بقلم: هيثم شلبي
جملة من التطورات المتلاحقة تتوالى بشكل متزامن على صعيد علاقة الصين بكل من الجزائر والمغرب، تفيد بأن سطح هذه العلاقات المتوازنة والهادئة ظاهريا، لن يستمر طويلا دون متغيرات دراماتيكية، تحسم خلالها الصين موقفها من الملف الخلافي الأبرز بين الجارين في الشمال الأفريقي، ونقصد ملف النزاع المفتعل حول الوحدة الترابية المغربية؛
وبكلام أوضح، الموقف من مغربية الصحراء. ولا يبدو الحديث عن الصين معزولا عن تطورات الملف داخل مجلس الأمن، حيث حسمت كلا من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا موقفها بالاعتراف الواضح والصريح بسيادة المغرب على صحرائه، لتتجه الأنظار إلى العضوين الدائمين المتبقيين: الصين وروسيا. ولأن النظام الجزائري لا يزال متمسكا بتحويل الصراع مع المغرب إلى “معادلة صفرية”، يصبح كل تطور إيجابي في علاقة الصين وروسيا مع أحد البلدين، سلبيا في نظر الطرف الآخر.
ولنبدأ من آخر التطورات التي شهدتها الساعات الأخيرة، والمتمثل في حديث السفارة الصينية في المغرب، عن “الرؤية المشتركة” للصين والمملكة المغربية، حول “أهمية الهوية الوطنية المغربية الواحدة، غير القابلة للتجزئة، بمكوناتها العربية- الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية”! تأكيد السفارة الصينية على أهمية المكون الصحراوي الحساني بالنسبة للملكة المغربية، لا يمكن أن يرد اعتباطا، لاسيما ونحن نتحدث عن صياغة دقيقة باللغة الدبلوماسية.
قبل هذه الإشارة، كان السفير الصيني بالمغرب قد تحدث بلغة أوضح في أكتوبر الماضي حول تفهم بلاده لأهمية الصحراء بالنسبة للمملكة المغربية، مذكرا بأن بلاده صوتت لصالح المغرب في جميع المحطات التي مر بها الملف في مجلس الامن خلال السنوات الأربع الماضية.
وبربط هذه التصريحات باختيار الرئيس الصيني شي جين بينغ التوقف “تقنيا” في الدار البيضاء في نوفمبر الماضي، ولقائه بولي العهد الأمير مولاي الحسن، في طريق عودته لبلاده من البرازيل، يمكن الحديث عن تطورات عميقة يشهدها الموقف الصيني تجاه القضية الصحراوية، سرعان ما سيتضح بشكل لا يقبل التأويل خلال الأيام القليلة المقبلة.
وبالنظر إلى الجانب الآخر، ونقصد علاقة الصين مع الجزائر، ماذا يمكن للمراقبين أن يسجلوا؟ ولنبدأ أيضا من آخر التطورات، والمتمثل في قرار النظام الجزائري بإنهاء “خرافة” الحديث حول “الميناء الأضخم أفريقيا”، أو ما يعرف “بميناء الحمدانية”. ميناء أنهى النظام الجزائري قبل أيام، العلاقة التعاقدية التي تجمعه مع الشركتين الصينيتين المكلفتين ببناء الميناء.
وبعيدا عن الخوض في أسباب القرار الجزائري الذي يمكن أن يكلف ميزانية الجزائر تعويضات ضخمة، فلا يمكن فصله عن قرار مماثل لشركتين صينيتين بالانسحاب من “خرافة” أخرى تتمثل في مشروع استخراج الفوسفات، الذي هلل له النظام الجزائري طويلا.
ولا تقتصر أهمية المشروعين “الاستراتيجيين” بالنسبة للجزائر على الدعاية الضخمة التي رافقتهما فحسب، بل لأن إنهاء المشروعين يعني انتهاء الحديث عن استثمارات صينية بقيمة ستة مليارات دولار للأول، وسبعة مليارات للثاني، وهو ما يزيد عن ثلث الاستثمارات التي لطالما اعتبرها عسكر الجزائر دليلا على عمق واستراتيجية علاقتهم بالشريك الصيني.
وإذا أضيف إلى المشروعين السابقين ما يدور حول انسحاب الشركات الصينية المساهمة في مشروع حديد “غار جبيلات” الذي يضرب النظام الجزائري عليه ستارا من التكتم، فلن نصل سوى إلى نتيجة واحدة لا ثاني لها: أن الصين وشركاتها الكبرى، قد قررت -لأسباب متعددة- الحد من تواجدها في الجزائر، مقابل تركيز استثماراتها في المغرب، لا سيما في قطاعات السكك الحديدية وبطاريات السيارات الكهربائية، والطاقات المتجددة والنسيج وغيرها من القطاعات المختلفة.
القراءة السياسية لهذا الانسحاب تشي بأن القيادة الصينية قد حسمت قرارها بخصوص الموقف من الوحدة الترابية المغربية؛ بينما توحي القراءة الاقتصادية بأن الشركات الصينية قد وصلت إلى قناعة راسخة باستحالة الاستمرار في الاستثمار والعمل في الجزائر، لعوامل يعلمها القاصي والداني.
التطورات السابقة تؤكد -لمن لا زال محتاجا لتأكيد- بأن الصين، الدولة العظمى عالميا، تراقب عن كثب الأوضاع في منطقة شمال أفريقيا، وبشكل أوسع الأوضاع في القارة الأفريقية، مستحضرة مختلف القرارات “الارتجالية” التي اتخذها النظام الجزائري تجاه فرنسا وإسبانيا، في أعقاب اعترافهما بمغربية الصحراء، وتابعت الخلط المريع بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي في علاقات الجزائر الخارجية، ناهيك عن متابعتها اللصيقة “من داخل” مجلس الامن” لتطورات ملف الصحراء، والتحولات الدولية المتلاحقة من هذا الملف، وهي بحنكتها لن تقبل أن تبقى مجرد “مراقب” لما يجري دون أن تساهم في صناعته. بكلام أوضح، لا يمكن للصين أن تنتظر الإقفال النهائي لهذا الملف أمميا قبل أن تقرر التحرك على ضوء المستجدات الدولية.
وعليه، اختارت الصين أن تستبق هذه التطورات، وتقف في “الجانب الرابح”، بعد أن تأكدت من خسارة النظام الجزائري، الفاقد للشرعية، لهذا النزاع المفتعل.
وبربط جملة المواقف والتطورات السابقة، يمكن القول بثقة، أن الموقف الصيني الجديد -ونظيره الروسي لاحقا- لا يترك مجالا للشك في نافذة الفرص المشرعة أمميا، من أجل إقفال هذا الملف نهائيا، واعتماد مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية سبيلا أوحد لتقرير المصير في هذه الأقاليم، وبالتالي، الإعلان النهائي عن هزيمة المقاربة الجزائرية لهذا الصراع الذي استمر لقرابة نصف قرن، وأهدر على البلدين والمنطقة المغاربية فرصا هائلة للتنمية والتعاون لما فيه مصلحة كافة شعوب المنطقة.
وما استمرار النظام العسكري في الجزائري في المكابرة وإنكار هذا الواقع، إلى دليلا على الفشل وانعدام البدائل، مع ما يترتب على هذا الفشل من نتائج داخلية ستترك لا محالة انعكاسات كارثية على مصير النظام نفسه.
كخلاصة، فإن اقتراب الصين -ومعها روسيا- من حسم موقفها من مغربية الصحراء، سيحرم النظام الجزائري من ادعاءاته بوجود حلفاء دوليين يعتمد عليهم في مواجهة الشعب الجزائري بالأساس، “والخصم” المغربي بدرجة تالية، ويكتب لا محالة، السطر الأخير في شهادة وفاة هذا النظام منتهي الصلاحية، مع ما يعنيه ذلك من فوائد للشعب الجزائري، والمنطقة المغاربية، ومجمل القارة الأفريقية والعالم!