الحضور الإفريقي في استراتيجيات الدول العربية: الواقع والتحديات والآفاق

ثمة إشكالية منهجية عويصة تواجه الباحثين والمحللين لموضوع العلاقات بين “العالم العربي” و”إفريقيا”.. فالقول بوجود عالم عربي من جهة، وإفريقيا من جهة ثانية، يعني أننا أمام كتلتين مختلفتين، ثقافيا وفكريا وتاريخيا وسياسيا و دينيا، وهذا لا يبدو دقيقا، إن لم نقل مغالطة علمية وبحثية شديدة الوضوح..
لا شك أن عديد الباحثين والمحللين للأوضاع في إفريقيا، انبروا منذ سنوات عديدة يتعاملون مع “الشأن الإفريقي”، ليس بوصفه ملفا واحدا ذا أبعاد ومشكلات متعددة، إنما باعتباره قسمين جغرافيين، شطره الأول في الشمال، ويشمل البلدان العربية القريبة من جنوب المتوسط، والشطر الثاني، يتمثل فيما يعرف بـ “إفريقيا جنوب الصحراء”، ويتضمن ما يطلق عليه البعض، دول “القارة السمراء”، وهو تقسيم متماه كليا مع الدراسات الإستشراقية، وصنوها الغربية، ذات الخلفية الاستعمارية القديمة، التي تحاول ـ وقد تكون نجحت ـ أن تعتمد قسمة تقوم على أساس عنصري، تعكسه تلك الدراسات والمقالات والريبورتاجات الإعلامية، التي تصور القارة على أنها بيض وسود، في نوع من التمييز الذي يتعارض كلية مع ثقافة حقوق الإنسان الحديثة.

المزيد: الصحراء المغربية ومِحْور الشرّ الإفريقي..

الغريب في الأمر أن تقسيم القارة الإفريقية إلى شطر شمالي وآخر جنوبي، قد تم بداعي “المنهجية العلمية”، وذلك بغاية تكريس نوع من التمييز السلبي بين شطري القارة. والسؤال المطروح في هذا السياق هو: إلى أي مدى يمكن لهذا التقسيم أن يساهم في فهم مشكلات القارة وتشكيل رؤية موضوعية، من شأنها المساعدة على الخروج من هذه الأزمة العلائقية بين “العالم العربي” و”الشطر الجنوبي” للقارة الإفريقية؟

معطيات تاريخية هامة

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن قراءة تاريخية في العلاقات بين العالم العربي وإفريقيا(1)، ستحيلنا على مؤشرات على النقيض تماما مع هذا التمييز الذي أتينا عليه منذ حين. فكل المعطيات والأرقام والشواهد التاريخية، تؤكد أن العلاقات بين دول القارة الإفريقية، تتوفر على “تراث” ثري من التعاون والنضال المشترك، دون أن ينفي ذلك وجود إشكاليات مثلت عوائق رئيسية في تطوير العلاقات البينية. وتفيد الدراسات التاريخية، أن سمة العلاقات بين إفريقيا والعالم العربي كانت نشيطة منذ حقبة العصر الجاهلي، إذ كان يغلب عليها الجانب التجاري / الاقتصادي بكيفية خاصة. ومع دخول الإسلام الجزيرة العربية في وقت لاحق، أضيف العنصر الثقافي والسياسي إلى سلة التعاون الثنائي، قبل أن تساهم الهجرات المتبادلة بين الضفتين، في تعزيز هذه العلاقات وتنميتها..
على أن الخطّ الأهمّ في العلاقات العربية / الإفريقية، هو تمدّد العرب المسلمين في مصر والسودان (بلاد النيل) وفي الغرب والشمال الافريقي (دول المغرب العربي).. وتعدّ مصر، من أهمّ البلدان الافريقية التي توطّن فيها الإسلام وتوسّعت فيها الثقافة العربية. وبحكم موقعها الجغرافي كرابط بين بلاد العرب وإفريقيا، وعن طريقها وعبر البحر الأحمر، امتدّ تأثير الثقافة العربية الإسلامية الى الجزء الشمالي من السودان المتعدّد الاعراق والمتنوّع الثقافات، فبات الإسلام الرابط الاقوى والأمتن بين شعوبه ثقافياً واجتماعياً، وبذلك تبوّأ السودان مركز الاشعاع الثقافي العربي والإسلامي في اتجاه معظم البلدان الافريقية.
في الغرب والقسم الآخر من الشمال الافريقي (دول المغرب العربي)، انتشر الإسلام ومعه الثقافة العربية بين مجموعات من البربر، منهم من استعرب وأسهم في حمل الإسلام والثقافة العربية من شمال إفريقيا الى غربها ووسطها.
هذا الانتشار الواسع للعرب المسلمين مادياً وثقافياً في مرحلة ما قبل الاستعمار “أدّى الى تكوين ذاكرة تاريخية مشتركة بين العرب والأفارقة، سرعان ما بدأت تعمل على محوها قوى الاستعمار بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي يوم اكتشف البرتغاليون طريق “رأس الرجاء الصالح” حيث تمّت لهم السيطرة على السواحل الإفريقية” (2)..
ويشير المؤرخون، إلى أنه منذ هذا الاكتشاف، وحتى منتصف القرن الماضي، تعيش القارة الافريقية تحت سيطرة قوى الاستعمار الأوروبي/ الغربي، الأمر الذي كانت له تداعيات مختلفة على العلاقات العربية / الإفريقية، بعضها سلبي، زاد في تعميق الهوة بين العالم العربي وإفريقيا، والبعض الآخر إيجابي، مكن من تجسير الفجوة، وبناء روابط علائقية عديدة، اجتماعية وسياسية وثقافية ونضالية أيضا، في مسعى لمواجهة التغلغل الاستعماري في أرجاء القارة الإفريقية..

من الاستهداف إلى النضال المشترك

لم يمرّ اكتشاف البرتغاليين، دون أن يخلّف بعض “العطل” في مسار دول القارة، بدءا بالحدّ من مطامح محمّد علي في مدّ النفوذ المصري إلى البحر الأحمر، مرورا بسدّ منافذ شرق إفريقيا أمام العرب، وإضعاف مراكز الثقافة العربية والإسلامية في شمال إفريقيا وشلّ قدراتها أمام الغزو الثقافي الأوروبي، وصولا، وهذا الأخطر، إلى تكريس قطيعة تاريخية ثقافية بين العرب والأفارقة، استمرت زهاء الخمس مائة سنة من الاستعمار للقارة الإفريقية..
لكن هذه السيطرة الاستعمارية الطويلة على إفريقيا، كانت لها تداعيات إيجابية على العلاقات العربية / الإفريقية من بين مظاهرها:
ـــ مواجهة العرب والأفارقة معاً لقوى الاستعمار، ما عزّز الشعور لديهم بأنّهم يواجهون عدوّاً واحداً، وبأن لديهم خيار واحد، هو الاستقلال الذي يرسمه النضال المشترك، وهذا ما كانت له نتائج ايجابية في مرحلة ما بعد الاستقلال (خمسينيات القرن الماضي تحديدا)..
ـــ توثيق العلاقة بين حركات التحرّر والاستقلال في إفريقيا، خصوصا بعد قيام ثورة الضباط الأحرار في مصر، والأمل الذي بعثت به على ثوار القارة الذين يواجهون الاستعمار الغربي..
ـــ التنسيق الدبلوماسي في أروقة الامم المتّحدة بشأن القضايا العربية والإفريقية ومحاولة تشكيل مواقف متطابقة من مسائل إقليمية ودولية.
ـــ الانخراط في حركة عدم الانحياز، وإعادة إحياء دورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، بعد أن عملت القوى الاستعمارية على إجهاض مهمتها، بل إنهاء وجودها أصلا..
ـــ اعتبار قضية فلسطين قضية عربية / إفريقية.. واعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية..
ـــ قطع العلاقات بالكيان الصهيوني في حرب أكتوبر 1973 (29 دولة إفريقية قطعت علاقاتها بإسرائيل وأعلنت حكوماتها التأييد المطلق لحق العرب في استرجاع أراضيهم المحتلّة في العام 1967) (3)..
هذا المسار “النضالي”، وهذا المستوى من التعاون السياسي في العلاقات العربية الإفريقية، أثمر في الواقع أول مؤتمر قمة عربي / إفريقي من نوعه التأم في العام 1977، وانتهى بإصدار وثائق أساسية حدّدت مجالات التعاون المشترك، وأنشأت مؤسسات وأعدّت برامج وآليات، لكن كل ذلك لم يجد طريقه للتنفيذ، ما أدى إلى اندلاع نزاعات بينية بين أطراف عربية وإفريقية، وسجلت اعتداءات وتدخلات وعمليات احتلال خارجية، انتهت بتغيرات في طبيعة الانظمة السياسية، تراجعت على إثرها العلاقات العربية / الافريقية، ودخل العرب والأفارقة في ما يسميه بعض المراقبين بـ “مسار هشاشة العلاقات”..
لكن ألا تكفي هذه المدة الطويلة نسبيا (أربع عشريات كاملة)، أي منذ انعقاد أول قمة عربية إفريقية(4)، لـ “تطبيع” العلاقة ـ إن صح القول ـ بين النصف الشمالي من القارة وشطرها الجنوبي، وردم ما يعتبره المراقبون فجوة في علاقات الضفتين المرتبطين جغرافيا، المنفصلين في مستوى التطلعات ومصالح شعوب القارة ؟ ما الذي يجعل التباعد بينهما، أمرا قائما طوال هذه العقود ؟ هل يتعلق الأمر بأزمة وعي سياسي لدى النخب الحاكمة في الوطن العربي وفي دول جنوب الصحراء، أم أن المشكل تثوي وراءه حيثيات ومعطيات أخرى أشدّ ثقلا وأعمق أثرا في علاقات الجانبين ؟

أسباب أساسية

في الواقع، تفتقر الدراسات العربية والإفريقية على حدّ السواء، إلى أي معالجة للأسباب التي تقف خلف هذا التباعد بين ضفتي إفريقيا، وتبدو المكتبة الأكاديمية شحيحة في هذا المجال. ورغم أن الأدبيات السياسية والقراءات الإستراتيجية، تتوقع للقارة الإفريقية بأن تكون “سلة العالم الغذائية” خلال القرن الراهن، فإن العرب يفتقرون لأي تصور بخصوص العلاقة المستقبلية مع إفريقيا، وكيفية استثمار هذا الزخم الذي تتوفر عليه..، وذلك للأسباب التالية:
** الخشية من إفريقيا التي ينظر إليها على أنها بيئة للعنف والانقلابات والحروب، ما يجعل الرهان عليها محدودا وضعيفا..
** هيمنة الجانب السياسي على العلاقات البينية، وذلك قبل خيار المصالح والتعاون الاقتصادي، والبحث عن أسواق وشراكات حقيقية، قادرة على استيعاب واحتضان العمق المستقبلي والإستراتيجي للقارة، وهو الشباب (بين 18 و 40 عاما)، الذي يعدّ أكثر من نصف سكانها..
** التعامل مع القارة الإفريقية كمشكل وليس كجزء من الحلّ، وزاد الوضع الاقتصادي الإفريقي المتردي، في إقناع العرب أو قسم منهم على الأقل، باستبعاد الإنخراط في علاقات بينية نشيطة مع دول “القارة السمراء”..
** استراتيجيات العرب إزاء إفريقيا في مرتبة ثانوية، إن لم نقل هامشية، نتيجة ارتهان القرار السيادي العربي، لمصالح ولوبيات واستراتيجيات تتخذ من الإستـفراد بالقارة الإفريقية وخيراتها، هدفها الأساسي غير القابل لأية شراكة ذات بوصلة مختلفة..
** بقاء التعاون العربي الإفريقي رهن العلاقات الرسمية وتقلباتها، وأمزجة الحكام وانفعالاتهم النفسية والسياسية.. وبالتالي لم يرتق إلى مستوى الإستراتيجيات التي تبنيها مراكز البحث والدراسات، ووضع السياسات الإستراتيجية للعلاقات بين أبناء القارة الواحدة..
** ظل التفكير في العلاقات العربية الإفريقية، تفكيرا فوقيا، لا تشارك فيه الشعوب ولا الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني برمتها، فيما هذه الفعاليات، تعدّ اليوم العصب الحي، في إفريقيا وفي “العالم النامي”..
** السياسات العربية في إفريقيا، يغلب عليها طابع المبادرة الفردية لهذا النظام أو ذاك، فلم تتحول بعد إلى إرادة جماعية حقيقية لدى الدول العربية بمختلف مكوناتها وتعدد أنظمتها السياسية..
** رهان عديد الدول العربية على سياسة الإقراض وأسلوب المنّ على القارة، خصوصا من جهات ودول خليجية.. أموال تضخّ بدون استراتيجيات أو برامج، الهدف منها سياسي “بروباغندي” بالأساس، أو هو جزء من خطة المناولة التي يخطط لها الغرب، وتنفذها دول خليجية وعربية نفطية ثرية..
إنها أسباب رئيسية، يفترض أن تضع مشكل العلاقة بين العرب وإفريقيا، ضمن الأولويات الأساسية لدول المنطقة العربية، بغاية بناء استراتيجية “مصالحة” تاريخية بين الضفتين، ولا شك أن العرب، هم الأقرب تاريخيا وثقافيا ودينيا، فضلا عن العامل الجغرافي، من الكيان العبري وحلفاءه في الغرب، الذين نجحوا في وضع قدم راسخة في البيئة الإفريقية…
لكن هل معنى هذا، أن الطريق إلى وجود إفريقي في استراتيجيات العرب، أو العكس أيضا، أمرا صعب التحقق في المرحلة الراهنة، وبخاصة في ضوء التحولات التي تشهدها دول الربيع العربي، وفي ظل المخاض الديمقراطي الذي تمر به دول إفريقية عديدة جنوب الصحراء ؟
بعبارة أخرى : هل يمكن لمخاضات الثورات العربية أن تؤدي إلى “تقارب” جديد، ينأى بدول القارة الإفريقية برمتها، عن الاستمرار فيما يسميه البعض
بــ “القطيعة المفتعلة” بين طرفيها ؟ وهل يعاد التّفكير في خريطة المصالح الإستراتيجيّة العربيّة ـ الإفريقية، على النحو الذي يفتح أفقا جديدا لمستقبل القارة الإفريقية بشطريها الشمالي والجنوبي؟

مستقبل متشابك

في الحقيقة، تؤكد الدراسات الإستراتيجية، سواء التي تعدها جهات إفريقية أو عربية، فضلا عن منظمات العمل المشترك، خصوصا “منظمة الوحدة
الإفريقية”(5)، أن مؤشرات كثيرة، تجعل الفضاء الأفرو ـ عربي، مهيئا لتحولات مهمة، بحكم توفره على مشتركات لافتة للنظر، يمكن اختزالها في المعطيات التالية :
+ في مستوى الموقع الجيوبوليتيكي، تتوسّط إفريقيا قارات العالم القديم، فموقعها جغرافي/ استراتيجي متّصل بالبحر الاحمر والخليج العربي، ومساحتها 30 مليون كلم² ، أي ما يعادل 20 % من مساحة الأرض، وعدد دولها 54 دولة، ونسبة سكانها يناهز مليار نسمة.
أما الوطن العربي، فيمتدّ بين قارات ثلاث، ممسكا بأهمّ المضائق البحرية والممرات المائية، إذ يبلغ طول السواحل العربية 12000 كلم، تفرض نفسها على التجارة العالمية.. ومعنى ذلك، أن موقع الضفتين، يساعد على تأسيس عمل مشترك، وفتح معابر، من وإلى قارات العالم…
+ شمال إفريقيا وغرب الوطن العربي يؤثران في أمن البحر الابيض المتوسّط وخطوطه التجارية (مضيق جبل طارق)، بالإضافة إلى تأثيره على المداخل الشمالية من قناة السويس، بما يجعله محددا لأمن البحر الاحمر وخطوطه التجارية..
+ أنّ الامن العربي والأمن الافريقي يشكلان مظلّة أمنية واحدة للقرن الإفريقي، بفضل موقع الصومال وجيبوتي المطلّة سواحلهما على البحر الاحمر وخليج عدن، وللبحيرات الكبرى في افريقيا الوسطى بفضل الموقع الجغرافي للسودان ودول المغرب العربي.
+ خمس سكّان الوطن العربي يعيشون بأقلّ من دولارين في اليوم الواحد، ونسبة البطالة تصل الى 15 %، والحاجة تقدّر ﺒـ 40 مليون فرصة عمل خلال السنوات الخمس القادمة، وفي تصنيف الامم المتّحدة ثمّة 34 دولة إفريقية، من الدول الاقلّ نموّا في العالم، ما يجعل التعاون الإفريقي العربي، أحد أهم الحلول لفرص العمل في هذه القارة الممتدّة الأطراف..
+ تحتاج إفريقيا ـ بوصفها مخزونا زراعيا هائلا، إلى النفط باعتباره يشكّل مادّة أساسية لصناعة الأسمدة، وبالتالي لتطوير الزراعات وتحسين الانتاج وزيادة المحاصيل وتوفير الغذاء لدول القارة وشعوبها.. الغريب في الأمر، أن النفط الإفريقي يشكل حوالي 10% من احتياطي النفط العالمي، فيما يمثل النفط العربي نحو 63 % من الاحتياطي العالمي، والدول العربية تنتج ما نسبته 38 % من الانتاج العالمي، لذلك فإن الالتقاء بين العالم العربي وإفريقيا، من شأنه ضمان الأمن الغذائي للقارة بأسرها..
+ الغاز الافريقي يشكّل 8 % من احتياطي الغاز العالمي، 75 % منه موجود في نيجيريا والجزائر ومصر.
+ تمتلك إفريقيا 4 آلاف كلم³ من مصادر المياه العذبة أي ما يعادل 10 % من مصادر المياه في العالم، فيما دول الجوار العربي تسيطر على منابع المياه داخل الحدود العربية بنسبة 60 %، واللافت للنظر، أن من بين هذه الدول، نجد أثيوبيا وغينيا والسنغال وكينيا وأوغندا فضلاً عن تركيا..
وإذا أضفنا إلى ذلك، أن إسرائيل التي تراهن على منابع المياه استراتيجيا، تعتبر أن إفريقيا، ساحة من ساحات ادارة الصراع مع العالم العربي، أدركنا الحاجة الى تفاهمات استراتيجية سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية مع الدول الافريقية المعنية، لمواجهة الشحّ في مصادر المياه العربية ومعالجة التصحّر وتضييق الفجوة القائمة بين الموارد المائية المتاحة والحاجات الراهنة والمستقبلية، فضلاً عن عدم تمكين اسرائيل من توظيف هذا المخزون في صراعها مع العرب (6).
+ إلى جانب النفط والمياه، تنتج إفريقيا 80 % من بلاتين العالم، و40 % من الماس، و20 % من الذهب، بالإضافة إلى إنتاج النحاس واليورانيوم والحديد والفوسفات (المغرب يمتلك 70 % من احتياطي الفسفاط العالمي)، وهو ما يوفّر إمكانات كبيرة لقيام تكامل اقتصادي عربي / إفريقي يمكن أن يكون الأضخم في العالم.. يضاف إلى كل هذا، أن إفريقيا التي تعدّ خزّان العالم من الموارد الطبيعية والموادّ الأولية، تشهد الآن موجة قوية من الاستثمارات العالمية، إذ باتت محطّ تنافس استثماري دولي، وبدأت تكتسب بعداً استراتيجياً لاقتصاديات الصين وأميركا وروسيا وبعض الدول الأوروبية..
ويرى مراقبون، أن الفرص أمام المستثمرين العرب، باتت متاحة، لكي تتجنب دول القارة الإفريقية، تكديس ثروتها في المصارف الأجنبية خصوصا أمام مخاطر تهديدها بالتجميد أو المصادرة..
+ ولا ينبغي للمرء أن ينسى، الموقع الجيوبوليتيكي لدول القارة الذي يستقطب اهتمامات وأطماع وسيناريوهات إقليمية ودولية مختلفة.
+ ثمة كذلك، القوّة العددية في المحافل الدولية، خصوصا في الجانب الدبلوماسي حيث تتوفر دول القارة مجتمعة على مئات السفراء والهيئات الدبلوماسية والخبراء لدى هيئات ومنظمات ولجان ناشطة على الصعيد الدولي..
+ الامكانات الاقتصادية والديموغرافية، سيما من حيث العرض والطلب والإنتاج والاستهلاك وإمكانات التصدير باتجاه شعوب وقارات عديدة..
إن العوامل التي أتينا عليها في الفقرات السابقة، لا تشير إلى ضرورة التعاون الاستراتيجي فحسب، إنما هي تدعو العالم العربي وإفريقيا، إلى توخي سياسة “التشبيك” في علاقاتهما، لأن ما يحتاج إليه كل طرف، متوفر في الطرف الثاني، وما تتطلبه دول إفريقية، تبدو أنظمة وشعوب عربية في أمسّ الحاجة إليه.. ولعلّ عبارة “المصير المشترك” التي تتردد في كتابات عديد المحللين والدارسين لشأن القارة الإفريقية، ليست ترفا فكريا، بقدر ما هي ضرورة لا مندوحة عنها لكل المنطقة الإفريقية، شريطة أن يكفّ العرب عن تلك السياسات المتكلسة، الموروثة عن الأنظمة الإستبدادية، والتي تتعامل مع إفريقيا بخلفية أمنية استخباراتية، أكثر من التعاطي معها بعقلية “المغانم المشتركة”، المبنية على الشراكة الدائمة ..

أطماع وتحديات

وربما تزداد الحاجة إلى ما أسميناها بعملية “التشبيك” و “المغانم المشتركة”، إذا ما نظرنا إلى جملة التحديات التي تواجه دول القارة الإفريقية، وهي تحديات لا تميّز بين من هو في الضفة الشمالية ومن يتموقع في الشطر الجنوبي..
ـــ فهناك الأطماع والمؤامرات الخارجية وعدم الاستقرار السياسي والأمني والنزاعات الأهلية..
ـــ وثمة معدّلات النموّ الاقتصادي والنمو السكّاني التي تتراوح ما بين 3
و4 %، فيما القارة تزخر بالموارد والإمكانات الطبيعية والبشرية، التي تؤهلها لأرقام أفضل في مجال التنمية والتقدم الاقتصادي..
ـــ التحوّلات الديمقراطية التي تشهدها القارة منذ بضع سنوات، بما يجعل الاستقرار السياسي، والتطور الاقتصادي والتنموي، أحد أهم روافد نجاحها واستمرارها وعدم الالتفاف عليها..
ـــ التهديدات الامنية بمنطقة الساحل، وتنامي الحركة الإرهابية لما يعرف
بـ “الدولة الإسلامية” (داعش)، التي غيرت الصورة والمعادلة وأفق الصراع، وربما اتجاهات العلاقات الدولية (7)..
هذه التحديات، تجعل العالم العربي وإفريقيا، ينظر كل منهما إلى الآخر، على أنّه رافد أساسي من روافد نموّه الاقتصادي وقوّته الجيو ـ سياسية والأمنية على المستويين الاقليمي والدولي.
ولا شكّ أنه في ظلّ التنافس الدولي الاميركي والصيني والروسي الطامع في خيرات إفريقيا، يكون التكامل الاستراتيجي المحتمل، عاملا رئيسيا في الحدّ من هذه الاطماع التي بدأت تجلّياتها في السودان، وهي مرشّحة للانتقال الى الجزائر ونيجيريا وأنغولا لأهمية هذه الدول النفطية في استراتيجيات السيطرة على مصادر النفط.

خلاصات وآفاق

ما المطروح اليوم حينئذ، لتعويض سنوات التباعد بين شطري القارة الإفريقية، والبناء على المشترك في مستويات الوضع الراهن والمصير والعلاقات الإستراتيجية ؟
في تقدير مركز الدراسات الاستراتيجية ووضع السياسات (8)، المطلوب لتجسير الفجوة القائمة، سواء كانت بإرادة صناع القرار في إفريقيا، أو بدون إرادتهم، هو العمل وفق التوجهات التالية على الأقل :
*** إعادة التّفكير مجدّدا في مفهوم الأمن القوميّ العربيّ ومجاله الحيويّ بعيدا عن حسابات “المافيات الحاكمة”، وارتباطا بهاجس بناء علاقات تعاون إستراتيجيّ، سياسيّ واقتصاديّ وأمنيّ ومائيّ مع منطقة القرن الإفريقي، بما يجعل الأمن القوميّ العربيّ، يبدأ من إفريقيا، ومن هناك يمكن أن يشرع في التأسيس لمصلحة الأجيال العربيّة المقبلة.. فلا بدّ حينئذ، من العمل على وضع تصوّرات مشتركة عن الأمن في أرجاء القارة الإفريقية، بالنّظر إلى التّهديدات الداخليّة والخارجيّة، التي هي مشتركة أيضا بين العرب والمنطقة الإفريقية.
***ضرورة عقد مؤتمرات تتجه نحو المستقبل لرسم خطوط التّعاون بين العرب وإفريقيّا، بالاستناد على الأهمّية الجيو- استراتيجيّة للمنطقة في علاقة بالمصالح العربية (9).
هكذا يبدو العالم العربي، بحاجة ماسة لاستثمار علاقته التاريخية بالقارة الإفريقية، والانطلاق منها لملامسة الفرص المتاحة أمامه للتعامل مع إفريقيا،
كـ “ممكن واقعي” وليس كـ “ممكن ذهني”، كما يقول ابن خلدون في مقدمته البليغة.. بعبارة أخرى، مطروح على العالم العربي، أن يجعل من إفريقيا، رقما مهما في معادلاته الإستراتيجية، بعد أن ضيعت الجغرافيا الاستعمارية، والحسابات الضيقة للأنظمة العربية المستبدّة، والسياسات القاصرة في مجالات التنمية، هذه الفرص على امتداد العقود الأربع الماضية..
إن إفريقيا الناهضة، “تمثل للوطن العربي اليوم وغدا، الامتداد والعمق الاستراتيجي الحيوي، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، بما تملكه من طاقات وثروات طبيعية قابلة للاستثمار والتنمية المشتركة، مثلما كانت بالأمس تمثل الظهير المساند لقضاياه، بل والشريك الرئيسي له في نضاله ضد العدوان الصهيوني والهيمنة الاستعمارية”(10)..
إن إمكانات التعاون والالتقاء بين ضفتي القارة الإفريقية، أكثر من عوامل التباعد أو النفور، بل إنه لم يعد مسموحا للجانبين، الاستمرار في حالة الارتخاء التي يعانيها كل شطر إزاء الآخر..
فهل يستوعب العالم العربي هذه الحقيقة، ويحوّلها إلى سيناريو للشراكة المستدامة مع دول القرن الإفريقي ؟
إنه السؤال المركزي المطروح على صناع القرار في العالم العربي، وخاصة في دول ثورات الربيع العربي، التي يفترض أن تكون سباقة في إعادة صياغة العلاقات السياسية والدبلوماسية، على نحو يستجيب لاستحقاقات هذه الثورات ومقتضيات التحول في المجتمعات العربية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) نحن هنا سنعتمد التقسيم بين الشطرين من القارة “إجرائيا” فحسب، لأن قناعتنا لا تذهب في اتجاه هذا التحليل، لا من حيث العلاقات التاريخية، ولا من جهة المعطيات السياسية أو حتى مجالات التعاون بين ضفتي القارة منذ عقود عديدة..
(2) “التجديد العربي” (موقع إلكتروني)، في دراسة بعنوان : الإستراتيجيا العربية ونقاط القوة في التكامل الاستراتيجي العربي / الإفريقي، للدكتور ياسين عساف، بتاريخ 10 فبراير 2015..
(3) تغيرت المعطيات بعد نحو أربعين عاما من ترهل العلاقة العربية الإفريقية، بحيث عرفت إسرائيل كيف تخترق الدول الإفريقية وتتمركز فيها في مستويات مختلفة، اقتصادية وتربوية وثقافية ودينية وغيرها، فقد أكد تقرير الحكومة الإسرائيلية لعام 1999 والذي يصدر عن وزارة الخارجية، أن لإسرائيل حاليا علاقات دبلوماسية مع 42 دولة إفريقية..
(4) القمة العربية الإفريقية الأولى التأمت في القاهرة العام 1977، وانعقدت النسخة الثانية من هذه القمة، سنة 2010 في ليبيا، فيما كان الموعد مع القمة العربية الإفريقية الثالثة، في الكويت العام 2013..
(5) منظمة الوحدة الأفريقية تأسست في العام 1963، وضمّت أنذاك، عشر دول عربية.. توقّف عملها لأسباب متعددة منها الصراعات والحروب الاهلية.. استبدلت في أوت من العام 2002 بـ “الاتحاد الافريقي”..
(6) عبد الله عبد السلطان: البحر الأحمر و الصراع العربي الإسرائيلي/ مركز دراسات الوحدة العربية – ص 192 .
(7) جريدة “لوفيغارو” الفرنسية بتاريخ 5 ديسمبر 2014..
(8) ندوة نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة
من 27 إلى 29 نوفمبر 2011..
(9) خطة عمل الشراكة الإفريقية العربية (2011 – 2016)، عن القمة الإفريقية العربية الثانية المنعقدة في سرت (الجماهيرية الليبية) في أكتوبر من العام 2010..
(10) ممدوح طه/ موقع “التجديد العربي” (مرجع سابق)، بتاريخ 22 نوفمبر 2013.

عن مركز الدرسات الاستراتيجية والدبلوماسية .

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *