. ولا أجدُني متفقاً مع صديقنا الدكتور القاسمي فيما ذهب إليه، رغم علمي بأن أي قاموس – بلغَ ما بلغَ حجمُه – لا بد أن يكون مُغلَق المُدوَّنة، ولائحةُ مداخله محصورةً ومحدَّدة في رقم معيَّن، لأن من أخصِّ خصائص مفهوم القاموس أنه محدُودُ القائمة. أقول: إنه رغم علمي بذلك واقتناعي به، وعدم قَولي بعكس هذا المبدإ، ولستُ أماري في هذه الحقيقة، إلا أن سبب اعتراضي محصورٌ في أمر منهجي، وهو أن المشروع لم يستند إلى أي معيار من المعايير الواضحة في ذكر هذا العدد الذي اقترَحَه من الكلمات، ولا في توزيعها على المناطق الجغرافية ثم على الحِقَب التاريخية أيضاً([42]). ومن حسن الحظِّ أن الدكتور القاسمي استعمل لفظ (الكلمات) وليس لفظ (المداخل) أو (المواد اللغوية). ذلك أننا نستطيع أن نقترح حجماً مناسباً وتقريبيّاً لهذا الكتاب، فنقول مثلاً يجب أن يكون في حدود كذا وكذا من الصفحات أو الأجزاء أو الكلمات التي يتضمَّنها، أو نقول: يجب أن يكون مختصَراً أو مُطوَّلاً أو متوسِّطَ الحجم، ولكننا لا نستطيع منذ البداية وقبل جمع المادة وتقدير حَجمها الحقيقي أن نفرض – هكذا جِِزافاً واعتباطاً – مجموعَ عدد مداخل القاموس، فأحرى أن نستطيع توزيعَها توزيعاً اعتباطياً أيضاً على العصور ثم على المناطق الجغرافية. فالمنهجُ المنطقيُّ والعمَليُّ يفرض علينا أن نقوم في المرحلة الأولى بجَرد النصوص المُكَوِّنة لمجموع مصادر مدوَّنة القاموس واستخراج لائحة ألفاظها، ثم بعد ذلك لنا أن نحدِّد عددَ ما يُستعمَل منها وعددَ ما يُهمل، وهذا هو الذي يُحدِّد حجمَ المدوَّنة. فالعملية بَعديٌةٌ وليست قبلية كما في تصوُّري.
وفي نهاية هذه النقطة المتعلِّقة بإشكالات المُدوَّنة وأسئلتها، أُشيرُ إلى أنِّي لم أتعرَّض لموضوع الدَّخيل والمُعرَّب، لأنه ليس فيه إشكالٌ في نظري، ولا أرى أن وجوده يحتاج إلى معالجة خاصة في القاموس التاريخي. وإنما شأنُ الألفاظ المعرَّبة والدخيلة كشأن بقية ألفاظ اللغة يجري عليها ما يجري على الأخرى. فهي إما قديمة وإما حديثة، مُهمَلة أو مُستعملة، فصيحة أو غيرُ فصيحة، خاصة أو عامة،… وهلمَّ جراً. وليس هناك لغةٌ بشرية خاليةٌ من ألفاظ انتقلت إليها من لغاتٍ أخرى، فكلُّ اللغات فيها الأصيلُ كما فيها الدخيلُ، وما أكثرَه.

– 4 –

من أسئلة الترتيب والتعريف

تلك أهمُّ الأسئلة التي تطرحها قضيةُ المدوَّنة في القاموس التاريخي للغة. أما الأسئلة المتعلِّقة بالترتيب والتعريف فلا تتطلَّب منا وقفةً طويلة، لأنها – في الأغلب الأعمِّ – لا تختلف عن الأسئلة التي تُطرَحُ على القاموس اللغوي العام (إلا في بعض الخُصوصيات التي سنتطرَّق لها) وقد عالجنا أكثرها وأهمَّها في كتابنا: قضايا المعجم العربي.
وسيدور حديثُنا عن خُصوصيات الترتيب في القاموس التاريخي للغة، حول نقطتين: الأولى: تتعلَّق بترتيب المشتقّات على أساس تاريخي، والثانية: تتعلَّق بترتيب المداخل على أساس اشتقاقي تأثيلي.
وحول النقطة الأولى نقول: إذا كان المنهجُ المتَّبع في ترتيب المُشتقّات (وهي المداخل الصغرى) منذ ظهور المعجم الوسيط، يقوم – في جملة قواعده – على أساس تقديم الأفعال على الأسماء أولاً، ثم ترتيب الأفعال فيما بينها (الثلاثي قبل الرباعي، والمجرَّد قبل المزيد، وباب ضَرَب قبل نَصرَ، ونصَر قبل فَتَح… الخ)، والأسماء فيما بينها، فهل علينا التقيُّد بهذه الطريقة في الترتيب حتى لو وجدنا تاريخياً أن اسماً من الأسماء جاء سابقاً في الظُّهور على الفعل، وأن فعلاً من باب (نصَرَ) جاء سابقاً في الظهور على آخر من باب (ضَرَبَ)؟ وبعبارة أخرى: هل الأولويةُ في ترتيب المداخل الفرعية المُشتقَّة من جِذر واحد ستُعطَى للسابق في تاريخ النشأة والميلاد، أم أنه لا عبرةَ بذلك في الترتيب ويُحافظُ على منهج المعجم الوسيط وما سارَ على طريقته([43])، دون تغيير؟
ونحن في تصوُّرنا نرى أن مفهوم التأريخ يقتضي بالضرورة مُراعاةَ الترتيب على أساسٍ تسلسُلٍ تاريخي. لقد كان هناك نزاعٌ قديمٌ بين اللغويّين العرب حول أسبَقيَّة الفعل على الاسم أو العكس، ولم يكن هنالك عنصرٌ ماديٌّ ملموسٌ يمكن أن يُرجِّح هذا الرأي على ذاك، وبشكل اصطلاحي تبنِّي القاموسُ الصادر عن مجمع القاهرة قاعدةَ أنَّ الفعل أسبقُ من الاسم. لكن إذا ثبت لنا اليوم بحُجة دامغة أن هنالك اسماً مشتقاً من جذر معجمي قد سبَق إلى الوجود فعلاًً مأخوذاً من الجذر نفسه، فسيكون لنا مبرِّر قويٌّ ومَلموسٌ لكَسر هذه القاعدة المُصطلَح عليها، وسوف يصبح مفهومُ التأريخ له معنىً وقيمةٌ إضافية، والوثيقةُ التاريخية أداةً للحسم. وإنه لمن المؤكد لدينا أن هناك طائفةً كبيرةً من الأسماء نستطيع إثباتَ سَبقها لأفعالٍ مُستعمَلةٍ من المادة المعجمية نفسِها، فلفظ (مَغرِب) لا شك أنه أسبق وجوداً من (مَغرَبَ يُمَغرِبُ، وتَمَغرَبَ يَتَمَغرَبُ)، ولفظ (سَعودية) أسبق من (تَسَعوَدَ) و(جُمهور) أسبق من (تَجمهَرَ)، و(الماء) أسبق من (تموَّه)، و(الثَّلج) أسبقُ من (تَثَلَّج) و(بِطِّيخ) أسبقُ من (تَبَطَّخَ). فإذا أكَّدَت شواهدُ التاريخ ذلك فسيكون علينا ضرورةُ احترامِ ما تحكمُ به وتطبيقِه وتقديمِ ما حقُّه التقديمُ حَسَب الترتيب التاريخي. وكذلك نقول في ترتيب صِيَغ الفعل الثلاثي، فهي واردةٌ في المعجم الوسيط على أساس اصطلاحي واتِّفاقي، لكن متى ثَبَتَ في حالات معيَّنة ما يَخرِقُ تلك القاعدة فسيكون علينا أيضاً الاحتكامُ لما تحكُم به نتائجُ الجَرد التاريخي.
ولقد كانت الأكاديميةُ الفرنسية في قاموسها التاريخي الذي ظهر جزؤُه الأول سنة 1865 م، سَبَّاقةً إلى التنبُّه لمشكل من هذا النوع. فإذا كان الترتيبُ الألفبائي للمداخل هو المعتمَد في كل الطبعات العادية الصادرة من قاموس الأكاديمية (ابتداءً من الطبعة الثانية التي صدرت عام 1713 م) ([44])، فإن اعتماده حرفياً في هذا القاموس الذي يقتضي التسلسل التاريخي طرح على الأكاديمية إشكالاً جعلها تلجأ إلى محاولة للتوفيق والمزاوجة بين الأمرين: أي بين الترتيب الألفبائي الذي يقتضي مُراعاة حروف الكلمات، والترتيب الذي يقتضيه المنهجُ التاريخي وهو التدرُّج بالكلمات المشتركة في الأصل الاشتقاقي، حسب تَسلسُلها التاريخي. فالكلماتُ الآتية مثلا: abaisser, abaisseur, abaissement وردت في القاموس التاريخي للأكاديمية حسب الترتيب المذكور، بينما كان الترتيبُ الألفبائي يقتضي وضعَ الكلمة الثالثة (abaissement) في الرُّتبة الأولى. وهذا ما دفع واضعي الكتاب إلى إضافة فهرس في آخره يُعيد ترتيبَ المداخل كلها ترتيباً ألفبائياً دقيقًا حتى يُسهِّل على المستعمِل طريقةَ الوصول إليها .
أما النقطة الثانية وهي الترتيب على أساس اشتقاقي وتأثيلي، فقد جرَت العادةُ على اعتبار المُشتَقّات المتفرِّعة عن أصل معجمي واحد، مداخلَ صغرى، تُرتَّبُ فيما بينها تحت مداخل كبرى وهي الجُذورُ أو الأصولُ. وقد أصبح ترتيبُ هذه المداخل الكبرى ذاتِها فيما بينها على أساس اشتقاقي، تقليداً متَّبعاً في أغلبية القواميس اللغوية العربية منذ عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي، وما يزال هذا التقليدُ متَّبعاً ومعمولاً به في قواميسنا الحديثة والمعاصرة. وفي الحقيقة، يمكننا أن نعتبر هذا الأساس الاشتقاقي الذي استنبطه الخليلُ وطبََّقه في كتاب العين، وسار على طريقه مَن سار من مؤلِّفي القواميس وكُتُب الاشتقاق، هو أول خُطوة في اتجاه محاولة التأريخ للمعجم العربي، لأنه يقوم على فكرة إرجاعِ كلِّ الألفاظ إلى أصولها، وتجميعِ كلِّ أفراد الأسرة الواحدة تحت عنوان واحد ووضَعِِِ بعضِها قربَ بعضٍ لتتَّضح العلائقُ والوشائجُ القويةُ التي تربطها جميعاً. وقد تَبِِعَتها بعد ذلك خُطوةٌ أخرى يمكن إدراجُها في سياق محاولة السَّعي نحو هذا التأريخ، وهي تلك التي أتى بها أحمدُ بنُ فارس في قاموسه الشهير باسم: مقاييس اللغة، حين حاولَ الرَّبطَ بين المعاني المختلفة للكلمة الواحدة مهما بَدت متباعدة والبحث عن الخيط الناظِم لها وهو ما سماه بالأصل أو الأصول. ثم خطوة ثالثة ظهرت في كتاب الخصائص لابن جنّي الذي حاول بدوره أن يسير بعيداً في البحث عن المعاني المُتصاقِبة للألفاظ المُتصاقِبة (وهو عنده الاشتقاق الأكبر) ، ثم في البحث عن المعنى المشترَك بين كل الكلمات المتفرِّعة عن الجِذر الواحد مهما تغيَّرت تقاليبُه والسَّعيِ لإيجاد الرابط بينها أو الناظِم لكل خيوطها. والبحثُ عن تَسلسُل المعاني وترابُطها واتصالها بمعنى أصليٍّ جامِعٍ، هو الذي يعتبرُه اليوم بعضُ المعجميّين الفرنسيّين جزءاً أساسياً من التأريخ للكلمات، على نحو ما جاء في مقدمة القاموس العام للغة الفرنسية وقد سبق ذكرُه([45]). ولم تكن كُتُبُ المعرَّب والدخيل التي ظهرت أُولَى حلقاتها على يد الجواليقي في المُعرَّب من الكلام الأعجمي، سوى خُطوةٍ أخرى نحو مفهوم التأريخ للغة. فهذا النوعُ من الكتُب داخلٌ بلا شكٍّ في باب البحث عن الأصول الاشتقاقية والتأثيلية للكلمات العربية، وذلك جزءٌ من تاريخها.
ولكنه رغم كون القواميس اللغوية العربية كلها – إلا ما شَذَّ – قد قامت على أساس اشتقاقي، إلا أن عدم وجود قواميس تأثيلية في تاريخ اللغة العربية يمكن استثمارُ معلوماتها ومُعطَيَاتها في معالجة المشتقّات، قد أثَّرَ سلبياً على تلك القواميس وترتيب مداخلها. وبالنسبة للقاموس التاريخي لا بدَّ من تلافي كلِّ الأخطاء المترتِّبة عن الجهل بأصول الكلمات أو بمراحل تطوُّرها مما يؤدي إما إلى الخلط بينها وإدخال بعضها في بعض، وإما إلى عكس ذلك أي فَصل بعضها عن بعض وعدمِ الربط بين مختلف فروع الأصل الواحد.

الوصلُ والفَصلُ

أما أمثلةُ الحالة الأولى (حالة الوصل)، فإننا نجد القواميس العربية عادةً ما تُدرِجُ كلمة (قيراط) ضمن مادة (ق ر ط) أي مرتَّبة مع: (قُرطٍ) ولا صلةَ اشتقاقية بينهما. ونجد (طَماطِم) تحت مدخل (ط م ط م) التي منها: فعل طَمطَمَ وهو من باب حكاية الأصوات. ونجد (أطلسَ) بمعنى كتاب فيه خرائطُ جغرافية واسمِ سلسلةِ جبالٍ مغربية واسمِ بحرٍ مُرَتَّباً مع (أطلَس) العربية وهي صفةٌ من طَلِسَ يطلَسُ بمعنى: صار لونُه أغبرَ مائلاً إلى السواد. فالأولى أعجميةٌ والثانية عربية. ونجد (دِبْس) وهو نوعٌ من العَسَل، تُدرجُ مع (دَبُّوس) تحت جِذر اشتقاقي واحد وهو (د ب س) وهما من أصلين مختلفين. ونجد (ديوان) مُدرجةً مع (دُونَ ودُونيَّة ) تحت مدخل (د ون)، وليس الأمرُ كذلك. ونجد (قادُوس) مدرجة مع ( قَدَّسَ – قُدس – قُدسيٌّ) تحت مدخل اشتقاقي واحد وهو (ق د س). ونجد (مِيل) – بكسر الميم – بمعنى مسافة مُعيَّنة، مُدرجةً مع (مالَ يميلُ مَيلاً ومُيُولاً ومَيلاناَ..) وهما من أصلين مختلفين. ونجد (بَيرَق) مُدرجةَ مع (بَرْقٍ – بَرَقَ – بارِقة..) تحت مدخل (ب ر ق)، وأصلُهما الاشتقاقي مختلِف. وأحياناً قد يرد (إبريق) ضمن مادة (ب ر ق) كما في الوسيط، وهو أبعدُ ما يكون عنها. والأمثلة كثيرةٌ لا حصر لها([46]). والقاموس التاريخي الذي يقوم على أساس اشتقاقي وتأثيلي لا بدَّ أن يتجنَّب مثل هذه الأمور التي وقعت – وما تزالُ تقع – في القواميس اللغوية العامة، بالتدقيق في أُصول الكلمات والفصل بينها في الترتيب على أساس اشتقاقي وليس على أساس الاشتراك في عدد من الحروف المُتشابهة. وتخصيص كلِّ أصلٍ منها بمدخل مُنفصِل.
وأما أمثلة الفصل بين فروع الأصل الواحد وتمزيقِ أوصال الأُسرة الاشتقاقية للكلمة الواحدة وعدمِ الجمع والربط بين أفرادها، فهي أيضاً كثيرةٌ في قواميسنا العربية القديمة والحديثة والمُعاصرة على السواء. ففي المعجم الوسيط مثلاً نجد كلمة (جَشيشَة) وما اشتُقَّ منها في (ج ش ش)، ونجد كلمة (دَشيشة) وما تفرَّع منها في (د ش ش) دون أن يُربَط بين المادَّتين برابط. مع أنه من المعروف أن الكلمة الثانية – رغم قِدَمها – إنما هي صيغةٌ مُتحوِّلةٌ عن الأولى. والمعجم التاريخي الاشتقاقي لا بد له في نظري من جمع المادَّتين تحت مدخل واحد وهو (ج ش ش) لأنه الأصلُ، وهناك يُتَطرَّق للكلمة الثانية باعتبارها حالةً تطوُّرية للأولى، أو على الأقل لا بد له من الربط بينهما والتنبيه على العلاقة الاشتقاقية والتأثيلية التي تجمعُهما. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً عدمُ الرَّبط بين جذَبَ وجَبَذَ، ويَئِسَ وأَيِِسَ، وكلُّهُا مُستعمَلةٌ في الفصيح، وبعضُها متطوِّرٌ بالقَلب عن الآخر. ومن أمثلته أيضاً عدمُ الربط بين الثُّنائي في الأصل والرباعي المكوَّن من مَقطَعين مكرَّرين (مثل: جَر/ جرجَر – خض/ خضخض – دق/ دقدق – طق/ طقطق ..)([47]). وما يقع في القاموس اللغوي العام من هذا القبيل أو ذاك يمكن التجاوُزُ عنه، ولكنه أمرٌ لا بدُّ من التحوُّط له وأخذه بجِدِّية تامة في القاموس التاريخي. ويمكننا أن نذهب إلى أبعدَ من هذا فنفكِّر في كثير من الألفاظ المترادفة التي نشأت في العربية نتيجةَ التطور الصوتي مثل: أَراقَ الماءَ وهَراقَه، وسراط/ صراط/ زراط، وصقر/ سقر/ زقر – و(طراز) في الفصحى) و(دراز) في العامية (ومنه: درزي وترزي في عامية المشرق بمعنى: الخَيّاط). فمثل هذه الحالات لا بد من الربط بينها بل وجمعِها تحت مدخل واحد.
وإذا كان التقليدُ في القواميس اللغوية العربية العامة قد قام منذ البداية – كما قلنا – على أساس اشتقاقي، فإن التقليد في القواميس اللغوية العامة الأوروبية قد جرى – عكس ذلك – على أساس الترتيب الألفبائي البسيط، لكننا في القواميس التاريخية لهذه اللغات نلاحظ أن الأمر بدأ ينحو نحو الجمع بين فوائد الترتيب الألفبائي ومُعطيات البحث الاشتقاقي التأثيلي. فإذا أخذنا التجربة الفرنسية على سبيل المثال، فسنجد أن النوع الأول من القواميس التي يمكن اعتبارُها تاريخية، وهو الذي أطلقنا عليه اصطلاحاً اسم: القاموس اللغوي التاريخي (أي النوع الذي جعل التأريخ عنصراً من عناصر تعريفاته وليس الهدفَ الأساس في تأليفه، كقاموس روبير الكبير Grand Robert وروبير الصغير Petit Robert). فإننا نجد كل المداخل تُرتَّب ترتيباً ألفبائياً عادياً، وكلَّما ذُكِرَ مدخلٌ معيََّن في مكانه الطبيعي من الترتيب إلا وورَدَ معه تاريخُ ظهوره واستعماله والتنبيهُ على أصله الاشتقاقي، وكلما حدَث تطوُّر في المعنى برزَ إلى جانبه تاريخٌ لذلك التطور أو التغيّر.
أما في النوع الثاني المتمثِّل في القواميس التي وُضِعت أساساً ليكون التأريخُ هدفَها الأساسَ (وهو النوع الذي أسميناه اصطلاحاً: القاموس التاريخي للغة، مثل قاموس روبير التاريخي، وقاموس ديبوا التأثيلي التاريخي للفرنسية)، فإن طريقة الترتيب مختلفة. لأنها – مع احتفاظها بالمبدإ العام للترتيب الألفبائي لكل مداخل القاموس فيما بينها – عادةً ما تعود إلى فكرة الترتيب الاشتقاقي، فتُختارُ الكلمةُ التي يُعتقَد أنها الأساسُ (Le mot de base) أو الأصل لتصبح مدخلاً للمادة، ثم تُورَدُ تحتها المشتقّاتُ المتفرِّعةُ بغضِّ النظر عن كونها من الأفعال أو الأسماء ، ولكننا نجد في كثير من الحالات عدداً من المشتقّات التي يُفترَضُ أن تُدرَج جميعُها تحت أصل واحد، واردةً في مداخل مستقلة (فتجد في روبير التاريخي، كلَّ كلمةٍ من الكلمات الآتية:porter, déporter, importer, reporter, transporter، مُدرَجَةً في مدخل مستقل، والسببُ أن كل لفظ من هذه الألفاظ أصبح بدوره أصلاً ومصدراً للاشتقاق، له فُروعُه ومُشتقاتُه([48]). ولكن هذا لا يمنع من ربطها بالجذر الاشتقاقي الأول وهو: (port). ولكننا في قواميس أخرى مثل قاموس بيكوش، نجد هذه المشتقات وما اشتُقُّ منها أيضاً واردةً كُلَّها تحت أصل واحد هو: (port).
ويُعتبَر قاموسُ بيكوش([49]) الذي ذكرناه، رغم عنوانه الذي يخلو من كلمة (تاريخ) أو (تاريخي)، من القواميس التأثيلية التاريخية الفرنسية الأكثرِ تعقيداً من النوع السابق. وله في منهج معالجته للعلاقات الاشتقاقية بين الكلمات طريقتان يستعملها بشكل متوازٍ: فتارةً تراه يلجأ إلى كلمة واحدة ويوزِّع صيغَها المختلفة على مداخل منفصلة فتبدو كلُّ صيغة وكلُّ مدخل وكأن لا علاقة لهما بالصيغ الأخرى. فلذلك تجد كلمةً مثلَ (aller) – وهي فعلٌ بمعنى (ذهبَ) – في مدخل مستقل، وتجد (j’irai) (= سأذهبُ) في مدخل ثانٍ، وتجد (je vais) (أَذهبُ) في مدخل ثالث، مع أنها من جهة التصريف كلَّها صيغٌ تصريفية لفعل (aller)، والسبَب هو أن كلَّ صيغة من الصيغ الثلاث لهذا الفعل تنحدر من أصل اشتقاقي مختلف([50]). وقد بَدا أثرُ اختلافِ الأصول الاشتقاقية واضحاً في الصيغ التلفُّطية لتصريف هذا الفعل الواحد وفي طريقة ترتيب هذه الصيغ. ولكننا في قاموس روبير التاريخي سنجد كلَّ الصيغ المُتصرِّفة من هذا الفعل مُدرَجَةً تحت مدخل واحد وهو (aller). وإذا تركنا هذا المثال الذي يتضح منه كيف تُوزَّعُ صيغُ الكلمة الواحدة إلى مداخل متعدِّدة، فسنجد في كتاب بيكوش أمثلة أخرى مُعاكِسة لما سبَقَ، بأن تكون هنالك كلماتٌ متباعدةٌ في المعنى والصوت والصيغة، لكنها تُجمَّعُ كلُّها تحت مدخل واحد بسبب أصلها الاشتقاقي الواحِدِ. فأنت من الصعب أن تتصوَّر وجود كلمات من أمثال: fanal, fantaisie, phase, phénomène مصنَّفة تحت مدخل (fantôme)، وكلماتٍ من أمثال:ambigu, ambulant, ambition, amphithéâtre تحت مدخل (aller)، وأن تجد كلمة (abricot) التي مرَّت بمرحلة عربية في تاريخها مرتَّبةً تحت مدخل (cuire). والسببُ في هذه الحالة هو أن الوحدة القاموسية التي جُعِلَت مدخلاً قد تفرَّعت بدورها إلى فروع ومجموعات، كلُّ مجموعة منها تنحدرُ من أصل اشتقاقي مختلف (لاتيني، يوناني، جرماني ..الخ)، لكنها جميعُها تلتقي في أصل واحد هو الأبعدُ والأقدمُ تاريخياً. ولذلك اضطُرَّت مؤلفةُ هذا الكتاب إلى إضافة دليل في آخره يُرشد القارئَ إلى المدخل الذي توجد تحتَه هذه الكلمةُ أو تلك.
والمهمُّ أن المنهج المتَّبع في هذا الكتاب يؤيِّد تماماً ما سبق أن ذكرناه حول ضرورة الفصل بين الكلمات المتشابهة في الحروف والمختلفة في الأصول الاشتقاقية (مثل: برق وبَيرَق – قُرط وقيراط – ومَيل ومِيل…)، وضرورة الربط والجمع – عكس ذلك – بين الكلمات المتَّحدة في الأصل الاشتقاقي وإن تباعدت صُوَرُ كتابتها، واختلفت حرُوفُها ظاهريا (دشيش وجشيشً – ومَدشَر ومَجشَر).
أما ما يتعلَّق بترتيب المعاني فيما بينها، فلا شكَّ في أن هذه المسألة لا تختلف في القاموس التاريخي عن وضعها في القاموس اللغوي العام، لأنه مما صار متعارَفاً عليه في القاموسية الحديثة، أن يُقدَّم المعنى الأصليُّ على المعنى الفرعي، والحقيقيُّ على المجازي، والقديمُ على الحديث، والحديثُ على الأحدث. لكن هنالك آراء تذهب إلى استحسان البدء بما هو أحدثُ وما هو أكثر استعمالاً وشُيوعاً وانتشاراً في عصرنا هذا، لأنه المطلوبُ في المقام الأول، ثم الانتقالُ منه إلى أقدم المعاني وأقلِّها استعمالاً ورواجاً.
أما مسألة التعريف، فقد أصبح من المُبتذَل القولُ إن تعريف كلِّ مدخل من مداخل القاموس اللغوي يستدعي بالضرورة نوعين من المعلومات: الأول خاص بالدال، والثاني خاص بالمدلول. والخاصُّ بالدال هو المتمثِّل في العنصر الصوتي الإملائي (كيفية نُطق الكلمة وكتابتها، وما طرأ عليها من تحوُّل صوتي أو إبدال أو إعلال أو تحويل أو قَلبٍ أو إدغام أو نَحت)، والعنصر التأريخي، والعنصر التأثيلي، والعنصر النحوي والصرفي (جنس الكلمة وعددُها ومقولتُها النحوية وطريقة تصريفها وتصغيرها والنسبة إليها،..). وما هو خاصٌّ بالمدلول هو المتمثِّل في ذكر جميع معانيها ومدلولاتها مع التأريخ لها وتتبُّع تطوُّرها وتسلسلها وتفرُّع بعضِها عن بعض، والاستعانة بالأمثلة والتراكيب والسِّياقات التي تبرُزُ فيها خاصِّيَّةُ كلِّ معنىً.
ولكن السؤال الذي يلحُّ علينا بخصوص القاموس التاريخي هو: إلى أيِّ حد ينبغي التوسُّعُ والتفصيلُ عند إيراد هذه المعلومات بنوعيها؟ وفي الحقيقة ليس هنالك ضابطٌ معلوم، لكن هنالك نموذجان من القواميس التاريخية بخصوص هذه النقطة، يمكن اللجوءُ لأحدهما: أولهما: يميل إلى التوسُّع في تعريف المدلول وتقصِّي كلِّ ما يتعلَّقُ به والإكثار من الشواهد والنصوص والتراكيب، ويمكن أن نمثِّل له بقاموس أكسفورد الإنجليزي وقاموس ذخيرة اللغة الفرنسية (TLF). والثاني يميل إلى الاختصار كثيراً أو قليلاً، فلا يتتبَّع كلَّ سياقات الكلمات، ولا كلَّ الأساليب والتراكيب التي تأتي فيها الكلماتُ، ولا يأتي بالنصوص والشواهد إلا ما دعَت إليه الضرورةُ القُصوى، وبذلك يأتي مختصراً قدر الإمكان. ومن الأمثلة عليه روبير التاريخي، وقاموس ديبوا وصاحبَيه، وقاموس بيكوش. بل هناك من ذهب إلى حدِّ اعتبار تعريف المداخل في مثل هذه القواميس مسألةً ثانوية، لأن ذلك في نظره متروكٌ لقواميس اللغة العامة غير التاريخية أو التأثيلية. وهذا ما يُصرِّح به بلوخ في مقدمة كتابه حين يقول بأنه لم يهتمَّ بإعطاء تعريف للكلمات التي أوردها، لأن هذا النوع من القواميس ليس في الأصل قاموساً للاستعمال، وإنما المُفترَضُ في الشخص حين يعود إلى هذا النوع من الكُتُب أن يفتَح بين يديه قاموساً آخر من نوع القواميس العادية وفيها يجد المعنى المطلوب للفظ الذي يبحثُ فيه. ثم قال: ونحن لم نَستثنِ من هذه القاعدة إلا حالاتٍ خاصةً ذكَرَ بعضَها، وحتى في هذه الحالات المُعيَّنة، لم تُقدَّم سوى المعلوماتُ الضرورية([51]).
لكننا، مع اعتبارنا لخُصوصية القواميس التاريخية والتأثيلية التي تحدَّثَ عنها بلوخ، من حيث كونُ اهتمامها مُنحَصِراً في التأريخ والتأثيل، لا نرى مَناصاً من تعريف الكلمة التي يُرادُ التأريخُ لها وتأصيلُها، مع إمكانية الاختصار وحذف ما لا ضرورة له من التفاصيل في هذا النوع من القواميس، لأن مهمة المؤرِّخ للغة ليست مقصورةً على وضع تواريخَ لظهور الكلمات، ولا محصورةً في تتبَّع تطوُّر الصيغة الصوتية والصرفية والكِتابية للفظ، وإنما مهمَّتُه أيضاً أن يتتبُّع معاني الألفاظ في تغيُّرها وتعاقبها الزمنيِّ وانتقالها من مستوى استعماليٍّ إلى آخر، ومن مجال أصليٍّ إلى مجال فرعيٍّ، ومن حِسِّي إلى معنوي، ومن حقيقيٍّ إلى مجازيٍّ، ومن بيئة إلى أخرى… وهلمَّ جراَ، مع ما يقتضيه الأمرُ من شواهد وأمثلة. على أنه من الممكن الجمع بين الحُسنَيَين والسَّير في الاتجاهين معًا: اتجاهِ الطريقة المفصَّلة والموسَّعة، واتجاهِ الطريقة المختصَرة المُركَّزة. ويمكن البَدءُ بالنموذج الثاني في انتظار اكتمال المعلومات الضرورية للانتقال إلى النموذج الثاني.

مراجع

([1]) راجع مفهومنا لمصطلحي قاموس ومعجم في أعمالنا المعجمية المنشورة وخاصة: قضايا المعجم العربي في كتابات ابن الطيب الشرقي، ودراسات معجمية.
([2]) باستثناء المحاولة الفريدة من نوعها التي قام بها المستشرق الألماني فيشر، وهي: المعجم العربي التاريخي الذي طُبع منه جزءٌ صغير من حرف الهمزة، والمعجم الكبير الذي طبع المجمع اللغوي القاهري أجزاء قليلة منه. وإن كان الكتاب الأخير لا يمكن اعتبارُه قاموساً تأريخياً بالمفهوم الدقيق للكلمة المُلَخَّص في تعريفنا السابِقِ.
([3]) باستثناء قسم صغير لم يكتمل أصدرته الأكاديمية بعنـوان: قاموس تاريخي للغة الفرنسية (Dictionnaire historique de la langue française) ثم تخلَّت عن إتمامه. وسنعود للحديث عنه بعد قليل.
([4]) Le Petit Larousse.
([5]) Dictionnaire de l a langue française du seizième siècle, par : Edmond Huguet.
([6]) Dictionnaire du moyen français , par : Julien Greimas et Teresa Mary Keane.
([7]) Dictionnaire de l’ancienne langue française, Par :Frédéric Godefroy.
([8]) أشرنا إلى هذه المحاولة في هامش سابق. وفي الواقع لقد بدأت الأكاديمية الفرنسية التفكيرَ في موضوع تأليف قاموس تاريخي للغة الفرنسية، منذ سنة 1835 م، أي مباشرةً بعد صدور الطبعة السادسة من قاموس الأكاديمية، وفي تلك السنة شكَّلت لجنةً علميةً للانكباب على إنجاز المشروع بعضوية واحدٍ من أبرز وجوه الأكاديمية وهو فيلمان (Villemain). ولكن الإنجاز أخذ سنواتٍ طويلة دون أن يكتمل العملُ. وما صدر منه هو أربعة أجزاء ظهر أولُها سنة 1865 م (في 813 صفحة) ورابعُها سنة 1894م. لكن هذه الأجزاء الأربعة لم تتضمن في مجموعها سوى الحرف الأول من الأبجدية الفرنسية وهو حرف (A). وآخرُ كلمة تناولها القاموسُ في جزئه الرابع هي كلمة (azyme). وبعد ذلك أُهملَ المشروعُ نهائياً لصعوبته وما يتطلبه من وقات طويل. لكنه اعتمد – في جملة ما اعتمد عليه من مصادر – القاموسَ الذي ألفه La Curne de Sainte-Palaye الآتي الذكر. ولذلك فقد جاء شبيهاً به من حيثُ كثرةُ الشواهد والنصوص التي يُؤتَى به للاستدلال على استعمالات الكلمات ومعانيها وصيغها المختلفة وتواريخ استعمالها ، وهو شبيهٌ به أيضاً في كونه لم يقترح تواريخ مؤكدة أو محتملة لظهور الكلمات واكتفى دون ذلك بالاستشهادات والنصوص الكثيرة. ومن الأمور التي اهتم بها هذا القاموس واعتبرها داخلةً في مفهوم التأريخ للألفاظ الفرنسية: البحث في الأصول الاشتقاقية للكلمات ولغاتها الأصلية، وصيغها الإملائية والصوتية المختلفة، ومعانيها المتطورة. وهذا كلُّه متضمَّن في العنوان الطويل الذي حمله الكتاب وهو:Dictionnaire historique de la langue française comprenant l’origine, les formes diverses, les acceptions successives des mots, avec un choix d’exemples tirés des écritures les plus autorisés. (انظر مقدمة الجزء الأول من الكتاب، وانظر أيضاً: Jean Pruvost: Les de la langue française, éd: PUF 2002.). =
= أما الكتاب الثاني الذي سبق قاموس ليطري، فهو ذلك القاموس الذي ألفه La Curne de Sainte-Palaye (ت. 1781 م) وطبع سنة 1876 م بعنوان:Dictionnaire historique de l’ancien français، وفيه جمَعَ صاحبُه ألفاظ اللغة الفرنسية منذ أقدم عصورها إلى عصر لويس الرابع عشر. ولكن أهمية هذا الكتاب الذي استفاد منه ليطري أيَّما استفادة وأشاد بجهده فيه أيَّما إشادة، انحصَرت في جَرد كمِّية هائلة من النصوص القديمة وشرح معانيها مع الإتيان بعدد من الشواهد القيِّمة والمفيدة عن كل مدخل من المداخل والاعتناء بصفة خاصة بالصيغ المختلفة الواردة للفظ الواحد، لكنه لم يهتم بوضع تواريخ معيَّنة لظهور الألفاظ في اللغة الفرنسية ولا بأصولها التأثيلية عكس ما يوحي به عنوانُه.
([9]) كان العنوان المقترح للكتاب في البداية هو:Nouveau dictionnaire étymologique de la langue française ، لكن الناشر ( هاشيت Hachette المشهور اقترح على المؤلف هذه الصيغة الأخيرة. ويظهر أن كلمة (تاريخي :historique) قد سحَرت الرجل وأخذت بلبّه، فشمَّر على ساعدَي الجِد لإنجازه في رحلة استغرقت حوالي ثلاثين عاماً تحدَّثَ عنها في مُسامرته التي نشرت أول مرة سنة 1880 م ثم أعيد نشرها في 1992 م و1995 م بعنوان: Comment j’ai fait mon dictionnaire (كيف صنَعتُ قاموسي)، وفيها يروي المؤلفُ (إميل ليطري) أنه بعد أن انطلق في العمل وجمَعَ العدد الهائل من الشواهد والنصوص والوثائق، جاءه أحدُ الإنجليز بواسطة شخص ثالث يطلب منه أن يقدِّم له بعضَ المعلومات عن المنهج الذي اتبعه في جمع مادة هذا الكتاب حتى يستفيد منه في صنع قاموس تاريخي للغته الإنجليزية ، فمكَّنه مما طلَبَ. كما يروي أنه حين بدأ العمل أيضاً، كان هنالك شخصٌ فرنسي غيرُه يفكِّر بدوره في تأليف قاموس تاريخي للغة الفرنسية، ولكنه عدَلَ عن الموضوع بعدما شاع الخبرُ بمشروع ليطري. وهذا الشخص هو العالمُ اللغوي الشهير فريدريك جُودِفرُوي(Frédéric Godefroy) الذي أصدر ما بين 1880 و1895 م كتابه الضخم الشهير باسم: Le dictionnaire de l’ancien langue française et de toutes ses dialectes du neuvième au quinzième siècle.
([10]) العنوان الأصلي للكتاب هو: Dictionnaire général de la langue française. ألفه هاتسفيلد Hatzfeldودارمستيتر Darmesteter بمساعدة من أنطوان طوماس Antoine .Thomas وقد أخطأ بلوخ في مقدمة كتابه المسمى (Dictionnaire étymologique de la langue française) حين اعتبر أن هذا الكتاب قد سبَقَ غيرَه في التأريخ للكلمات الفرنسية وأن ذلك يعدُّ تجديداً. فكتاب ليطري – كما قلتُ – كان أسبق.
([11]) من العبارات الدالة التي تستحق التوقُّف عندها لما فيها من فهم عميق لأهمية العنصر التاريخي عند مؤلفَي هذا الكتاب، قُولُهما في المقدمة: «… ولقد حاولنا أن نلبّي .حاجةَ قطاع واسعٍ من القراء، دون أن نتخلَّى عن الصرامة العلمية، وأن نؤلف كتاباً بسيطاً واضحاً في متناول الجميع، مع الاحتفاظ الكامل بقواعد المنهج التاريخي. فبما أن الألفاظ تُولد وتتطور وتتغيَّر عبر الزمان، فهي ألفاظٌ لها تاريخٌ إذن، وهذا التاريخُ لا يهم العلماء المُتضلِّعين فقط، وإنما يهم أيضاً كلَّ أولئك الذين يريدون أن يعرفوا بدقةٍ معانيَ الكلمات التي يستعملونها (…) ولكن هل يكفي أن نقدم لائحةً كاملةً من الصيغ مع تسلسل معانيها المستعمَلة من أجل معرفة تاريخ كلمةٍ ما؟ فهل المنهجُ التاريخيُّ ينحصر في هذا الأمر عندما يتعلَّق باللغة؟ المنهجُ التاريخي لا يعني فقط أن نذكر المعاني المختلفة للكلمة مُنطلقين من المعنى الأول الذي منه تفرَّعت بقيةُ المعاني. فبعد الملاحظة وجمع الوقائع والشواهد يجب تَبيان العلاقات والتَّرابُطات. وكيف يمكن أن نرتِّب مختلف المعاني حسبَ تسلسلها إذا لم نقم بالكشف عن الأسباب التي استوجبَت هذا الترتيب التاريخي؟ فإذا كنا سنقوم بترتيب الوقائع (Les faits) والأحداث السياسية حسب تسلسلها ونكتفي بذلك دون البحث عن الأسباب التي أدَّت إلى هذا التسلسل، فسنكون قد قمنا بسرد وقائع التاريخ ولا يُعدُّ ذلك تاريخاً. وكذلك، إذا كانت اللغةُ تُستعملُ للتعبير عن الفكر، فإن الكلمات لا يمكن أن تنتقل من المعنى الأصلي إلى المعنى المشتَقِّ أو المجازي دون أن تتَّبع نظاماً له تفسيرٌ منطقيٌّ ، فيكون علينا إذن أن نبحث في قوانين الفكر عن العلة التاريخية للتغيُّرات التي خضعت لها الكلماتُ. وعندما نبحث في مختلف معاني كلمة من الكلمات وننظر إليها في مجموعها، فإننا نصل في الغالب إلى الفكرة الجامِعة المهَيمنة عليها والرابطة لبعضها ببعض. وهذه الفكرةُ ليست شيئاً تجريدياً أو اعتباطياً ، بل هي فكرةٌ موجودةٌ بالفعل في روح الشعب [يقصد الجماعة اللغوية]، إنها السبب الأول للتغيُّرات التي خضع لها المعنى. وإهمالُها أو تجاهُلها معناه إلغاءُ العنصر الأساس في تاريخ الكلمة، لأنه يؤدي إلى إسقاط وجهة النظر التي كان لها اعتبارُها عند الانتقال من عصر إلى عصر، أي إلغاء الواقعة الأساسية التي أدت ، من ناحية منطق النفس الإنسانية ، إلى الانتقال من دلالة إلى أخرى».
([12]) انتهى إنجازُ النسخة الورقية من كتاب: (Trésor de la langue française (TLF سنة 1994م، وصدرت طبعتُه إلإلكترونية سنة 1998 م. وقد أشرف على إنجازه العميد بول إمبسPaul Imbs من مركز البحث العلمي الفرنسي .
([13]) العنوان الأصلي للكتاب هو: Französisches etymologisches wörterburch، من تأليف العالم الألماني والتر فُون ورتبورغ Walter Von Wartburg، وقد بدأ ظهورُه منذ سنة 1921 م في شكل فَصلات صغيرة واستمر في الصدور تباعاً إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي، ثم طبع في كتاب من عدة أجزاء في سويسرا ما بين 1972 م و1983 م. ويرمز إليه عادة بالحروف الاختصارية الأولى: FEW.
([14]) هذا القاموس وضعه في الأصل أ. دوزا (A. Dauzat) ، وطُبع أول مرة سنة 1938 م بعنوان: Dictionnaire étymologique de la langue française ثم أعاد: J. Dubois
وH. Mitterand النظر فيه وإكماله وإخراجه إخراجاً جديداً باسميهما واسم دوزا سنة 1964 م تحت عنوان: Nouveau dictionnaire étymologique et historique française. وأخيراً أعيد إصدارُه سنة 1993 م بعنوانه الحالي وهو: Dictionnaire étymologique et historique du français. ويمكن إجمالُ أهم التغييرات التي أدخلها ديبوا وميتران على الكتاب الأصلي لدوزا في النقط الآتية: 1) تحديث مادة الكتاب بإضافة عدد من الألفاظ الجديدة وإسقاط عدد آخر من الألفاظ الميتة والمتجاوزة. 2) إعطاء أهمية أكثر لتطوّر معاني الألفاظ. 3) الاستفادة من القواميس التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة في مجال التأريخ ووضع تواريخ الألفاظ. ومن مآخذ الكتاب رغم ذلك أنه محدودٌ في عدد ألفاظه ومدونته، وموجز جداً في تعريفاته لدرجة أنه صدر في سلسلة كتاب الجيَب. وانظر ما كتبه جورج ماطوري حول هذا القاموس في مؤلفه:Histoire des dictionnaires français.
([15]) طبع كتاب: Dictionnaire historique de la langue française بإشراف العالم المعجمي الشهير آلان ري Alain Rey سنة 1994 م في ثلاثة مجلدات. ويعرف اختصاراً بقاموس روبير التاريخي.
([16]) وردت كلمةُ (مناورة) في محيط المحيط للبستاني (1886 م) مصدراً لفعل ناوَرَه بمعنى: شاتَمَه
(ولا أدري من أين جاء بهذا المعنى سوى أن يكون عامياً). وقد أخطأت القواميسُ العربية التي أدرجت الكلمة تحت جذر (ن و ر) (ومنها: محيط المحيط والمعجم العربي الأساسي ومعجم اللغة العربية المعاصرة)، أما المعجم الوسيط فقد ذكرها تحت باب (ن و ر) وأحال على مكان شرحها في باب الميم، لكننا حين رجعنا إلى هذا الحرف لم نجدها فيه كما لم نجد أثراً للفعل المشتق منها وهو: ناوَرَ يُناوِرُ سواء في حرف الميم أم حرف النون.
([17]) الكلمة موجودة في الإيطالية بصيغة: manovra، وفي الإسبانية: maniobra، وفي الفرنسية: manœuvre، وكلها من اللاتينية:manus بمعنى: يد.
([18]) هذه الكلمة ظهرت في محيط المحيط (1886 م) بلفظ: التَّرسانَة والتَّرسَخانة، وبمعنى: «المكان في جوار الميناء تعمَلُ فيه المراكبُ، ومُستودَعٌ فيه ما يلزَمُ لذلك من المواد والأدوات والذخائر». وقال إنها كلمة إيطالية. وأوردها بعده المنجد لليسوعي (1908 م) بالصيغتين أيضاً، وذكر أن معناها: «مستودَعُ الذخائر وأدوات الحرب، ومعملُ المراكب» وقال: إنها ( دخيلة) دون تحديد اللغة التي دخلت منها. وحُذِفت الكلمةُ من مدوَّنة المعجم الوسيط (1960 م)، لكنها عادت للظهور في المعجمي العربي الأساسي (1989 م) بصيغتَي: تِرسانَة وتَرسانَة (بكسر التاء وفَتحها)، وبمعنى: مستودع الأسلحة ومكان بناء السُّفُن وترميمها، و وهو أول قاموس – فيما نحسب – نصَّ على أن أصلها عربي لكن دون تحديد هذا الأصل.
([19]) انظر: مادة: artichautوتعليقنا عليها في كتابنا: قاموس الألفاظ الفرنسية ذات الأصل العربي والمعرَّب (قيد الطبع). وقد بيَّنا هناك أن (أرضي شَوكي) التي ظهرت في المشرق خلال القرن التاسع عشر الميلادي لم تكن إلا وليدةَ خطأ في ترجمة artichaut وقع فيها أحدُ مؤلفي قواميس الترجمة من الفرنسية إلى العربية.
([20]) بدأ العملُ في هذا الكتاب منذ 1857 م، واستمرَّت عمليةُ نشره من 1884 م إلى 1928 م، وكانت هذه الطبعة الأولى في عشرة أجزاء. لكن العمل استمرَّ بعد ذلك في إصدار ملاحق أُضيفت ابتداءً من 1933 م. وفي سنة 1989 م صدرت الطبعةُ الورَقيةُ الثانية في عشرين مجلداً، أُضيفَت إليها ما بين 1993 و1997 م ثلاثة أجزاء أخرى. واستمرت الإضافاتُ والإلحاقاتُ إلى زمننا هذا. وصدرت للكتاب أربعُ طبعات على القُرص المَعدني آخرُها في عام 2009 م. وقد اهتمَّ هذا القاموس بالتأريخ للغة الإنجليزية على فترة زمنية تمتد من 1150 م إلى اليوم. ولم يهتمَّ فقط بإنجليزية بريطانيا، وإنما اهتمَّ أيضاً بأشكال هذه اللغة كما هي مستعملة في أمريكا وجُزُر بحر الكرايبي والهند واستُراليا وأفريقيا الجنوبية وجهاتٍ أخرى من العالم. وبلغ عد مداخله المشروحة 615164 مدخلاً.
([21]) هذه القواميس التاريخية الحديثة في فرنسا إنما اتبعت في الحقيقة القاعدة الأصلية التي سبق لقاموس الأكاديمية الفرنسية أن أقرها منذ طبعته الأولى (1694 م)، وهي إقصاءُ الألفاظ القديمة التي تُعتبَر ميتةً أو ساقطة من الاستعمال، وحصر الاهتمام فقط في الألفاظ الحية المستعملة. ثم إن هذه القاعدة نفسَها تمَّ تأكيدُها في الأجزاء الأربعة الصادرة من القاموس التاريخي للغة الفرنسية الذي نشرته الأكاديمية ما بين 1865 و1894 م، مع التنبيه على أن إقصاء الكلمات القديمة لا يعني عدم تناول ما كان منها في علاقة اشتقاقية أو تأثيلية مع الألفاظ الحديثة (انظر: مقدمة الجزء الأول من القاموس المذكور الصادر سنة 1865 م).
([22]) العنوان الأصلي للكتاب هو:Dictionnaire étymologique et historique de la langue française ألفه Emmanuèle Baumgartner و Philippe Ménardوصدرت طبعتُه الأولى سنة 1996 م.
([23]) الكتاب بعنوان: française Dictionnaire étymologique de la langue، ألفه أوسكار بلوخ Oscar Bloch بالتعاون مع فُون ورتبرغW.Von Wartburg ، وصدر بباريس سنة 1932 م.
([24]) انظر: مقدمة روبير التاريخي بقلم ألان ري.
([25]) صاحبُ هذه الدعوة هو الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح. وقد أطلق مبادرته هذه كما يقول في بعض كتبه منذ سنة 1986 م. وقد يحلو له أن يسمي هذا المشروع أحياناً باسم: الأنتِرنت العربي.
([26]) هناك قواميس لغوية آثرت الجمع بين المنحَيَين ، فخصَّصت القسمَ الأكبر منها للألفاظ اللغوية العامة، وألحقت به قسماً خاصاً ومنفرداً بأسماء الأعلام والأعيان. وهذا ما سارت عليه سلسة لاروس الفرنسية غير الموسوعية، والمسلكُ نفسُه سار عليه القاموس العربي المشهور باسم: المنجد في اللغة والآداب للويس معلوف. ولكن حتى في هذا النوع من القواميس وقع الفصل بين القسمين المكوِّنين للقاموس: قسم للغة وقسم للأعلام. وهناك قواميس من النوع الموسوعي مثل:GDU: Grand dictionnaire universel لبول روبير، وقاموس بيشريلBescherelle ، جَمَعَت بين ألفاظ اللغة والأعلام في وقت واحد.
([27]) هذا الموقف من ألفاظ العلوم والفنون والمِهَن والحِرف والتِّقنيات، هو الموقف الذي اتخذته أيضاً الأكاديمية الفرنسية منذ البداية. ولهذا عمدت سنة 1842 م إلى إصدار تكملة لقاموسها اللغوي العام (Complément du dictionnaire de l’Académie) يقع في ثلاثة أجزاء ويحتوي على 100.000 كلمة اصطلاحية وتقنية. وهذه القاعدة نفسها Complément طُبِّقَت في القاموس التاريخي للغة الفرنسية الذي أصدرته الأكاديمية سنة ( 1865 م). ومما جاء في مقدمة جزئه الأول أن هذا التأريخ لم يشمل الألفاظ الاصطلاحية والتقنية باستثناء الألفاظ التي انتقل مدلولُها من النطاق العام (أي الاستعمال العام) إلى النطاق الخاص (أي اللغة الاصطلاحية) أو ما كان منها مستعملاً في اللغة الأدبية العامة بمعنى وفي اللغة الاصطلاحية بمعنى آخر.
([28]) راجع حول مسألة موقف القاموس اللغوي العام من أسماء الأعلام والمصطلحات كتابنا: قضايا المعجم العربي في كتابات ابن الطيب الشرقي.
([29]) الكلمة واردةٌ في أبيات يقول فيها بشار: (وله خَدٌّ أَسيـلٌ مِثلُ خَدِّ الشَّيفَرانِ). وقد سُئلَ الشاعرُ عن معنى كلمة الشَّيفران، فقال: وما يدريني. هذا من غَريب الحِمار.
([30]) انظر حول هذا الكتاب وموضوعه: الودغيري: المعجم في المغرب العربي، ص: 260 و80 على التوالي.
([31]) انظر بعضاً من هذه الأسئلة في مقالة ازكاويه لولوبر: المصطلح العلمي العربي في الفيزياء: قضية تأريخ مراحل نشأته وانتشاره. ضمن مجلة المعجمية التونسية ع 23 سنة 2007 م.
([32]) البحث بعنوان: قضية الفصاحة في القاموس العربي التاريخي، ضمن كتاب: وقائع ندوة: المعجم العربي التاريخي قضاياه ووسائل إنجازه، منشورات جمعية المعجمية العربية بتونس، 1990 م، ثم أعيد نشره ضمن كتابي: دراسات معجمية: نحو قاموس عربي تاريخي وقضايا أخرى.
([33]) قد نجد في بعض القواميس التاريخية الأوروبية حديثاً عن المستوى المحكيِّ (أي المنطوق المتكلَّم) من اللغة التي يُؤرَّخ لها، كما هو واضح من مقدمة ذخيرة اللغة الفرنسية TLF التي كتبها بول إمبس
(Paul Imbs) المشرف على تحريرها، ولكن اللغة المحكية أو المتكلَّمة لا تُطابِقُ في مدلولها بالضرورة معنى اللهجات لأن هذه اللغة المنطوقة أو المُتكلَّمة لم يأخذها مُدوِّنو القواميس في الحقيقة من مُتكلِّميها في الشوارع والأسواق ومن مختلف الفئات الدنيا للمجتمع ، وإنما أخذوها في الغالب من خُطب أو نصوص أو محاضرات ألقيت في بعض الندوات أو المحافل أو على أمواج الإذاعة ووسائل الإعلام، ثم إنهم لم يتوسَّعوا في الإحاطة بكل اللهجات وفي كل العصور، وإنما ببعضها فقط ولا سيما اللهجات القريبة من الفصحى أو اللغة المعيارية المشتركة.
([34]) من الأمثلة على ذلك أن القاموس الذي ألفه بول روبير جاء ليحل محلَّ قاموس إميل ليطري بعد تحيينه وتنقيحه بالزيادة والنقص. وهكذا أضاف إلى مدوَّنته ليطري الكلمات التي استجدَّت فكانت نسبتُها حوالي 14 %، ولكنه في المقابل حذف من مدوَّنة ليطري عدداً هائلاً من الألفاظ التي اعتبرها من المُهمَل والمُمات وقد بلغت نسبةً تتراوح ما بين 30 و40 %. انظر: جورج ماطوري في كتابه: تاريخ القواميس الفرنسية (Histoire des dictionnaires français) ص: 154. وبالإضافة إلى ذلك، نذكر أنه صار تقليداً لدى بعض القواميس الغربية (ومنها لاروس الصغير)، أن تُصدر كلَّ سنة طبعةً جديدةً منقَّحة، فيها حذفٌ وزيادةٌ ومراجعة.
([35]) لقد عمدت القواميس العربية الحديثة والمعاصرة، بما فيها المعجم الوسيط الذي وضعه المجمع اللغوي القاهري، إلى إلحاق عدد من الكلمات العامية إلى مدوَّنتها، حتى ولو لم تُشتَقَّ من ألفاظ أو معانٍ فصيحة ولم تحترم قواعد الفصحى في التوليد. ولو اتسع المجالُ أمامنا لآتينا بأمثلة لا حصر لها على ذلك.
([36]) انظر كتابنا: قاموس الألفاظ الفرنسية ذات الأصل العربي أو المعرَّب، مرجع سابق.
([37]) انظر حول معايير الفصاحة الحديثة التي نقصدها هنا بحثنا بعنوان: قضية الفصاحة في القاموس العربي التاريخي، مرجع سابق.
([38]) انظر: كتابه: المعجم العربي التاريخي ص: 198، منشورات دار السلام، مصر 2008 م.
([39]) بعضُ هذه الأقراص تتضمن ألافَ النصوص والمؤلفات ومئات الدواوين الشعرية، وكتب علوم القرآن والحديث والقواميس وكتب اللغة والنحو والموسوعات الأدبية والتاريخية.
([40]) انظر عرضاً لمشروع الدكتور القاسمي ضمن كتاب: المعجم العربي التاريخي من تأليف: د. محمد حسن عبد العزيز، ص: 212 وما بعدها .
([41]) وهذه المناطق الأربع هي: الجزيرة العربية – العراق والشام – مصر والسودان وليبيا – المغرب العربي والأندلس.
([42]) وهذا ما انتقده الأستاذ إبراهيم بن مراد أيضاً في قراءته وتعقيبه على المشروع. انظر: كتاب محمد حسن عبد العزيز المشار إليه في هامش سابق.
([43]) هناك تغييراتٌ طفيفة أدخلتها على طريقة الوسيط بعضُ القواميس التي ظهرت بعده كالمعجم العربي الأساسي ومعجم اللغة العربية المعاصرة، لكن هذه التغييرات جُزئية ولا تنقُضُ منهجه في أُسُسه العامة وإنما هي بمثابة تنقيحاتٍ واجتهاداتٍ داخل النموذج نفسه. ومن ثمَّ نحن لا نُخرجها عن إطار هذا النموذج.
([44]) أما الطبعة الأولى التي صدرت سنة 1694 م من هذا القاموس، فكانت مداخلُها مرتبةً حسب الجذور والأصول الاشتقاقية تأثُّراً بنموذج القواميس العربية، ثم وقع التخلِّي عن هذا النظام ابتداءً من الطبعة الثانية كما ذكرنا.
([45]) انظر النص الذي ترجمناه من مقدمة هذا الكتاب في هامش سابق.
([46]) انظر في الموضوع: مقالتنا عن: معجم اللغة العربية المعاصرة.
([47]) سبق للشيخ عبد الله العلايلي أن حاول في قاموسه الذي ظهر بعنوان: المرجع، تطبيق منهج تطوُّري خاص كان قد نادى به في (مقدمة للغة العرب)، وتلك محاولة يمكن استثمارُها والاستفادةُ منها في القاموس التاريخي.
([48]) ومثالُه في العربية أن نجعل من (مَركَزَ، ومَسكَن أَصلاً مستلاً للاشتقاق/ فنأخذ منه: مَركَزَ يُمَركِزُ – وتمركَزَ يتمركزُ – وتمركزاً، ومَسكَنَ يُمَسكِن ومسكنة وتمسكُن… الخ).
([49]) طبع كتاب جاكلين بيكوش (Jacqueline Picoche) بباريس سنة 1994 م تحت عنوان: Dictionnaire étymologique du français، وقد حاول السير على منواله الكتابُ الذي وضعه ميشيل بينابين Michel Bénaben للغة الإسبانية، وهو بعنوان:Dictionnaire étymologique de l’espagnol.
([50]) فكامة: aller تنحدر من أصل لاتيني وهو (ambulare) بمعنى: تجوَّلَ، و(irai) مشتقة من أصل هندوأوروبي هو(ei) بمعنى: ذهب، و(vais) من أصل هندوأوروبي هو (wadh) بمعنى: ذهبَ.
([51]) قاموس بلوخ، مرجع مذكور .

مجلة “التاريخ العربي”

اقرأ أيضا

اتحاد كتاب المغرب

اتحاد كتاب المغرب يتضامن مع الروائي عزيز بنحدوش

عقب صدور حكم قضائي في حق الكاتب عزيز بنحدوش، بالحبس شهرين موقوفي التنفيذ، بمناسبة صدور روايته " جزيرة الذكور"، أصدر اتحاد كتاب المغرب بيانا للتضامن معه.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *