تتجه الأنظار هذه الأيام صوب مصر الكنانة، لمراقبة حدث الانتخابات البرلمانية الأولى في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاستكمال بناء المؤسسات الدستورية المصرية. وخلال اليومين الماضيين، ازدحمت شاشات الفضائيات المصرية “بعويل” الإعلاميين، وضيوفهم من فاعلين وخبراء سياسيين وأكاديميين، تنديدا وتهديدا من آثار الانخفاض الشديد في نسبة المشاركة في الانتخابات، محاولين حصر أسباب وتداعيات عزوف المواطنين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، مقارنة بما كان عليه الأمر في الاستفتاء على الدستور، والانتخابات الرئاسية.
للمزيد: مصر: إقبال ضعيف يرخي بظلاله على الانتخابات البرلمانية
وللإنصاف، وتحريا للدقة، من المفيد التذكير بجملة من الحقائق، ربما أهمها:
- إن ظاهرة عزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات هي ظاهرة عربية عامة، ولا تخص المصريين دون غيرهم.
- إن انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات المصرية لا تخص انتخابات دون غيرها، حيث لم تتجاوز إلا نادرا عتبة نصف المسجلين في اللوائح الانتخابية.
- إن الرقم القياسي في انخفاض نسبة المشاركة بعد ثورة يناير، تحتفظ به انتخابات مجلس الشورى عام 2012، الذي تقاسمه حزبا العدالة والتنمية (الإخوان المسلمون) وحزب النور السلفي، وبلغت 12.9 بالمائة.
- إن محافظات المرحلة الأولى تتميز بقلة اهتمامها بالاستشارات الانتخابية دائما، وهو ما تكرر هذه المرة أيضا.
وبعيدا عن هذا اللغط، لنوسع دائرة النقاش لتستوعب طرح أسئلة بديهية للمواطنين وإن كانت صادمة للنخبة: لماذا يأتي المواطنون أصلا إلى هذه الانتخابات أو تلك؟ هل تعتقدون أن المواطن البسيط يفهم “لغوكم” عن السلطة التشريعية، ومهمة رقابة الحكومة، ودوره في اختيار من يمثله، وغيرها من العناوين النمطية التي تعتبر بالنسبة للنخبة من قبيل المسلمات؟ لماذا في ظرف شهر واحد، يذهب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية المغربية قرابة 54 بالمائة من المواطنين، ولا تسجل الانتخابات المصرية نصف هذا العدد؟
للمزيد: حصاد: نسبة المشاركة53,67%..و” البام” أولا و”الاستقلال” ثانيا
إن ربط هذه الأسئلة ببعضها البعض كفيل بتلمس ملامح الإجابة، التي لا تكفي المبررات التقنية للإجابة عليها، من قبيل: اتساع الدوائر الانتخابية، عدم معرفة الناخبين بالمرشحين، عدم توضيح آليات الانتخاب للمواطنين… الخ. إن عزوف الناس عن المشاركة في انتخابات هذا البلد أو ذاك يعكس بوضوح حالة شك عميقة بين المواطنين والدولة (رئاسة وحكومة)، والأحزاب، والنخب السياسية والفكرية والإعلامية، بل ومجمل العملية الانتخابية برمتها. كما أنها تلصق على الحائط حقائق حارقة: لا نثق بجدوى دور السلطة التشريعية، ولا نفهم كون النائب بيده تحسين مستوى معيشتنا، ونعتقد أن العملية برمتها هي صراع بين أفراد يبحثون عن الحصانة البرلمانية أو الوجاهة أو الدخل السهل أو أي سبب آخر غير تحقيق مصلحة المواطنين.
إن حياة سياسية لا قيمة فيها للأحزاب، مثلما هو حاصل في مصر الآن، حيث تتصدر قائمة “مقربة” من الرئيس السيسي تضم خليطا من “الوجهاء” بشكل يتجاوز جميع الأحزاب المائة والثلاثة عشر!!! لا يستقيم أن تتمتع باستشارة انتخابية سليمة، وليست مؤهلة لاستقطاب اهتمام الناس، هذا إضافة لكون الحياة السياسية تستثني مكونا سياسيا مهما، شئنا أم أبينا ألا وهو الإخوان المسلمين، الذين، مع ذلك، لو أتيح لهم المشاركة فلن يسهموا في الرفع من نسبة المقترعين بما يتجاوز الضعف. لهذا، وفي ظل حياة سياسية مستقرة مثل تلك التي يتمتع بها المغرب استثناءا بين أقرانه العرب، وجدنا مشاركة تتجاوز النصف بقليل، وهي نسبة تماثل معايير المشاركة العالمية، حيث مهما صنعت الدول فسيظل هناك ممتنعون عن المشاركة، غير مؤمنين بجدواها في كل ركن من أركان هذه الأرض.
آن الأوان، لأن تهتم النخب السياسية والفكرية والإعلامية بتوفير شروط ممارسة سياسية سليمة، بدل الاهتمام “بشكليات” العملية الانتخابية وتقنياتها، وأن يستبدل رهان الحصول على شهادة “تأهيل ديمقراطي” من قبل لجان مراقبة الانتخابات الدولية والعربية، برهان التوفر على حياة سياسية صحية ومتكاملة، تتنافس فيها بحرية وتعبر عن آرائها بدون خوف أو إقصاء، مختلف التيارات الموجودة في المجتمع، من أجل الوصول، عبر البرامج الواقعية المضبوطة، إلى الطريقة المثلى التي تحقق مصالح المواطنين، بعيدا عن منطق الاستقواء والغلبة. عندها فقط يمكن لأي بلد أن يأمل في جذب ما يقرب من ثلثي مواطنيه لصناديق اقتراع، ممن يؤمنون حقيقة أنها ستساعدهم في الوصول إلى حياة أفضل لهم ولأبنائهم.
إقرأ أيضا: العسيبي: ربح المغرب، وخسر اليسار في الانتخابات المحلية