بقلم: هيثم شلبي
جريا على عادته، خرج الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في لقاء صحفي بشعارات ووعود اختبر الجزائريون صدقها سابقا، كما لو كان مرشحا للانتخابات وليس رئيسا يحتل الواجهة المدنية للنظام العسكري منذ ست سنوات!! دعاية تبون التي هي في حقيقتها تكرار لنفس ما قاله عشرات المرات قبل ذلك، دون أن يصدق في أي منها، تدور -كما جرت العادة- في ساحة الاقتصاد الذي “سيتفوق على نظيره الصيني” قبل نهاية ولاية الرئيس الملهم؛ حيث كرر خرافات رصيد العملة الصعبة وانتعاش الموارد البترولية، وطفرة الصادرات غير النفطية، والارتفاع الصاروخي للناتج الداخلي الخام، دون أن ينسى طبعا الدعاية الأثيرة على قلبه (بجانب كذبة صفر ديون خارجية) المتعلقة بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب، دون أن ينطق ببنت شفة عن القمح اللين!
توقيت الخرجة الصحفية، وكم الشعارات الكذابة التي تم ترويجها فيها، مثيران للاهتمام، حيث تأتي خرجة تبون، في خضم التداعيات الكارثية لقراري الحكومة الأخيرة، المتعلقين ب “اختراع” المستورد الذاتي، ومنحه الحق في استيراد ما قيمته 24 ألف يورو شهريا، بشرط شرائها من السوق السوداء، وهو ما اعتبر تقنينا رسميا للتهريب وتبييض الأموال، وما تلاه من تفعيل لمنحة السفر التي تمنح كل جزائري بالغ، الحق في شراء 750 يورو سنويا (300 يورو للقاصر)، بالسعر الرسمي المقدر ب 150 دينار، وبيعه بعد أسبوع في السوق السوداء بقرابة ضعف السعر، وهو ما يشرعن تجارة العملة غير الرسمية وخارج أطرها القانونية، ويحول الجزائريين إلى باعة في “السكوار”. قرارات لم تسلم من سهام النقد داخليا وخارجيا، وتأتي خرجة تبون الأخيرة كمحاولة يائسة لحرف الانتباه عنها، باتجاه “شعار فارغ” يقول بأن الجزائر نجحت في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب في عام 2025، وقبل عام من الموعد المستهدف.
لماذا نقول أن الأمر برمته لا يعدو كونه “شعارات فارغة” على الرغم من اتفاق الجميع على أهمية أن يتمكن أي بلد من تحقيق الاكتفاء الذاتي في أي سلعة أو منتج يحتاجه من مأكل وملبس ووسائل معيشة؟! لقد أصدرنا هذا الحكم لعدة أسباب، قاسمها المشترك هو الدعاية التي أحاط بها تبون “هذا الإنجاز”. وقبل الخوض في تلك الدعاية، من المفيد التذكير ببعض الحقائق.
أهم هذه الحقائق هي أن الشفافية تغيب بالمطلق عن جميع ما يصدر عن مسؤولي النظام الجزائري -مهما علا شأنهم أو انخفض-. وبالتالي، فليس هناك أرقام موثوقة لا فيما يخص الصادرات، أو الواردات، أو التكلفة، الخ. الآن، الأرقام المتداولة عن واردات الجزائر من القمح تقول بأنه يستورد ما قيمته 2.7 مليار دولار من هذه السلعة سنويا. نفس الأرقام المتداولة، تفيد بأن حصة القمح الصلب منها هي في حدود 20% (80% من الواردات هي من القمح اللين)، بما يمكن تقدير كلفته في حدود 500 مليون دولار. وتفيد نفس الأرقام دائما، بأن الجزائر استورد قرابة 850 ألف طن من القمح الصلب في العام الفلاحي 2024-2025، وحتى لو قال أحدهم أن الاستيراد قد تم في 2024 ولا يناقض دعاية الرئيس المتعلقة بتحقيق الاكتفاء الذاتي هذا العام، فلا يوجد عاقل يمكنه التأكيد على أن هذا المليون طن تقريبا من الواردات قد تم استيراده واستهلاكه بالكامل في النصف الثاني من 2024، وأن العام الحالي لم يستفد من هذه الواردات ولو بحبة قمح! آخر هذه الحقائق “الصادمة” هي أن هناك أساسا قويا للشك في تحقيق الجزائر لهذا الاكتفاء، على اعتبار أنه تحقق -حسب الدعاية الرسمية- من جراء الاستثمارات القطرية والإيطالية ذات الصلة، علما بأن إنتاج المشروع القطري مخصص لتغذية أبقاره، وليس الجزائريين، كما أن إنتاج المشروع الإيطالي مخصص لصناعة المعجنات التي ينتجها، ولن يذهب للدولة! ناهيك أن إعلان تبون عن هذا الانتصار كان بسبب “موسم فلاحي جيد”، وهو الأمر غير الثابت نظرا لتباين الأحوال الجوية سنويا بسبب التغير المناخي. لهذا نقول، أن الإعلان عن تحقيق الاكتفاء الذاتي عن طريق جمع الأرقام الخاصة بإنتاج القمح الصلب، يحمل في طياته مغالطات كبيرة، ويجعله دائما في خانة “المؤقت” الذي يمكن أن ينهار عند أي موسم جفاف.
ثاني الدعايات المضحكة، روجت لهذا “الانتصار التبوني” لكونه سيوفر للبلاد عملة صلبة كبيرة!! هل توفير نصف مليار دولار من أصل واردات 2.7 مليار دولار هو أمر يستحق كل هذا الاحتفاء؟! ثم كيف نصدق أن النظام الجزائري حريص على توفير نصف مليار دولار من رصيد البلاد من العملة الصعبة، وهو الذي يخصص 25 مليار دولار كميزانية لوزارة الدفاع؟! أليس توفير شراء الأسلحة أكثر جدوى وأثرا إيجابيا على رصيد البلاد من العملة الصعبة؟! ثم ماذا بشأن الاكتفاء الذاتي من السكر والزيت والحليب والقهوة وباقي المواد الأساسية التي يقف ملايين الجزائريين في طوابير من أجل الحصول عليها؟! لماذا لا يذكرها تبون بكلمة في مؤتمراته الصحفية التي يقول فيها كل شيء، باستثناء ما ينفع الجزائريين! ما مصير الصفقة المليارية التي أعلن عنها مع أوغندا لاستيراد مسحوق حليب البودرة لحل مشكلة نقص الحليب السائل المزمن؟ لماذا ورغم مرور قرابة العامين على إعلانها لا زلنا نرى نفس الطوابير على الحليب دون أن ينقص منها أحد؟!
إن اعتماد النظام الجزائري على تحسين الواقع الاقتصادي للجزائريين “دعائيا”، دون الاهتمام بتحقيق أدنى قدر من التحسن في هذا الواقع فعليا، هو في حقيقته يأس من إمكانية تحقيق أي تحسين حقيقي، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، عجز وتخبط أمام سبل إحداث أي قدر من التحسن في أي من مناحي حياة الجزائريين، اللهم باستثناء “الرشاوى الاجتماعية”، على غرار القرارين الأخيرين، وما سبقهما كمنحة البطالة وغيرها. رشاوى لا تنجح في إحداث تحسن حقيقي لا في حياة الناس، ولا في اقتصاد البلاد، لسبب بسيط يتعلق بالطابع المؤقت والمسكن لهذه الإجراءات، ولا علاقة له بإحداث تحسين حقيقي في بنية الاقتصاد أو حياة الناس؛ بكلام أوضح، هو مجرد شراء للوقت، وتأجيل للحظة انهيار النظام!!
كخلاصة، في نظام شمولي عسكري من مخلفات الحرب الباردة، يصعب تصور قدرة أي حكومة على إحداث تحسن حقيقي في بنية الاقتصاد، أو بيئة عمل القطاع الخاص، أو تحقيق طفرة في الاستثمارات الخارجية، وهو ما يترجم بإحداث تحسن حقيقي في حياة الناس. وعليه، يمكن ببساطة تكذيب كل كلمة ينطق -أو سينطق- بها الرئيس عبد المجيد تبون بالاعتماد على حقيقتين، لا يحتاج أي جزائري لأن يكون أكاديميا من أجل لمسهما بيده: مشهد الجزائريين في طوابير المواد الأساسية، وإحصائيات الشباب الجزائري الذين يبحثون عن فردوس أوروبا عبر قوارب الموت!! أما ما عدا ذلك، فهو محض كذب وهراء، ولن ينقذ النظام -بأي شكل- من مصيره المحتوم.
مشاهد 24 موقع مغربي إخباري شامل يهتم بأخبار المغرب الكبير