1ـ البيئة العامة:
لقد كانت منطقة الغرب الإسلامي، بما عرفته من تطورات اجتماعية و فكرية، مجالا سمح ببروز تجربة التصوف بها منذ أواخر القرن الهجري الثالث، متبلورة في مذاهب و طرق متباينة أشهرها ” المدينية” (نسبة إلى أبي مدين الغوث) و مركزها بتلمسان، و مدرسة ” ألمرية في بلاد الأندلس، و قد شكل القرن السابع الفترة الذهبية في مسير التجربة الصوفية في المنطقة، حيث برز أقطاب مشهورون، في مقدمتهم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي (ت 638هـ)، و أبو الحسن الششتري (ت668هـ)، و عبد الحق بن سبعين (ت 669هـ)، و قد نهل هؤلاء من المعين الحضاري و الثقافي الأندلسي، قبل أن يشدوا الرحال إلى بلاد المشرق، تفاعلا مع طقوس السفر الذي يعد ركيزة صوفية، و تعاطيا مع الوضع السياسي و الاجتماعي القائم في أثناء تدهور دولة الموحدين، فكانت أرض الكنانة و الحجاز و الشام مجالا لتبلور معطياتهم العلمية و الروحية، و قد اشتهر ابن عربي و الششتري بتضلعهما في الإبداع الشعري الصوفي، حيث أنتجا شعرا يحبل بالمقومات الفنية المؤسسة للجمالية الشعرية، و المعبرة في الآن ذاته عن مواقفهما الوجودية و المعرفية، إلا أن الواحد منهما كان متميزا بطابعه الخاص، و لا شك أن الثاني قد أخذ من تجربة الأول و عمل على تطويرها و تجاوزها، في إطار مشروع تواصلي يستثمر الشعر التقليدي و الموشح و الزجل بهدف أساس هو مراعاة شروط التلقي، و تنويع وسائل التخاطب وفق التجربة الإبداعية في الأندلس المتميزة بالتجديد، و الارتباط الشديد بين الإبداع و عالم الموسيقى و الطرب.
2ـ القيمة الإبداعية للزجل الصوفي:
من الراجح أن يكون الزجل قد استحدث في الأندلس لمواكبة روح المجون و التغزل و اللهو و مع ذلك فقد نقله الششتري و غيره من بعده إلى عالم التصوف لخدمة أهداف تعبوية بحكم قربه من الذوق العام المستند إلى اللغة المتداولة، و قد اعتمد في ذلك على تجربة ” ابن قزمان ” الزجلية الرائدة، مشكلا قفزة نوعية على مستوى التعبير استحق بها أن يكون ” أستاذ الزجل الصوفي، و إمامه المنفرد فيه من غير منازع، فقد أخضعه لآرائه و أفكاره، و عبر به أدق تعبير عن أعمق المعاني الصوفية، و صور فيه مراحل تطوره الروحي، و نزل به إلى العامة في الأسواق و الطرقات، فتداولوه بينهم و أنشدوه في حلقاتهم”[1]، لقد أضاف الششتري ـ إذن ـ إلى قيمة زجله الإبداعية، ظاهرة فريدة في عملية الإلقاء الشعري، و هي الإنشاد في الأماكن العمومية في طقوس تجوال مثيرة، تعكس الرغبة في توسيع دائرة التواصل، و لعل من مظاهر الإبداع التي ساهمت أيضا في ذلك، ما أعطاه لزجله من عناية بالمقومات الموسيقية من نظم و إيقاعات، مستثمرا ما يتيحه هذا النوع من تباين في الأوزان و القوافي بين الأبيات و الأقفال فضلا عن اعتماد اللازمة في كثير من الأحيان، بحيث تسهم في إغناء الطابع النغمي و الغنائي للزجل، و ذلك ما يمكن أن نتذوقه في النموذج التالي[2]:
و شربي معو بالكاس
و الحضرة مع الكلاس
و حولي رفاق أكياس
قد شالوا الكلف عني
قولوا للفقيه عني عشق ذا المليح فني
أي مذهب تدريني
الشريعة تحييني
و الحقيقة تفنيني
و اعلم أني سني
قولوا للفقيه عني عشق ذا المليح فني
و اعلم أن ليس في الدار
غيرك فاقطع الأخبار
و ادخل معي المضمار
أو مر لا تصدعني
قولوا للفقيه عني عشق ذا المليح فني
فدعني من وهمك
فأنت غلام نفسك
هذا الكون هـ دار نومك
استيقظ ترى حسني
قولوا للفقيه عني عشق ذا المليح فني
3ـ القيمة المعرفية:
إن نظرة عامة في أشعار الششتري ـ خاصة أزجاله ـ يجد أنها أشعار بسيطة و سهلة في ظاهرها، رغم وجود مصطلحات و تعابير صوفية كثيفة بدلالاتها الرمزية الخاصة، مما ينم عن قدرة فائقة على مفاعلة التصوف بالإبداع، بحيث لا تطغى الكثافة الفنية على المضمون التعبيري التواصلي أو تطغى القصدية التخاطبية على رونق الإبداع و شعريته.
و إذا كانت المعاني الصوفية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجربة الخاصة للتصوف، فإن اللافت للنظر أن تجربة الزجل الصوفي لا تنفصل تماما عن سيرورة الشعر العربي من حيث المضمون، فقد حاول الزجالون استثمار الإمكانات التواصلية التي تتيحها أشعار الغزليات و الخمريات بشكل أساسي، لما تتوفر عليه من طاقات تأثيرية على النفس البشرية. هكذا وجدنا الزجل الصوفي مبنيا على معاني الغزل العفيف و الصريح، موظفا أسماء المحبوبات و قصص العشق المتواترة في الشعر العربي، و في طليعتها قصة ” ليلى و المجنون ” في محاولة لاستدراج المخاطب إلى تجربة روحية خاصة، لا تنتهي إلا عند أرقى درجات العشق، و هي الفناء في المحبوب، فليلى تجاوزت كونها كائنا ماديا أو مثاليا إلى عالم الرمز المعبر عن الوحدة الوجودية المطلقة في قالب غزلي، يشكل ” قيس” طرفا رئيسيا فيها حيث انتهى به عشقه لليلى إلى الجنون، وهو ما رمز به المتصوفون إلى ما يلم بهم من أحوال الوجد و الجذب، إن شخصية قيس بطابعها الجنوني إنما كانت خلقا صوفيا خالصا، و رمزا للمحب الذي فني عن أوصافه و ذاته، و ذهل عن مألوفه و أخذ عن عادته “[3] ، فقيس الصوفي شخصية مجنونة اتحدت بمحبوبها ( ليلى) فأصبح الاثنان واحدا، و عبر المتصوفة عن هذه الوحدة بعبارة مأثورة أنطقوا بها قيسا هي قوله ” أنا ليلى” ، و ما ورد في ذلك ما جاء عن عز الدين عبد السلام، أنه سئل المجنون ” أتحب ليلى؟” قال لا، فقيل له كيف؟ فقال لأن المحبة ذريعة الوصلة و قد سقطت الوصلة بيني و بين ليلى، فأنا ليلى و ليلى أنا “[4]، و هذه الفكرة هي التي عبر عنها الششتري شعرا من قصيدة جميلة[5]
أسفرت يوما لقيس فانثنى ××× قائلا يا قوم لم أحبب سواي
أنا ليلى و هي قيس فأعجبوا ××× كيف مني كان مطلوبي إلي
و هي إشارة لطيفة إلى مبدأ الوحدة الوجودية المطلقة الذي يعد دعامة التصوف الإعتقادي.
و كما هو الشأن بالنسبة للغزل، شكلت الخمريات مجالا رمزيا لطقوس التصوف، حيث ارتبطت الخمرة و السكر بدرجة رفيعة من السمو المعرفي و الوجودي “… و السكر لا يكون إلا لأصحاب المواجد، فإذا كوشف العبد بنعمة الجمال، حصل السكر، و طاب الروح و هام القلب “[6]، لذلك فإن السكر بما يعنيه من فناء و ذوبان في الحق يعكس درجة معرفية تتجاوز الحدود و المعارج إلى التعبير عن فلسفة وحدة الوجود، يقول الششتري في مقطع زجلي.[7]
ما نجد خليعا مثلي حرقته الكاسات و الأدنان
معتكف في جامع أزهر مختل في شق تعبان
و بقيت عاشق مهتك ننظم الزجل و الأوزان
و في حرابي إبريق فيه خمرة معنويا
و جعلت السكر دأبي و هويت العشق غيا
من يكن مثلي محقق و يرى جمع المشاهد
ينظر الكاسات و الأدنان و الشراب و الكل واحد
و لا ينهل ذا المناهل و يرى ذي الموارد
إلا من أفنى وجوده و لا خلى فيه بقيا
و نفى عنه الخواطر و جلا صقل المريا
مذ فنى عني وجودي و فناي عين بقاي
و انجلت لي الحقيقة و انكشف عني غطاي
و ارتفع عني حجابي ما رأيت في الكون سواي
واضح إذن من هذا المقطع، و من النص السابق، كيف يعمل الششتري على جعل عملية السكر طقسا دينيا روحيا، عاديا، و ضروريا، دون أن يأبه إلى ما يثيره ذلك عند التيار الفقهي من خلال تركيزه على
” قولوا للفقيه عني ” و جعله لازمة تتردد في القصيدة، في إطار نوع من التحدي للفقه الذي تقف حقيقته عند الظاهر، و لا تتجاوزه إلى باطن الشريعة بكؤوسه و دينانه و إبريقه، وفي كل ذلك إشارات عميقة إلى سعيه نحو الوصول إلى حقيقة أن ” الكل واحد “عبر تحقيق الشروط المطلوبة و هي الغناء الوجودي و رفع الحجاب
إن القيمة المعرفية للزجل الصوفي تتجسد في كونه يحمل معاني و أفكار التصوف المعبرة عن الوحدة الوجودية في طابع بسيط، قريب من ذوق العامة، يستثمر القوة التأثيرية للغزليات و الخمريات، كما كان ارتباطه بطقوس إنشادية و موسيقية عزز طابعه التداولي و إمكاناته التواصلية نحو أوسع الشرائح الإجتماعية
هوامش
……………………
فوزي عيسى سعد، الموشحات و الأزجال في عصر الموحدين، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1990 ص 168[1]
ديوان أبي الحسن الششتري، [2]
عاطف جودت نصر، الرمز الشعري عند الصوفية، دار الأندلس، ط3/ 1993 ص 134[3]
انظر، رمز الخمر في شعر ابن الفارض، محمد يعيش، رسالة ماجستر في الآداب، جامعة القاهرة، 1988 ص 285[4]
ديوان أبي الحسن الششتري[5]
عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دارالجيل، بيروت، ط2/ 1990 ص 72[6]
الديوان[7]